الرؤية الفجائعية في رواية "الظلال الطويلة"

أمجد توفيق يفتتح روايته "الظلال الطويلة" بلوحة فنية مخصصة للبوح والإفصاح عما يختلج الذهن من ثوابت.
الإحساس الفاجع لدى السرد أدى إلى بزوغ تنبؤات تشاؤمية كانت تحيط المشهد
الترميم والمحافظة على الشخصية من التلاشي والضياع والتلف 

يفتتح الروائي أمجد توفيق روايته "الظلال الطويلة" بلوحة فنية مخصصة للبوح والإفصاح عما يختلج الذهن من ثوابت ربما تأخذنا في بدايتها إلى عوالم المدرسة التعبيرية، إلا إنها سرعان ما تأخذ شكلا سورياليا لتداعيات مفاهيم الارتباط بالأرض والوطن الأم. تموت الأشجار إذا نقلت من أرض لأرض. وتموت الطيور إذا غادرت بيئتها. وتموت الحيوانات. إنها تدفع ثمن صدقها، والصدق عندما يكون نقيا أصيلا، فإنه يصبح وجها آخر للموت، فالموت يحفظ للصدق نقاءه، إنه يقتله.
عندما تمعنّا في هذه الأسطر القليلة، وجدنا أن الروائي قصدها لكي يجسد منذ مفتتح الروي كل طموحات الشخصية الروائية في إثبات قناعات المبدع نفسه لتقريب النص من وعي المتلقي، وأعتقد أن ذلك من بين الدوافع التي مهدت الروائي لصب كل ما يريد قوله داخل تضاعيف محورية النص أو فكرة النص الروائي، إذ أن بطل الرواية من السياسيين الوطنيين الذين تعرضوا لفرية ودسائس أجبرتهم على الرحيل من الوطن للانضمام إلى أسراب المعارضة خارج بلده العراق، وكان ذلك قبل الاحتلال الأميركي وسقوط الدولة والنظام فيه، ومن هنا تبدأ الرؤية الفجائعية حين يحتدم الصراع ما بين الرجوع للوطن بعد تغير الأحوال السياسية، وما بين القبول بالحياة البديلة في باريس بمغرياتها وممكنات العيش فيها، وكانت طريقة الروائي إلى ذلك هي التركيز على تداخل الأزمنة عبر تداخل الزمن الماضي بالمستوى الإخباري مع زمن ماضي الماضي عبر صفحات نجحت في إعطاء الملامح الحياتية لذلك السياسي المغترب بكامل قيافتها التي تفرض ضمنا أنه خبر ما يجري في بلده من خلال رفضه لرغبة زوجته الرجوع إلى العراق، إذ أنه لم يُضع خيط التواصل بين خطابه الشخصي ووجع قلبه على وطنه وبين خطاب الاغتراب الذي يدعو إلى التغاضي عن كل تفاصيل ارتباطه وانتمائه والبقاء بعيدا عن بلاده بعدما أوعدته المخابرات الأميركية بمكانة مهمة في باريس .

الانتظارات كانت عصية أن تتحقق مع شخصية  بشار لا بل قد تسقطه في حالات من الشعور بالإحباط وباليأس وهذا ما قطع حبل الاستمرار ليقرر الرجوع إلى باريس 

إن الراوي في هذه الرواية يتناوبه عالمان وفي اشتغالي هذا لم أشأ البدء بالعالم الأساسي في الرواية، وهو الوضع المأساوي للعراق ما بعد الاحتلال إنما ارتأيت تتبع شغوف الحكي لدى الروائي فهو يحكي دون توقف، أي أنه لا يتوقف لكي يصف، بل أنه يلاحق جمله ليرصفها على سطور الصفحات رغم ما تتضمنه الرواية من حوارات وتنقلات، وكأنه على عجالة من يروم الإطاحة بمعاناة حقيقية وسؤال مضنٍ حول الهاجس الوطني وحول الحقيقة الإنسانية والسؤال عن قيمة الإنسان ومكانته في أدلجة البرامج والمخططات السياسية وصراعات المصلحة للمحتل على حساب المصلحة لابن البلد الأصيل.
وفي محاولة من لدن الروائي غايتها الترميم والمحافظة على الشخصية من التلاشي والضياع والتلف رَطّب أجواء رويه بذلك الحب الذي نشأ بين الشخصية المركزية في الرواية، وهو السياسي المغترب بشار وبين الرسامة إيزابيلِ، ليكشف لنا ذلك الميل العاطفي مدى تحقق الذات وسموها فعليا لا انفعاليا بتأثرها بالوضع المربك الذي يتناهضه الحنين إلى الوطن، إنما جاءت ممكنات الراوي لتؤطر علاقة هي مبدأ الخطاب ومنتهاه، ذلك أن وعي الذات معبر ملكي لا يتحقق لأي انسان  حين يتوجه الحب إليه بمثل هذا الرقي، وهذا ما يثبته رجوع بشار إلى إيزابيل بعد خذلانه في بلده حين يقرر العودة إليه فيلقى ما يلقى من عذابات فيه.
قرار العودة وتمخضاته الفجائعية 
على ضوء ما تقدم أجد أن الروائي قدم روايته وهي تطرح نفسها كنص يحمل أوجها دلالية متعددة كما أنها في طياتها غايات بنائية ووظيفية وجمالية تطول مناحي مهمة من حياة الإنسان وجدلية وجوده؛ فما من إنسان يستطيع العيش بلا حلم أو وهم فتلك طريقته للتنفس وممارسة الحياة، والذات المبدعة تعي حلمها وتميزه من وهمها، وهذا ما فعله الراوي من خلال لغة سرده التي تنبع من طقوس الرواية وآلية محاكاتها للواقع فهي رواية واقعية تتبع أسس التجريب في مشغلها، ومثل هكذا طرح يتطلب لغة عالية الحساسية، ملتهبة الوقع والتأثير، ولها جرسها الذي يجرف القارئ إلى متابعة سيكولوجية تجعله يتفهم قرار بشار في عودته لبلده بعد سرقة لوحة إيزابيل وبعد محادثات عميقة بينه وبين صديقه خالد المغترب السياسي أيضا بما يقود تراتبية مقصودة لإعطاء دليل قادم لدال رسمه في الغربة يؤهله للإيمان بصحة موقفه في العودة على الرغم من تحذير أخيه  الذي كان رافضا لرجوعه إلى العراق إلا أن بشار وهو يواجه محنة الشر الأميركية لم يكن له خيار يدله على الصواب . 

novel
صراع القيم وتبدلها 

الخطاب السردي في هذه الرواية قائم على تبني الراوي العليم اتون الروي، وهذا الراوي له انتقالاته السردية التي من خلالها يصنع عالما يوثق تاريخا لا يقبل الشك خاصة حين يتم الحديث عن الوضع الذي نشأ في العراق بعد احتلالة ليظهر لنا على السطح الشخصيات التي تتزعم المشهد السياسي والاجتماعي متمثلا بانتصار خاتون المومس وحملة شهادات السجون المحيطين بها، أي بزوغ القاع واضمحلال شخصيات القمة في المجتمع العراقي، وهنا تبدأ أزمة تشكل حالة فراغ تبشر بفجائعية اندحار القيم وعسر في فهم ما يحدث واختلاط الموازين بين كفة هابطة تتسيد حل الأزمات وكفة المواطن الشريف النبيل الذي يروح ضحية عدم كمالية الرؤى التي تشوبها ظروف غامضة، لخصها السرد بحادثة اختطاف الطفلة أمل ابنة بشار وحيثيات خلاصها وما جابهه والدها من متاعب وفواجع تمثلت باعتقاله ومرضه وظلمه من قبل الأميركان التي لا تنتهي إلا بمعية تلقي المساعدة عن طريق انتصار حين تتوسط له عندهم . 
وبذلك يمكننا تخيل مجالات بروز الفعل الفجائعي في الرواية متمثلة بـ : 
1ـ صراع القيم وتبدلها .
2ـ الشعور بالمنفى داخل الوطن. 
3ـ اضطهاد الماضي وتحكمه بوقائع الحاضر وتنبئه بسوداوية المستقبل. 
4ـ تعقب زمن الرذيلة ونتائجه الآنية. 
إن الإحساس الفاجع لدى السرد أدى إلى بزوغ تنبؤات تشاؤمية كانت تحيط المشهد عندما تقيم انتصار خاتون حفلة بمناسبة إطلاق سراح بشار ويحضرها الجنود الأميركان فتحتفي معهم بفرحها، وهذا يؤسس بشكل أو بآخر الدخول في مرحلة أخرى من الانتظارات؛ انتظار الفرج والتخلص من الفضل المصطنع الذي يكبل الشخصيات وانتظار التماهي مع عقدة الماضي المجيد سياسيا وفكريا واقتصاديا وانتظار الرضوخ للحياة المعاصرة بزيفها، وجميع هذه الانتظارات كانت عصية أن تتحقق مع شخصية  بشار لا بل قد تسقطه في حالات من الشعور بالإحباط وباليأس وهذا ما قطع حبل الاستمرار ليقرر الرجوع إلى باريس.