الرواية العربية بين العولمة والرقمنة

إبراهيم السعافين: من الصعب أن نقف عند شكل مرجعي أو تعريف جامع مانع مرجعيٍ للرواية أو لطبيعة تشكيلها.
رجاء نعمة تتحدث عن "مستقبل الفن السردي على ضوء الماضي والحاضر
شوقي عبدالحميد يتناول الشكل الروائي وعلاقته بالتغيرات المجتمعية
صلاح السروي يتحدث عن الرؤية الشبحية في الرواية المصرية وعلاقتها بما بعد الحداثة في الأدب
الرواية .. الجنس الأدبي الأكثر عرضة للتحولات

شكَّل مستقبل السرد هاجسا كبيرا لدى القائمين على ملتقى القاهرة الدولي السابع للإبداع الروائي العربي الذي عقده المجلس الأعلى للثقافة خلال الفترة من 20 – 24 أبريل/نيسان 2019، فعقد له أكثر من جلسة، منها الجلسة التي ترأستها الأديبة الكويتية ليلى العثمان، وشارك فيها النقاد د. إبراهيم السعافين، ود. حسام نايل، ورجاء نعمة، وشوقي عبدالحميد، ود. صلاح السروي.
وقال الناقد الأردني إبراهيم السعافين: ليس من شك في أن الرواية منذ نشأتها جنس غير متشكل وغير منجز، كما ذهب إلى ذلك ميخائيل باختين بحق، يخضع لما تخضع له الأجناس الأدبية والفنون من تحولات، ولكنه الجنس الأدبي الأكثر عرضة للتحولات، ولذا يصبح من الصعب أن نقف عند شكل مرجعي أو تعريف جامع مانع مرجعيٍ للرواية أو لطبيعة تشكيلها.
وأضاف: حسبنا أن نلقي نظرة عامة على الشكل الروائي في تطور الرواية في القرنين الماضيين حتى نكتشف صحة هذه المقولة، فقد مرت الرواية بأشكال مختلفة واتجاهات متعددة جعلت البحث عن شكلٍ مرجعي مستقر أو ثابت ضربًا من الخيال، فمنذ أن خرجت الرواية Novel من عباءة الرومانس أو القصص الخيالي الغربي Romance في صورتها الرومانتيكية والواقعية شهدت تحولات في المذهب نفسه أو في الأشكال التي نهجت نهج التجديد أو التجريب، فرأينا منذ حركات الحداثة Modernism ومذاهبها خروجًا على السياق العام المعتاد للسرد، واستغراقًا في عوالم النفس واللاوعي، وراح السرد يسعى إلى التشظي والتفكيك وتداخل الأزمنة والأمكنة وعوالم الشخصيات، وبدت الثورة واضحة على عناصر السرد نفسه نالت فيما نالت الحبكة والشخصية، فلم تعد الحبكة هي عماد السرد، ولم تعد الشخصية هي محور العمل الروائي كما نجد في الرواية الجديدة في فرنسا التي لا تعير الشخصية وزنًا على اعتبار أن الشخصية والإنسان نالا أكثر مما يستحقان بكثير، وأن الأشياء أولى بالاهتمام منهما بكثير.
ولعل نجيب محفوظ من أسبق الذين تنبهوا على هذه القضية مبكرًا من الناحيتين النظرية والتطبيقية، فقد أورد جمال الغيطاني في كتابه "نجيب محفوظ يتذكَّر" قول نجيب محفوظ إنه لا يوجد شكل (صح) وشكل خطأ، بل إن لكل رواية شكلها الخاص، وذكر أنه كان يعتقد ذلك فيما سبق، متخذًا من نماذج الروائيين الكبار أمثال بلزاك وديكنز وديستويفسكي وتولستوي نموذجًا يُحتذى، فرأيناه يجمع بين "الثلاثية" وأعماله الواقعية الشهيرة وأعمال اتخذت منحى التجريب، حتى إنه جعل من "حكايات حارتنا" رواية، وهي عبارة عن حكايات يقع أصغرها في نصف صفحة وأكبرها في ثلاث صفحات، ولا يجمع بينها إلا المكان المشترك وهو الحارة. 

Cairo forum for creative fiction
مستقبل السرد

فهل لنا في هذا الزمن المتسارع، وهذا الفضاء المنفتح على كل شيء: الثقافات والأعراق والأفكار والطبقات والأمزجة والأهواء والأعمار، وخلاف ذلك أن نكون سدنة على الرواية، وأن ننظر إلى الصواب والخطأ، وأن نمسك بزمام مسيرتها لنحدد الاتجاه والغاية؟ وهل بوسعنا أن نقف موقف المتفرج أو المراقب أو بالتالي موقف العاجز عن فعل شيء أو أي شيء، ونجعل حركة الزمن والأفكار والأذواق والأمزجة هي التي توجه كل شيء وتسيطر على كل شيء؟
ويوضح السعافين أن الرواية دخلت بقوة عصر الاتصال، وأصبح للتلقي دور كبير في تشكيل العمل الروائي ومضمونه، وأسهمت الجوائز في هذا الدور، حتى إن بعض هذه الجوائز تعلن أنها جائزة القراء لا النقاد، وتنشط الرواية التفاعلية التي لا ضابط لها سوى ذوق المشاركين، وهذا النوع من الروايات قد يشارك فيه مئات الألوف من القراء والمتفاعلين، وتدخل منصات التفاعل الاجتماعي بقوة في توجيه أساليب السرد وموضوعاته. 
وعلى ذلك يرى أن مستقبل السرد، على هذا النحو، يعد باحتمالات كثيرة، لكن ما يبدو أقرب إلى الحقيقة أن فن السرد يزداد تحولاً ورسوخًا في آن معًا.
وعن الإنسانيات الرقمية ومستقبل السرد الروائي يقول د. حسام نايل: لو أردنا تلخيص ملامح الألفية الجديدة، أو اضطراباتها، لن نجد أفضل من كلمتين اثنتين لا ثالث لهما تقريبًا، هما: عَوْلَمة globalization ورَقْمَنة digitization، ولو أردنا تحديد موقع العالم العربي بإيحاء من هاتين الكلمتين لوجدناه في موقع رد الفعل مهما كان نوعه ومقداره. العَوْلَمة والرَقْمنة اكتساحٌ هائل وجارف من العالَم المتقدِّم، يتميَّز بالتحالف بين شبكات وأنظمة هَرَمية فائقة القوة.
وأوضح نايل أنه سيتناول، تحت عنوان فرعي أول: "الإنسانيات الرقمية"، البدايةَ الأولى لنشأة الإنسانيات الرقمية (DH)  المصاحبة لدراسات الكمبيوتر أواسط القرن العشرين، ثم بروزها الواضح في تسعينيات القرن العشرين، وما قد يعنيه ذلك من تحوُّل في البرادايم أو النموذج المعرفي، فيما يُزْعَمُ، من المركزي الهَرَمي إلى الشبكي الأفقي، وما استتبعه من ظهور "ما بعد الإنسان" posthuman أو transhuman، وأثر ذلك في الدراسات الأدبية بوصفها فرعًا داخل الإنسانيات الرقمية. يتبعه عَرْضٌ لسمات الأدب الرقمي من حيث هو فضاء لعلاقات شبكية أفقية، وليست هَرَمية رأسية فيما يبدو.
ثم تحت عنوان فرعي ثانٍ "الروائي الرقمي محمد سناجلة: تفاؤل هذياني"، تفحص ورقةُ نايل كتيبًا أصدره أولُ روائي رقمي عربي بلهجة بيانات الانتقال والقطيعة الجازمة، يحتفل فيه ويبشِر بـ "رواية الواقعية الرقمية"، بل بـ "ما بعد الإنسان" و"ما بعد الدولة"، وبكل قائمة "ما بعد" التي يمكن لنا تخيلها، في إطار علاقات أفقية تعاونية تتيحها الشبكات بمعناها الواسع.
كما تتناول ورقةُ نايل، تحت عنوان فرعي ثالث: "خداع الشبكة"، فحصًا لطبيعة البناء الشبكي، واختبارًا لفرضية مثيرة للجدل تقول بوجود تكافل بين الأبنية الهَرَمية والأبنية الشبكية، ولا سيما الشبكة العنكبوتية العالمية، يصل إلى حد التشابه، بل التماثل، وهو الأمر الذي يجعلنا نعيد النظر والتأمل في أصل نشأة الشبكة العنكبوتية.
أما رجاء نعمة فقد تحدثت عن "مستقبل الفن السردي على ضوء الماضي والحاضر"، وألقت نظرة على نظرة على تطور الفن السردي في الرواية الغربية: الرواية الكلاسيكية (دوسويفسكي – فلوبير)، حركة الرواية الجديدة 1950 (مرغريت دوراس - ألبير كامو) ثم تحدثت عن الرواية العربية وتطور فن السرد لدى نجيب محفوظ (السرد بين كاميرا الواقع والصوت المضمر الداخلي: بين القصرين - اللص والكلاب – الشحاذ) ودلالات التطور.
كما أشارت إلى فن السرد لدى يوسف إدريس: منعطف حداثي. النبرة  العالية وهز الوعي. الصوت الداخلي والتعددية الخفية للأصوات. الدلالات السيكولوجية الاجتماعية لتنوع السرد لدى يوسف  إدريس. ولدى الطيب صالح: تعددية الأصوات ودلالات الغياب والحضور في  سردية "موسم الهجرة إلى الشمال".  
وتحدثت عن فن السرد والرواية  التفاعلية: المنحى التفاعلي في الرواية: من رواية التظلم إلى الابداع الدرامي أو التراجيدي وانعكاس التطور على السرد.
وعن مستقل السرد، أشارت إلى تعددية الأصوات: حدودها الفنية وشروط إسهامها الابداعي. التعددية المكشوفة التعددية الضمنية و كثافة الفن السردي، والسرد الحديث واعتماد صيغة فعل المضارع (الحاضر): حدودها الفنية وشروط إسهامها الابداعي. 
وضربت مثلا برواية بهاء طاهر "بالأمس حلمت بك".
ثم وضعت تساؤلات حول مستقبل الرواية وفن السرد: العولمة الفنية وأثرها على الرواية. اتساع الآفاق ثراء التبادل وانعكاساته على الفن الروائي السردي
وأشارت إلى تقليعات" الفن الروائي الحداثي: الحدود والإبداع. الرواية واندماج الفنون. أهمية البصرية في الفن الروائي الحديث والمستقبلي وأثرها على الفن السينمائي، شروط الإبداع عبر الأزمنة ورؤية المستقبل. 
وعن "الشكل الروائي وعلاقته بالتغيرات المجتمعية" تحدث الناقد شوقي عبدالحميد، فأوضح أن بحثه يشمل نبذة مختصرة عن بدايات الرواية (عالميًّا وعربيًّا)، وعن تغير الشكل الروائي، كنوع أدبي، وفقًا للتغيرات المجتمعية، وبالتالي تحديد التغيرات الشكلية، تبعًا للتغيرات الموضوعية الحادثة في المجتمع المصري تحديدًا. ودراسة ما إذا كان هناك تحديد قاطع مانع للنوع الأدبي، وما العلاقة بين النوع والآخر، بمعنى: هل هي علاقة تجاور أم تفاعل، ام أنه لا علاقة بين كل نوع والآخر؟
وتساءل: هل تحديد النوع الأدبي يُعد تحديدًا صارمًا، وكأنه جواز المرور للنص، أم أن العملية تخضع لطبيعة الإبداع النابع من الأعماق للتعبير عن رؤى معينة للحياة والكون من حول المبدع، وبالتالي فقدانها القواعد التي قد تبدو مقيدة لحركته في التعبير؟
وأشار إلى دراسة بعض المحاولات التي تستغل مصطلح (النص) للعبور فوق القواعد المتعارف عليها للنوع الأدبي، وكيف استخدمها الكثيرون للتغطية على ضعف الموهبة. 
الناقد د. صلاح السروي تحدث عن الرؤية الشبحية في الرواية المصرية وعلاقتها بما بعد الحداثة في الأدب، وقال: تميزت مرحلة التسعينيات وما تلاها حتى لحظتنا الراهنة بظهور نوع جديد من السرد لم يكن مطروحا من قبل. سرد يقبع على تخوم الواقع ولا يتورط في الانخراط فيه، يحاول معانقة أطراف الحلم ولكنه يبقى بقدميه على أرضية المعاش، يناقش الوقائع ولا يحفل بمنطقها ولا قانونها، يحاول رصد أحداث العالم ولكنه لا يتورط في تبنى موقف أي من أطرافه. فيصبح العالم بالنسبة له مرئيا ولا مرئي في الآن نفسه، قابلا للفهم ومستعصيا عليه في الوقت ذاته. كالذى نراه في أعمال منتصر القفاش ومصطفى ذكرى وطارق امام وأحمد العايدى وياسر شعبان وهاني عبدالمريد ومصطفى الشيمي .. الخ. ولعل الكاتب منتصر القفاش يعد من رواد هذا الاتجاه، بمجموعته القصصية "السرائر" التي صدرت عام 1993 عن دار شرقيات ومن بعده ظهر هذا الجيل من الكتاب الذين جاءت أعمالهم متبنية هذه الطريقة فى السرد.
وتأسيسا على رصد هذه الرؤية الضبابية آثرت إطلاق صفة "الشبحية" على هذا التيار الذي أظنه المعبر الأقوى عن اتجاه ما بعد الحداثة في الأدب السردى.  

Cairo forum for creative fiction
الإنسانيات الرقمية

أوضح السروي أن مفهوم "الرؤية الشبحية" في السرد الروائي ينتمى إلى اتجاه ما بعد الحداثة في الفلسفة، من حيث ارتكازه على محاولة تصوير العالم باعتباره كيانا ضبابيا معتما، تتداخل عناصره وتتماهى مكوناته، مجسدة نوعا من الوجود السديمي المموه الملامح. وذلك انطلاقا من أن تغيرين على قدر هائل من الأهمية صنعا أسطورة عصرنا ومنعطفات الرؤية والتفكير لديه: الأول، هو سرعة إيقاع وتعقيد ومكر الواقع السياسي والاقتصادي الدولي. في مرحلة الحرب الباردة، وبخاصة، الزلزال الذي أحدثته حركة الطلاب عام 1968، سواء في فرنسا أو تشيكوسلوفاكيا على مجمل البنيان الثقافي والسياسي للمجتمع الأوروبي. وما تلى ذلك من تغيرات كبرى تمثلت في الهزيمة المدوية للولايات المتحدة في فيتنام وتفكك الاتحاد السوفيتي والسقوط الدرامي لمنظومته الاشتراكية، وإعادة ترتيب موازين القوى في العالم على نحو لم يكن متصورا لدى أي مراقب مهما بلغ شططه الخيالي.
أما الثاني، فهو التطور العلمي والتكنولوجي المذهل الذي وصل اليه إنسان عصرنا، ليصنع من منعطف القرن العشرين – الحادى والعشرين بداية لعصر جديد على كل المحاور وفي كل المجالات، وفي القلب منها الفكر والثقافة. عالم معولم متقارب، تحكمه الحواسيب والرقميات وثورة الاتصالات والمعلومات التي جعلت من "اليقين" المطلق ترفا لايقوى عليه الكثيرون.
ويرى السروي أن البعض قد يعتبر أشكال القص التجريبية التى ظهرت في نهايات الستينيات مثلما نرى عند ادوار الخراط  ومحمد حافظ رجب والمرحلة الأخيرة عند يوسف ادريس، ومحمد أبوالمعاطى أبوالنجا، تمثل الأب الشرعي لهذه الرؤية الشبحية للعالم في السرد. وقال: أنا أعتبر أن تلك الرؤية الستينية إنما تندرج ضمن ما يمكن تعريفه بالطليعية، وهي نزعة حداثية بامتياز، ولا تنتمي إلى ما بعد الحداثة. من حيث انطلاقها من فكرة انضباط العالم وإمكانية فهمه ومعرفته، عبر البنى "الاستعارية" الفانتاستيكية، في مقابل البنى "الكنائية" التقليدية. 
أما رواية ما بعد الحداثة فهي ترى أن العالم غير قابل للتأطير في أقانيم مكتملة أو مدعية للكمال. وتدمج الكنائي بالاستعاري، والواقعي بالفانتاستيكي. طارحة اياهم جميعا على وضعية الحلم أو الهذيان أو الرؤية المخاتلة. على نحو يجعل من اليومي والعادي والمألوف كونيا وجليلا ومتعاليا. يقول مصطفى الشيمى في روايته "سورة الأفعى" (2017): "لسنوات سيحكي الشيخ عن قيامة الغريب التي رآها في إحدى مقابر السيدة، عندما سافر من قرية أبو الريش بأسوان لحضور مولد سيدى زين العابدين .. وبينما الجمع يرقصون ويهللون، منتشين بسكرة الإيمان، سيكون أول من يرى تلك اليد العظيمة التي تنبت من الطين ويجاهد صاحبها للهروب من دود الأرض والعودة للحياة. سينهض الميت في اللحظة ذاتها التي تصرخ فيها امرأة متشحة بالسواد فتطغى صرختها على الموسيقى والأنوار الملونة، والناس يهربون بجلودهم من كوم العظام الباحث عن جلد يستره". 
ويشير السروي إلى الرواية لا تنبئنا عن حقيقة هذا المشهد، فهل حدث حسبما تخيل الشيخ، أم حدث في الحقيقة الروائية؟ وهل كان الشيخ، نفسه، كاذبا مدعيا؟ أم مؤمنا موقنا بصحة روايته؟ هكذا في طرح مراوغ يبحث عن التأويل وإعادة القراءة. 
ثم تحدث الناقد بعد ذلك عن: بناء المشهد الشبحي. السمات المراوغة للشخصية. سيولة الزمن وتداخل الأمكنة.