الرواية .. متى تولد؟

أمبرتو إيكو يرفض فكرة الإلهام ويؤمن بالعمل الجاد للروائي بطريقة تجعل كل رواية هي سيرة ذاتية.
محمود قاسم تردد كثيرا في كتابة روايته الأخيرة "المؤلف"
محمود الورداني بدأت كتابة روايته "أوان القطاف" بقصة قصيرة اسمها "رأس"

القاهرة ـ من أحمد رجب

كان أمبرتو إيكو غارقا وسط كتب القرون الوسطى حينما نفث دخان سيجاره، وقال لنفسه على سبيل الدعابة: "كم سيكون مُسليًّا تسميم راهب وهو يقرأ كتاباً غريبًا"، بعدها بأشهر وقبيل بلوغه الخمسين من العمر أصدر روايته الأولى "اسم الوردة"، بعدها توالت الروايات.
 يقول أيضا إيكو الذي يرفض فكرة الإلهام ويؤمن بالعمل الجاد للروائي بطريقة ما "أعتبر كل رواية هي سيرة ذاتية، حينما نبتكر شخصية روائية، فنحن بشكل ما نسبغ عليها بعض من حياتنا الخاصة. فنعطي هذه الشخصية جزءا منا، ونعطي تلك جزءا آخر منا. بهذا لا أراني أكتب سيرتي الذاتية بشكل مباشر، لكن سيرتي الذاتية تصبح مضمّنة في الراوية، وهناك فرق".
فهل أصبح إيكو روائيا فجأة؟ بالطبع لا، كانت الروايات بداخله فقط كانت تنتظر لحظة تجسيدها على الورق، فكيف تكتب الرواية؟ يقول جارثيا ماركيز "إن أكثر من يسألون أنفسهم: كيف تُكتب الرواية، هم الروائيون أنفسهم"، هذا يعني ببساطة أن ليس ثمة وصفة سحرية ولا جواب جاهز، إنما لكل رواية سبب كتابتها، وكل جواب يستدعي تجربة.
هزة حضارية
تنفي الروائية سلوى بكر أن تكون تعمدت اختيار فترات تاريخية للكتابة عنها بقرار مسبق، تقول عن روايتها "البشموري": لم أكن أتصور أنني سأكتب مثل هذه الرواية، ولكن عندما قرأت بعض الكتب التاريخية حول الفترة الزمنية ما بين نهاية الحكم الروماني في مصر، وتحول مصر الى دولة إسلامية بالمعنى الذى نعرفه اليوم، كنت أتساءل ماذا حدث بين هاتين الفترتين؟ كيف تحولت الثقافة والمفردات الحضارية واللغة، كل هذه أمور كنت أهجس بها دائما، أنا مدمنة قراءة في التاريخ، وفي فترة ما كان سؤال الهوية شائعاً في الأوساط الثقافية، وتصادف أن كنت أقرأ كتاب ساويرس ابن المقفع "تاريخ الآباء البطاركة" عندما اكتشفت كثيراً من الرؤى حول الهوية المعاصرة والتحيزات الدينية والإيديولوجية المتعلقة بهذه الهوية. 
فما كتبه ابن المقفع في كتابه عن ثورة البشموريين الممتدة بين القرنين السابع والتاسع الميلاديين فتح أمامي المجال لأكتشف أشياء شديدة الجدة، خصوصاً عن تاريخ مصر الوسيط. أشياء كثيرة لم يرد ذكرها في الكتابات التاريخية المعاصرة. فجأة وجدتنى مدفوعة في اتجاه البحث حول تلك المنطقة حتى خرجت روايتي "البشموري" التي أقف فيها على ملابسات هذه الثورة كي أتلمس ملامح الهوية الحضارية والثقافية لمصر آنذاك.
وتضيف سلوى بكر: الأمر نفسه تكرر في روايتي "الصفصاف والآس"، فقد أردت فيها أن أعبر عن الهزة القيمية التي حدثت للمصريين بعد دخول الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798، حيث كانت لمصر في نهاية القرن الثامن عشر منظومة اجتماعية خاصة وأسلوب حياة معين، وحين جاءت الحملة جعلت المصريين يعيدون النظر في كل ذلك، فقد كانوا قبل ذلك على سبيل المثال يتنزهون في حديقة بها نوافير ومقاهٍ ومسارح أنشأها أحد أمراء المماليك الأثرياء، وكانت هذه الحديقة ذات اسم جميل "حديقة الصفصاف والآس لمن رغب في الائتناس".
ومع دخول الفرنسيين ومن معهم الملهى الليلي المخصص للترفيه عن ضباط وجنود الحملة، أصبح السؤال لدى المصريين: هل نتسلى في حديقة الصفصاف والآس؟ أم نتسلى في ملهى على غرار جنود نابليون بونابرت؟ وتساءلوا أيضا: هل نشرب مشروباتنا الوطنية أم مشروبات الأوروبيين؟ من هنا جاء اختيار هذا الاسم لأن موضوع الرواية الرئيسي هو الهزة القيمية التي جعلت المصريين يعيدون النظر في طرائق حياتهم ومفاهيمهم وقيمهم بصفة عامة.
المقاومة بالرواية
يقول الروائي محمد جبريل: عندما تأتيني فكرة عمل ما لا أشرع فورا في كتابته، بل أقرأ عنه من كل زواياه، مثلا لو العمل رواية تاريخية أقرأ عن الفترة التي تعالجها من حيث  العادات والتقاليد والأزياء والأسواق حتى أصبح فردا من أفراد هذا الزمان أو الحقبة التاريخية أو الحي القديم، مثلا حينما كتبت عن عمر مكرم قرأت عنه وله، ناقشت عمر مكرم ومحمد علي هذا الحاكم الفرد الذي يعطيني تحديثا وتحضرا ويكبت إرادة المصريين، وعندما حاول عمر مكرم الذي رشحه الشعب أن ينبهه نفاه إلى دمياط ولم يشفع لعمر مكرم إنه هو الذي وضعه حاكما لمصر. 
نعم محمد علي أفاد مصر مثل ستالين الذي بني الاتحاد السوفيتي الذى عمل الستار الحديدي وحقق والتقدم في الرياضة والصناعة باستثناء الأدب فليس عنه تشيكوف ولا حتي جوركي. لكنه للأسف لم يعتمد على الناس البسطاء مثل محمد علي بالضبط وما هى مفهوم المقاومة؟ 
ويضيف جبريل: أحاول دائما في أعمالي الانتصار لمشروع المقاومة، ففي رواية "عائشة" الشعب أصر أن يأخذها، عائشة هنا دلالة أو مغزي أصر الناس أن يأخذوها وأخذوها بإرادتهم. وفي رواية "رجال الظل" الصادرة عام 2005، حصل انقلاب في الإمارة غير المسماة، وهي رمز العالم العربي، بعد الانفلات أحضروا الحاكم من باريس، ليكون مجرد واجهة وليس حاكما فعليا. والحمد لله كتبت هذه الرواية أيام حسني مبارك لتعكس تحول مبارك إلى واجهة، مجرد سيادة الحكيم والرئيس والزعيم في نظر العصابة المحيطين بها وهم يطيحون بكل شئ جميل من حوله.
كابوس مقيم
يقول الروائي محمود الورداني عن روايته "أوان القطاف" بدأت كتابة هذه الرواية بقصة قصيرة منشورة اسمها "رأس" تابعت فيها رأساً يتم ذبحه عدة مرات، وكانت أهميتها بالنسبة لي التخلص التام من الأفكار والانطباعات التي كنت حريصا عليها. 
والحقيقة أنه لم تكن لدي أي فكرة مركزية، ولم يكن هدفي إدانة القمع، ولا التغني بالحرية. كل ما أردته هو الإنصات لهذه الأصوات كلها على تنوعها واختلافها، فهي تشترك جميعا في أمر واحد أظن أننا جميعا نشترك فيه وهو تعرضنا المستمر للذبح وبشكل يكاد يكون يوميا، ليس فقط بالمعنى المجازي بل بالمعنى الحقيقي لأننا نعيش كابوسا طويلا. و"أوان القطاف" كانت عن هذا الكابوس المقيم، فهذه الرواية هي التي كتبتني تقريبا، ولم أكتبها ولم يكن أي من المعاني والمقولات التي تناولها عدد من النقاد قد وردت في ذهني أو خيالي على الاطلاق. إن الإدانة الحقيقية للقمع مثلا يمكن أن تكتبها في جملة واحدة اما الرواية فأظنها أمرا مختلفا.
أيام الشارلستون
ويقول الكاتب محمود قاسم: عندما كنت صغيرا كنت شديد الخصوبة فيم يخص الموضوعات التي أكتب عنها، وكنت أسيرا للكتاب الذين كنت أحب كتاباتهم وعلى رأسهم محمد عبدالحليم عبدالله إلا أن هذه الحالة أصابتني وأنا محترف فيما يخص بروايات الأطفال التي أحببت فيها كثيرا الفنتازيا والتخيل العلمي. أما الروايات فإنها في الغالب مرتبطة بقصص عشتها في حياتي باعتبار أن بهذه الروايات ملمس جلدي ورائحة أنفاسي وبصمة أصابعي، ومنها "ثلاثية الحنين"، وهي علي التوالي "وقائع سنوات الصبا" و"زمن عبدالحليم حافظ" و"أيام الشارلستون".
الحكاية أنني اكتشفت أنني لم أعد شابا صغيرا أو صبيا، وأن هذا الزمن لن يعود قط وصار أشبه بالحبيبة التي هجرتني إلى الأبد، ولا بد من إعادتها، وأدركت أنها لن تعود إلا إذا أعدت صياغتها فوق الورق، كما عشتها، وأحيانا بالأسماء الحقيقية لأبطالها مثل الأستاذ فيصل في رواية "أيام الشارلستون"، وهكذا أعدت صياغة السنوات الضائعة التي عشتها، والشخصيات التي كانت مني قريبة، وقد تكررت الحكاية مع روايات أخرى ومنها "أفعال الحب" التي بدأت في كتابتها وأنا أمارسها، وأعيشها، فأحيا باليد اليمنى وأكتب أيضا بيدي الأخرى، إلا أن هناك روايات ليست لها علاقة بذكرياتي مثل "آخر أيام الإسكندرية" التي تصورت فيها مدينة الإسكندرية القديمة تغرق في البحر في القرن الثالث الميلادي بعد أن شاخ حكامها فانقلبت المدينة على من يعيشون فوقها ويرتضون بهذا الدور.
أما رواية "الثروة" فقد كتبتها متأثرا بإعجابي الشديد برواية "صحراء التتار" للكاتب الايطالي دينو بوتزاتي باعتبار أن حياتنا هي مجموعة من الانتظارات المتراكبة. أما رواية "الركض فوق الماء" فهي تدور عن تسعة أشخاص من المشاهير في مجال الكتابة يعيش كتابهم الحقيقيون في الظل. 
وعن روايتي الأخيرة "المؤلف" فقد ترددت كثيرا في كتابتها، وهي بالتقريب عن القصة العاطفية الأخيرة التي عشتها قبل أن يداهمني المرض. باختصار كلماتي في رواياتي هي قطرات حية من دمي. (خدمة وكالة الصحافة العربية)