الرمزية في عمق واقعية 'اللاسؤال واللاجواب'

الرمزية تتداخل بالواقع في رواية فؤاد التكرلي في تصوير معاناة العراقيين خلال الحصار فيما تُجسّد شخصية عبدالستار أزمات الإنسان النفسية والوجودية في ظل الفقر والقهر وانهيار المعنويات.
رند الأسود
بغداد

يتجلى حضور المذهب الرمزي بوضوح في آخر روايات العبقري فؤاد التكرلي "اللاسؤال واللاجواب"، فالمعروف عن هذه المدرسة الأدبية الفلسفية تعبيراتها الغير مباشرة عن الأحوال النفسية المستترة التي لا تقوى اللغة على أدائها، أو لا يُرادُ التعبير عنها بوضوح جلي، وهذا ما يستشعره قارئ هذه النوفيلا رغم واقعيتها.

"ان الانسان بناء الله فويل لمن هدمه".

يتجلى حضور المذهب الرمزي بوضوح في آخر روايات العبقري فؤاد التكرلي "اللاسؤال واللاجواب"، فالمعروف عن هذه المدرسة الأدبية الفلسفية تعبيراتها
الغير مباشرة عن الأحوال النفسية المستترة التي لا تقوى اللغة على أدائها، أو لا يُرادُ التعبير عنها بوضوح جلي، وهذا ما يستشعره قارئ هذه النوفيلا رغم واقعيتها..

"إن الإنسان بناء الله، فويل لمن هدمه".
عندما أنهيت آخر سطر من سطور هذه المخطوطة، تناولت هاتفي لأصادف مباشرة هذا القول للإمام علي ابن أبي طالب (كرم الله وجهه)، وكأنه يشير إلى حال العراقيين في سنوات الحروب والحصار والجوع المستمر، فمن المعلوم أن أعوام 1993 و1994 و1995 كانت من أسوأ السنوات التي مرت على الشعب العراقي في أعقاب الحروب، بسبب فرض الحصار الاقتصادي على الشعب وانخفاض قيمة العملة، الذي أدى إلى انخفاض رواتب الموظفين، وبالتالي انخفاض القيمة الشرائية للفرد العراقي، الذي شعر بهدم الروح المعنوية وانحسار الأمل. سنوات، عندما يتذكرها الناس، تملؤهم الحسرة والألم على كل ما عايشوه في تلك الأيام.
فالجوع أسوأ عدو للإنسان، وهنا يصور صاحب "المسرات والأوجاع" في "اللاسؤال واللاجواب" معاناة كل صاحب أسرة في تلك الأيام.
ومن اللافت للنظر عبقرية التكرلي في جعل واقعية هذه الرواية تُسقى بكأس المدرسة الرمزية، من خلال تجسيد مرض المدرس عبد الستار حميد زهدي الغريب العجيب، والذي هو تجسيد عن واقع معاناة المواطن العراقي وتخبطه في تلك الأيام الصعبة، فعبد الستار، أبو هيفاء، الذي يعمل مدرسًا صباحًا وسائق تاكسي ليلًا، مثل أغلب العراقيين، يُصاب بمرض نادر أثناء نومه يجعله يحشر نفسه في إحدى زوايا الغرفة ويلاكم الهواء بكلتا يديه أو الحيطان، وعندما يستيقظ بمساعدة زوجته وابنتيه يعجز عن فهم ما يحدث له، ويبقى أسير حيرته وأسئلته الوجودية اللانهائية. فهل ما يحدث له تراكم من مشاعر القهر لأنه في طفولته عجز عن رد ظلم والده لوالدته؟ أم هي مشاعر غضب لأن زوجته وحبيبته زكية تزوجت رجلًا آخر قبل أن تتزوج به؟ أم هي مشاعر سخط على الظلم والقهر والجوع؟
"كلنا كأفراد محاطون بظروف وأزمنة تجعلنا كدودة القز، منغلقين داخل شرنقة لا فكاك منها. لسنا مجوَّعين من قبل سلطتنا العراقية فحسب، بل إن العالم كله، دولًا وشعوبًا، صمَّم أن يقتلنا جوعًا وخوفًا، وسينسى كل هذا، ولن يسجله التاريخ".
كل ما يحدث يستنزف عبد الستار ويجعله لا يستطيع توجيه سؤال أو انتظار جواب، فهو في موقف اللاسؤال واللاجواب، محاط بالظلام الكثيف..

للرواية صوتان: صوت الراوي البطل، والراوي العالم بكل شيء (التكرلي)، الذي يعلن نهاية الرواية وانتقال البطل إلى عالمه الثاني، لتكتمل كل أجزاء هذه اللوحة الساحرة حتى ببؤس أبطالها وشقائهم، فالقارئ يلاحظ غياب السعادة تقريبًا، وانحسارها فقط عند
إظهار المشاعر العاطفية والحسية، وهذا يعلل الواقع الحقيقي، فعندما يهيمن الجوع والفقر على الإنسان لا يبقى له غير الحب والأمان وبعض من السعادات البسيطة. كذلك يوظف التكرلي خبرته القانونية (وهو الذي تبوأ منصب قاضٍ سابق) في تصوير مشهد القتل والسرقة في قضية القاتل سيئ الحظ عباس كروازة، والأمور القانونية التي تترتب عليها القضية، إضافة إلى قدرة الإنسان على الاحتفاظ بالمثل العليا في ظل الجوع. فهل كانت المخشلات المسروقة ضربة حظ لهذا البائس، أم اختبارًا إلهيًّا عجّل الموت المؤجل؟!

وفؤاد التكرلي: قاص وروائي عراقي وُلِدَ في بغداد في عام 1927، ودرس في مدارسها، وتخرج في كلية الحقوق عام 1949م. تولى مناصب عدة في الدولة، ومنها في القضاء العراقي، إذ عُيِّنَ قاضيًا عام 1964.
ألَّف القصص والروايات بأسلوب إبداعي متميز، لأنها مثلت ببنائها أنموذجًا للروايات الكلاسيكية الحديثة.
ومن أبرز أعماله رواية "الرجع البعيد"، التي أسَّست لخطاب روائي متميز، وأرَّخت لحقبة تاريخية مهمة في الحياة العراقية، وكانتْ مُفعمة بالروح والأعراف الشعبية، وكل طقس اجتماعي لأهل بغداد حينها.