الرواياتُ خيرُ المرايا

مبارك ربيع يرى أن المؤهل المبدئي لكتابة الرواية هو قراءة الرواية، إدمان قراءتها، الإقامة في مدرسة قراءتها.
خليل الجيزاوي: جاءني صوت صديقي الكبير صلاح عيسى ليؤكد لي أن الكتابة السردية يمكن أن تكون دواءً وشفاءً
الشعرُ إن أضفته إلى السرد، أغنيته وأثريته وخصّبته. ولكن إن أكثرتَ من إضافة السرد للشعر، أتلفت الأخير وأفسدته
الحياة وهمٌ، وما نكتبه أو نقرأه عنها شعراً ورواية، هي الحقيقة

في شهادة أدبية عنوانها "قراءة ذاتية في تجربة روائية" قال الكاتب المغربي د. مبارك ربيع: بدايةً، أعتبر المؤهل المبدئي لكتابة الرواية - وهو ما يسري على تجربتي الخاصة - هو قراءة الرواية، إدمان قراءتها، الإقامة في مدرسة قراءتها، من أي مصدر كانت، لكل الأزمان، بكل الاتجاهات واللغات؛ ونظرًا إلى دراستي الفلسفية وتخصصي السيكولوجي، فإن البعض يتساءل بهذا الصدد، عن عامل مساعد في الكتابة الروائية، وهنا أميل إلى أن ذلك غير ضروري، رغم أهمية البعد الفلسفي في العمل الروائي.
وأضاف في جلسة الشهادات الأدبية التي ترأسها الكاتب الفلسطيني يحيى يخلف ضمن جلسات ملتقى القاهرة الدولي السابع للإبداع الروائي: أجدني في الإبداع الروائي وجهًا إلى وجه، أمام اللانهائي بلامحدوديته المطلقة، وبتعدد ممكناته، مما يفرض صعوبة الاختيار والحسم، بما في ذلك من مغامرة تقييمية ذاتية، أمام الوفرة الغامرة المتوافدة من الإمكانات.
ويرى ربيع أنه مهما تكن العملية الإبداعية في طبيعتها، فإنني أكون عمليًّا أمام مفهوم ما أسميه "التركيب الروائي" موضوعاتيًّا وفنيًّا؛ إنه ما يدعو خبرة في غابر طفولة، أو أقاصي موطن، أو متنائي حلم ومجنح خيال، إلى أن تتلاحم وتتنامى في لحظة ما، أي أنه "يجعلها موجودة أمامنا، على نحو ما توجد الأشياء"، محققة سؤال: كيف تقول؟ لا مجرد ما تقول؛ وهو ما يبدو لي موفيًا بمقتضى مزيج مفهومي الإبداع والصناعة معًا؛ باعتبار الصانع هنا "فنان "، وليس مجرد حرَفي تقليدي. كما ميزه بكل قوة وجهورية صوت مايكل انجلو، من أعلى متسلقه في كاتدرائية سكستين .  

Cairo forum for creative fiction
الصانع هنا فنان

وفي ضوء مثل هذه المفارقات، إزاء ممارسة ذاتية تنجز بالضرورة ضمن شروط حدية، يُطرح السؤال عن مدى تحرر المبدع والروائي بوجه خاص، في عمليته الإبداعية، لا بمعنى "الحرية" بالضرورة، ولكن بمعنى اللاخضوع أو اللاتبعية، إزاء النافل والدخيل من إكراهات وجاذبيات محيطية وباطنية؛ وهو في النهاية ما يملأ الذات في عمق تجربتها الفنية، بمزيج مشاعر إزاء التطلع والإمكان، متراوحة على الدوام، ما بين أوج عظمة ومنتهي عجز وقصور، ما بين اكتمال ونشدان.
أما الكاتب المصري خليل الجيزاوي فقد اختار لشهادته عنوان "عندما تكون كتابةُ السَرْدِ دَوَاءً وشِفَاءً" وتساءل: كيف ومتى تكون كتابةُ السَرْدِ دَوَاءً وشِفَاءً؟! وقال: إن هذا السؤال ظل يتردد بصوت عال قريبًا من أذني وعقلي طوال سنة كاملة، بعد أن تعرضتُ لأزمة عصبية حادة نتيجة عملي الوظيفي، وفي لحظة من لحظات الصفاء النفسي، ذات مساء خريفي رائق، كنت أسير على شاطئ نهر النيل بمنطقة منيل الروضة، حيث أسكن، سمعت صوت الكاتب الراحل صلاح عيسى الذي عملت معه محررًا أدبيًّا بجريدة القاهرة أكثر من خمس سنوات، مع بداية صدورها عام 2000، وكنت قد اقتربت منه كثيرًا، وكان يحب أن نجلس معًا فترةً طويلةً، متى تردَّدت عليه عصر الثلاثاء من كل أسبوع، في مكتبه بجريدة القاهرة، في حي الزمالك، لأسلمه المادة الصحفية التي كتبتها، وبالطبع كنت سعيدًا جدًّا بنصف ساعة أجلس قريبًا منه، ونتكلم في الشأن الثقافي، بود ومحبة كبيرة، بعد أن عرف أن قريتي قريبةً من قريته بوسط الدلتا. 
وأضاف الجيزاوي مؤكدا: نعم جاءني صوت صديقي الكبير صلاح عيسى قويًّا مدويًا، عندما قصصت عليه ذات يوم بعض المؤامرات الصغيرة ضدي في العمل، فقال: ما العمل إلا وسيلة لكسب قوت العيال، ثم نظر ناحيتي قائلاً: انشغل بكتاباتك الأدبية، وحوّل معركتك إلى هدف واحد: كيف تكتب نصًّا سرديًّا جميلاً يا جميل! ولا تستسلم للمعارك الصغيرة، ولا تعطِهم فرصةً أن يكسروك، قم وانهض دومًا وانفض غبار تراب الأرض، اقرأ كثيرًا واكتب قليلاً، هل تتذكَّر الوظائف التي شغلها نجيب محفوظ؟ بالطبع لا، بل تذكر ويذكر العالم كله ماذا كتب نجيب محفوظ؟ حتى المعارك الأدبية ومساجلات النقاد واختلافهم حول ما يكتبه نجيب محفوظ، لا يتذكرها واحد من الناس، وأنت لا تعرف كيف تراجع ذلك الناقد عن كل ما كتبه بالسلب عنه، بعد أن حصل محفوظ على جائزة نوبل في الآداب عام 1988، هل تحفظ ذاكرة القراء ما كتبه نقاد نجيب محفوظ؟! الإجابة نعرفها جميعًا، وما الناقد وما يكتبه من مقالات إلا ليحصل منها على بضعة دولارات من دورية ثقافية عربية، لكن ستظل روايات نجيب محفوظ ملء السمع والبصر لأنه أخلص لمشروعه السردي، على الرغم من أن آفة حارتنا النسيان، كما يقول عمنا نجيب محفوظ. 
ويكرر الجيزاوي مؤكدا: هكذا جاءني صوت صديقي الكبير صلاح عيسى ليؤكد لي أن الكتابة السردية يمكن أن تكون دواءً وشفاءً. 

Cairo forum for creative fiction
غسلت آلامي وأوجاعي بمياه نهر النيل

ثم أوضح: غسلت آلامي وأوجاعي بمياه نهر النيل، وكلمات صلاح عيسى التي نزلت بردًا وسلامًا على نفسي، وعدت إلى البيت، وأمسكت ورقةً وقلمًا، وخططت مجموعة من الخطوط الطولية المتقاطعة مع الخطوط العرضية، ووضعت في كل مربع اسم شخصية من شخوص روايتي الجديدة، نعم عدت بالذاكرة إلى سنوات الشقاء والكفاح، أيام العمل أثناء الدراسة بكلية الآداب جامعة عين شمس، والسفر إلى بغداد مثل الآلاف، من شباب الجامعات، للعمل خلال شهور الصيف، خلال الفترة (1982 ــــ 1985)، وكانت الحرب العراقية الإيرانية تشتعل نيرانها على طول الحدود الشرقية، كتبت مأساة العراقيين طوال سنوات الحرب المجانية، فقط للخلاف العقائدي بين الدولتين، التي عايشتها عن قرب ورصدت المشاكل التي كان يتعرض لها المصري في المدن العراقية، وشاهدت بعيني كيف كانت حياة المصري تنتهي نهايةً مجانيةً، ويعود أحيانًا جثةً في صندوق خشبي مغلق، وهكذا كتبت رواية "أيام بغداد" التي فازت بجائزة إحسان عبدالقدوس للرواية يناير 2019. 
أما الكاتب العراقي الكوردي هوشنك أوسي فقد جاء عنوان شهادته "الرواية: فنُّ الأنا ومحاولة تصفية حساب مع الحياة والموت"، وقال فيها: لا أنصح بالكتابة المتأخِّرة للرواية، فليست كل الكتابات الروائية المتأخرة، عالية الجودة والمذاق والمتعة، وحصيلة جهد وتراكم، ولا أنصح بالكتابة المبكرة لها، إذ ليست كل المحاولات المبكرة لكتابة الرواية كمحاولات كافكا ومن على شاكلته، وأصلًا، لا أحب النصح والوعظ والإرشاد فيما يخص الكتابة عمومًا، فالناس أحرارٌ فيما تكتبه، وكيف ومتى ولماذا تكتب؟ ونحن أحرارٌ، فيما نقرؤه، وكيف؟ ومتى؟ ولماذا؟ ولمن نقرأ؟
وأوضح: بالنسبة إليَّ يفترض بالرواية أن تكون مشكِّكة بالرواية الرسمية للأحداث والتاريخ، في مسعى خلخلة وقلقلة ما بات من اليقينيات والرواسخ في أذهان الناس ومناهج التربية والتعليم، على الصعيد التاريخي، اجتماعيًّا وسياسيًّا وعقائديًّا. 
وأكد أوسي على أن الرواية هي فن الأنا، في إطار محاولة إحاطتها بالكل وتفاصيله، عبر ما هو واقعي و"متخيل - واقعي"، و"متخيل غير واقعي" إن جاز التعبير. الرواية هي فن الأنا، في محاولة استنهاض المجتمع وإطلاعه على قبائحه، وهي فن نقد الأنا والآخر، وهي محاولة تصفية حساب مع الحياة والموت، لذا ليس من الغرابة وصف الرواية بأنها من صنف المراجعات النقدية للذات والمجتمع والتاريخ، بمستويات مختلفة، وفي سياقات ينبغي أن تكون مختلفة، ومبتكرة، تنزع نحو التجديد والتجريب المستند إلى أرضية معرفية متينة، وخيال خصيب، وموهبة جسورة ولئيمة. ولأن النص المقدس "حمَّال أوجه"، على الرواية أيضًا أن تكون هكذا، حمالة أوجه، تثير الالتباس، وتشكل على الناقد - القارئ، والقارئ - الناقد، بحيث يجد أحدهم أنها رواية تاريخية، وهي ليست بتاريخية، أو أن يجدها بوليسية، وهي ليست كذلك، أو أن يجدها رواية فلسفية - معرفية، وهي ليست هذا أيضًا، أو أن يجدها رواية خيال علمي، أو رواية واقعية، أو موغلة في الخيال والفانتازيا، ولكنها ليست هذه أو تلك... بل هي حاصل جمع كل هذه الأصناف، أو أن ينظر إليها القارئ، كيفما شاء، طبقًا لمنطقه في القراءة والاستدلال والاستنتاج.
يضع الروائي خرائط لحيوات افتراضية موازية لحيوات حقيقية، ويمحو خطوط التماس والتداخل بين هذه الحيوات، في مسعى زيادة مساحة الاشتباك والاشتباه، دافنًا كنزًا في نصه الروائي، داعيًا العابرين والعابرات إلى البحث عن هذا الكنز، في لعبة القفز المستمرّ بين الافتراضي والمتخيّل، وبين المجازي والحقيقي. وعليه في السرد ثمّة ملاحقات، مكاسرات، مهادنات، مقامرات، ورهانات كبرى ورهانات صغرى، ومجازفات كبرى وصغرى، يقترفها الروائي، كتمرينٍ على مُنازلةِ الحياةِ والموت. 

هوشنك أوسي
يفترض بالرواية أن تكون مشكِّكة بالرواية الرسمية للأحداث

ويرى هوشنك أوسي أن ثمة مقولة تقليديّة، مكررة ومطروقة، تصف الرواية بأنها "مرآة الحياة، وعوالم الرواية هي نفسها عوالم الحياة". لكن الحياة تجدد نفسها بتجديد أسئلتها وأخيلتها، ومن المفترض أن تجدد المرايا أيضاً نفسها. وخيرُ المرايا - الروايات، باعتقادي، ليست تلك التي تجذبنا للنظر عبرها إلى الحياة، بل تلك التي تجذبنا إلى جوفها، وتلقي بنا في عوالم أخرى، افتراضيّة، ربما تكون هي العوالم الحقيقيّة، والحياة هي الواقع الافتراضي الذي نعيشه أو عشناه، طبقاً للمقولة المنسوبة لعليّ بن أبي طالب؛ "الناس نيام، إنْ ماتوا انتبهوا". على أن الحياة وهمٌ، وما نكتبه أو نقرأه عنها شعراً ورواية، هي الحقيقة.
في الرواية يمارس الكاتب دور وسلطة الآلهة التي تحدد المصائر والمشيئات والأقدار والمصادفات، وتخلق الأحداث، وتخيّر وتسيّر الأبطال، وتضع بعضهم في نعيم وآخرين في جحيهم. وعليه، في الرواية يمتلك الروائي "ولاية تكوينيّة" بحيث يكون وصيّاً ووليّاً أيضاً على حيوات وعوالم أبطاله، يستنطقهم ويقوّلهم ما يريد، يتحكّم بخيالهم وأفكارهم، ويحييهم ويميتهم. ومهما تحدّث الروائي عن منحهِ أبطالهُ مساحة من الحريّة، وفي منأى عن تحديد مصائرهم وبصائرهم، إلاّ أنه يبقى دائماً الوصيّ والوليّ عليهم والمتحكّم بهم. وإنْ دلَّ على شيء، إنما يدلُّ على النزوع نحو السلطة، والتسلّط وامتلاك سلطان الحاكم الآمر الناهي، المُخيّر، المُسيّر...! 
وأشار الكاتب الكوردي إلى أنه إذا لم يجنح الروائي إلى كتابة الرواية، لربما حوّلته شهوة السلطة إلى طاغية. وبالتالي، الرواية من جهة، تزيد من عدد الحكّام والطغاة الافتراضيين، ومن جانبٍ آخر، تقلل عدد الحكّام الطغاة الحقيقيين. بعبارةٍ أخرى؛ في هذا العالم، لو لم ينحُ المرء نحو الإبداع، أدبيّاً؛ شعراً ونثراً، أو موسيقيّاً، تشكيليّاً، سينمائيّاً...، لربما تحوَّل المرءُ إلى مجرم.
موضحا أنه يمكن توظيف لغة الشعر في السرد. وخيرُ السرود؛ المشوبة بالالتباس، التي تكتنفها نفحات الشعر. ولكن، لا يمكن توظيف السرد في كتابة الشعر. فالأوّل يحتمل الثاني. في حين أن السرد يفسد الشعر. ذلك أن الشعر كالخمر، كلما كسرته بماء السرد، يقلّ تأثير الشعر، ووهجه وطعمه ومذاقه ولذّته. كذلك الشعر كالعطر، كلما كسرته بالكحول، يخفُّ تأثيره وانتشاره وديمومته. ومقام الشعر من السرد، كمنزلة الخمر من الماء، والعطر من الكحول. وعليه، الشعرُ إن أضفته إلى السرد، أغنيته وأثريته وخصّبته. ولكن إن أكثرتَ من إضافة السرد للشعر، أتلفت الأخير وأفسدته.