الذكاء الاصطناعي لا يخيف الصحافي

على الصحافيين ألا يخشوا الذكاء الاصطناعي وهم يسألون أنفسهم هل نحن مهتمون بصناعة الأفكار المفيدة للقراء أم مجرد ترك الروبوتات تخمن ماذا نريد وتقترح علينا البدائل بغض النظر عن أهميتها.
الروائيون مثل الصحافيين عندما يتعلق الأمر بترك خيالهم إلى أنظمة الذكاء الاصطناعي
لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يعيد الدور التاريخي للخيميائي ويستبدل الصحافيين بإنجاز مواد بمحتوى جذاب وأفكار نيرة يعول عليها المجتمع

مثلما عوّل الخيميائيون من قبل على تحويل الرصاص إلى ذهب، وأثبت لاحقا أن ذلك ليس صحيحا وممكنا بالأساس، ليس صحيحا أيضا أن مستقبل صناعة القصص الصحافية والمقالات ستكون من بنية وكتابة أدمغة الذكاء الاصطناعي.

بدا الأمر في البداية وكأنه محاولة سحرية للحصول على الثروة، إلا أن المخلصين للفكرة العلمية للكيمياء فندوا ذلك في عصر النهضة. فالمعادلات الكيميائية تعمل وفق منطق رياضي وليس بالأمنيات التي يربطها الناس غالبا بتحويل التراب إلى معادن ثمينة وما تحمله من فكرة جذابة. الحصول على الذهب أمر رائع، لكن الهدف من علم الكيمياء أمر مختلف كليا.

والحصول على قصص صحافية ومقالات رأي عميقة من الأنظمة الرقمية فكرة رائعة، لكن لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يعيد الدور التاريخي للخيميائي ويستبدل الصحافيين بإنجاز مواد بمحتوى جذاب وأفكار نيرة يعول عليها المجتمع في علاقته التاريخية مع وسائل الإعلام.

على الصحافي ألا يتوقع من التكنولوجيا أن تفكر نيابة عنه من أجل جوهر الصحافة المخلصة لقيمها، مع أن الذكاء الاصطناعي قدم للعالم أشياء لا تصدق وأخرى كان من الممكن وصفها في الماضي بأنها سحرية، ذلك ببساطة لأنها كانت رائعة ولا يمكن تفسيرها. كان آخرها المقال الذي كتبه نظام للذكاء الاصطناعي ونشرته صحيفة الغارديان البريطانية.

فقد استجاب الروبوت GPT – 3 لطلب هيئة تحرير صحيفة الغارديان وكتابة المقال الافتتاحي، بعد أن قام بتدريب نفسه ليحاكي قدرة الإنسان على كتابة المقالات من خلال السماح له بـ”التجوّل” في الصحافة المتاحة على شبكة الإنترنت.

في كل الذي فعله هذا النظام الذكي أنه لم يفكر نيابة عن محرري الصحيفة بقدر ما استجاب لهم وتلك إحدى الجوانب المميزة للتكنولوجيا التي أصبحت متاحة للجميع.

لكن عندما يتعلق الأمر بالأفكار وليس الاستجابة للطلبات في كتابة القصص الصحافية والمقالات وفق أفكار الصحافي نفسه، فإن السؤال المهم هو هل الأنظمة الذكية ستفكر نيابة عنا كصحافيين وتقترح علينا كتابة القصص والمقالات والروايات والقصائد أم أنها تسهل علينا مهمة ترتيب وإنجاز الأفكار والمعلومات التي يتم تغذية الأنظمة بها؟

ذلك ما فعله نظام GPT – 3 في كتابة مقال صحيفة الغارديان الأخير عندما طلبت منه هيئة التحرير كتابة افتتاحية قصيرة من 500 كلمة. وأخبرته أن يجعل اللغة بسيطة وموجزة، وزودته بمقدمة تؤكد أنه إنسان آلي وليس بشرا.

لذلك على الصحافيين ألا يخشوا الذكاء الاصطناعي وهم يسألون أنفسهم هل سنبقى مهتمين بصناعة الأفكار المفيدة للقراء أم نترك خوارزمية الروبوتات تقرأ غرائزنا وتقترح علينا البدائل بغض النظر عن أهميتها.

الروائيون مثل الصحافيين عندما يتعلق الأمر بترك خيالهم إلى أنظمة الذكاء الاصطناعي، عليهم أن يسألوا أنفسهم هل هم مهتمون بالعنصر الخيالي في إعادة تشكيل العلائق سواء داخل اللغة أو في متن الحكايات المعبرة، أم يتركون الأنظمة الذكية تتخيل نيابة عنهم!

تيد تشيانغ أحد أهم كتاب الخيال العلمي البارعين طالما عبر عن عدم خشيته من الذكاء الاصطناعي، فالحديث عن الأفكار بالنسبة إليه يسبق أي شي آخر في مهمة الكتابة.

إريك لارسون مؤلف كتاب جديد يؤمل أن يصدر خلال أسابيع بعنوان “خرافة الذكاء الاصطناعي: لماذا لا تستطيع أجهزة الكمبيوتر التفكير بالطريقة التي نتصرف بها” ينتقد كثيرا “الروايات الكاذبة” حول الذكاء الاصطناعي التي تشير إلى أن الذكاء الفائق الآلي بات وشيكا إلى حد ما. ويرى المؤلف أن أنظمة الذكاء الاصطناعي التي يمكن أن تنجح وتحلق في مجال ضيق واحد لا تزال تواجه صعوبة في تحقيق نجاح في مجالات أخرى.

أندرو هيل أحد أهم محرري صحيفة فايننشيال تايمز تحدى روبوتا بعد أن جالسه على طاولة الطعام مع أنه لم يتناول حبة طماطم واحدة، أن يؤتى بأذكى إنسان آلي ليرى بعدها إن كان ما تنتجه تكنولوجيا “البصائر الآلية” يرقى إلى ما كتبه في تحليل الأخبار.

هذا التحدي من صحافي واثق من قدرته في صناعة أفكار تنطلق من جوهر مهمة الصحافة يدفع بقية أبناء مهنته ألا يخافوا على مستقبل مهنتهم ويستمروا في التفكير بكيفية جعل الذكاء الاصطناعي خارطة للطريق الصحافي وليس الطريق بحدّ ذاته.

اليوم تزداد المؤشرات المثيرة للاهتمام لإعادة التفكير في القدرة المطلقة المفترضة للتكنولوجيا وتأثيرها تحديدا على مهمة التفكير. ذلك ما عبر عنه لي فينسيل بدراسة مطولة نشرت مؤخرا على منصته الشخصية عن “الانزعاج” من المزاعم الدرامية والضجيج التكنولوجي عن كيف ستؤدي التقنيات الجديدة إلى تحولات مجتمعية هائلة في المستقبل القريب.

ووصف فينسيل الأستاذ في جامعة فرجينيا للتكنولوجيا الأمر بأنه أشبه بالاستعانة ببيانات إعلانية من الشركات التكنولوجية الناشئة وتغطيتها بمشاهد من الجحيم الذي ينتظر أعمالنا!

مع ذلك يوجد من يرى عكس ذلك في تفاؤل مفرط وهم يؤملون العالم بمشاريع شركاتهم في الذكاء الاصطناعي. فسام ألتمان الذي يرأس شركة أبحاث ذكاء اصطناعي، وصفته صحيفة فايننشيال تايمز بأنه أحد أهم المبشرين التكنولوجيين برؤيته بأن “يمكن أن يكون المستقبل رائعا بشكل لا يمكن تصوره تقريبا”، مسوغا ذلك بأنه لا شيء يمكن مقارنته بوصول “عمال” ذكاء اصطناعي لا يكلون ولا يملون سيخفضون بشكل جذري تكلفة جميع السلع القابلة للتداول. عندما تبدأ الروبوتات في اختراع روبوتات أفضل، سنحقق “قانون مور لكل شيء”، وليس فقط قوة الحوسبة.

غوردون مور أحد مؤسسي شركة إنتل كان قد لاحظ أن عدد الترانزستورات على شريحة المعالج يتضاعف تقريبا كل عامين في حين يبقى سعر الشريحة على حاله. لكن تفاؤل سام ألتمان بمستقبل الذكاء الاصطناعي لا يصل إلى عمق المهمة الإنسانية في صناعة الأفكار الحقيقية.