خطاب مضلل لتاريخ احتلال أميركا في 'كوخ في البراري'

رواية القس الاميركي هنري بيرسون تصم الهنود الأصليين بأنهم همج، متوحشون قتلة سالخو رؤوس سفاكو دماء، غدارون أغبياء، وثنيون لا حضارة لهم ولا تاريخ كما تكرس نظرية أرض بلا شعب لشعب بلا أرض.

د.تشارلز هنري بيرسون (1824 - 1906) قس أميركي ومؤلف قصص وكتب دينية. كتب عن الغرب الأميركي سلسلة من الكتب تقع كلها في خانة الأدب الدعائي والقصص الموجهة تحت عنوان جامع هو "سلاسل الغرب" من بينها مشاهد من الغرب وكتابات أخرى. نشر روايته "كوخ في البراري" التي ترجمها السيد النماس أخيرا، أول مرة في العام 1870 وأعيد طبعها مرارًا حتى وقت قريب ضمن سلاسل كتابات وقصص الغرب المغامراتية الإثارية التي تلاقي عند جمهور القراء الأميركيين العاديين رواجًا كبيرًا نظرًا لأنها كرست منذ بداياتها الأولى في القرن السابع عشر أيديولوجية تفوق العرق الأوروبي الأبيض على سكان أميركا الأصليين من الهنود.

الرواية التي صدرت ترجمتها عن دار صفصافة توصم الهنود الأصليين، شأنها في ذلك شأن نظائرها من روايات الغرب الأميركي، بأنهم همج، متوحشون، قتلة، سالخو رؤوس، سفاكو دماء، غدارون لؤماء، أغبياء، وثنيون، لا حضارة لهم ولا تاريخ. كما رسخت هذه الرواية ـ وفقا للمترجم في مقدمته لها ـ نظرية أرض بلا شعب لشعب بلا أرض (فلسطين آخرها وجنوب إفريقيا مشروع لم يكتمل والجزائر مشروع مجهض).

وأضاف النماس أن الرواية تقدم خطابًا مضللًا خادعًا لتاريخ استيطان واحتلال الأوروبيين القارة الأميركية تحت رايات بعضها ديني مسيحي مؤول وبعضها أخلاقي منتحل مفتعل وبعضها ثقافي ملفق مزور، الهدف من ورائه كله تأسيس وجود طارئ بوصفه وجودًا أصيلًا وإنكار وجود أصيل بوصفه وجودًا دخيلًا وإعلاء القوة فوق الحق أيًّا كان. وقد وجدت السينما الأميركية في مثل هذه القصص والروايات مادة لا تنضب لما لا يحصى من أفلام الوسترن التي استمر عرضها لعقود وعقود داخل وخارج أميركا، وأنفقت عليها مؤسسة هوليود بسخاء وحشدت لها من عناصر الجذب والإثارة ما كفل لها الانتشار وحقق الغاية من وراء نشرها، وهو تثبيت الصور الذهنية النمطية عن الاستيطان بوصفه تنمية وتطويرًا وعن المستعمرين بوصفهم أبطالًا مغاوير يرفعون راية التقدم ويحولون البيئة وما عليها من حال العدم المزري والتجوال الهائم في البراري والصيد البدائي والحياة بلا هدف إلى حال الزراعة والصناعة والتجارة والثقافة والترفيه، من اللامجتمع إلى المجتمع ومن البدائية إلى الحضارة. لقد حولت السينما أمثال الممثل جون وين إلى رمز لأميركا والأميركيين لحقبة طويلة من الزمن.

وتابع أن تلك الأفلام جابت العالم كله مبشرة بالكاوبوي الأميركي صاحب القبعة المميزة والبلو جينز الشهير بحصانه وبندقيته ومسدساته وحتى جاذبيته الجنسية الطاغية، الكاوبوي الذي لا يقهر. لقد حققت تلك الأفلام لأميركا الكاوبوي ما لم تحققه الأساطيل والجيوش والحروب فاستعمرت الأذهان قبل الأوطان وأدمنتها الشعوب الفقيرة المستعمرة أوروبيًّا قبل أن تنشب فيها أميركا استعمارها الثقافي والتجاري والسياسي حتى باتت الهجرة إلى بلد العم سام حلم كل الحالمين. بعدها ومعها خرج الكاوبوي إلى كل ركن من أركان الأرض ليمارس حقه! في عولمة قيمه وطرق عيشه وفلسفة وجوده. يقول د. صديق جوهر في ختام كتابه القيم الموسوم "عربدة الكاوبوي في بلاد الهنود الحمر ـ روايات الغرب الأميركي بين الوهم والحقيقة"الصادر عن دار صفصافة "لقد أدت الأساطير الدينية والخرافات الاستعمارية من أمثال خرافة ندرة عدد السكان الأصليين المنافية للتاريخ، وخرافة الأرض العذراء (أرض بلا شعب) وخرافة الوعد المحتوم (الأميركيون هم مبعوثو الرب لنشر أنوار الحضارة في بلاد الهنود الحمر الغارقة في ظلام دامس) إلى تشويه صورة السكان الأصليين وتبرير إبادتهم، علاوة على الخزعبلات العنصرية والاستعمارية التي نجمت عن التجربة الاستيطانية الاستكشافية في أميركا والتي أثرت بقوة بالغة في رسم الصورة الشائهة للهنود ومجتمعاتهم في الأدب ألأميركي بدءًا من روايات القرن السابع عشر وانتهاء بأدب أربعينيات القرن العشرين، إن التاريخ الأوروبي الذي ينضح بالعنصرية ويعج بحملات الإبادة العرقية واستخدام أقصى درجات العنف في أميركا والذي استغرق ما يربو على ثلاثة قرون من الزمن وانتهى باستئصال شعب الهنود الحمر وتهميش من بقي منهم على قيد الحياة داخل جدران المعازل والمحميات المبعثرة في شتى أنحاء الولايات المتحدة، هذا التاريخ التعيس كله لا يمكن محوه من الذاكرة الثقافية للعالم والإنسانية بمجرد قراءة حفنة من روايات المغامرات التي حاولت جهدها تجميل وجه تاريخ الاستعمار الأميركي القبيح".

ومهد القس والكاتب الأميركي بيرسون لروايته كاشفا عن الكثير من خلفيات كتابتها، حيث قال في تمهيده المعنون "النبي الكشاف" "إن بقيت هنا لمدة طويلة ستصير واحدًا من أبناء الغرب الخلص إلى حد أنك ستنسى تمامًا كل عشقك لنيوإنغلند. تلك هي تجربتي". هكذا قال أحد مستكشفي الغرب مفتول العضلات صاحب العقل الراجح والقلب الرحيم السمح، ذي القبضة الحديدية التي لم ترتفع يومًا ردًّا على ضربة جبان رعديد لكنها عندما كانت تشهر دفاعًا عن الحق تصبح أقرب ما تكون إلى "عظْمَة فك" شمشون الفتاكة بالفلسطينيين. كان صاحبنا قد هاجر من ولاية مين قبل عشرين سنة وكان واحدًا من أوائل المستوطنين الذين قابلتهم في البراري بالقرب من مسرح قصتي. فهل صحت نبوءته؟ آه كم كانت دقات أجراس سالم (مدينة السلام) تشنف الآذان بأحلى وأوقع النغمات في أول أحد بعد عودتي إلى ولاية أولد باي. إلا أن الرائد الكشاف قدم نفسه بصورة خاطئة ذلك أنه جلس بجوار مدفئته الكبيرة المبنية من الطين والحجارة عيناه تتوهجان لمعانًا وكلماته تنساب من فمه رخيمة عذبة بينما يتكلم عن ذكريات أيامه الأولى الباكرة! أي قبضة تجلت قوتها عند مصافحته أحد أبناء نيو إنغلند الخلص!"

وأضاف "ثم جاء الدور على أولئك الشرقيين الأميركيين الذين قالوا: "لسوف تسأم الغرب بأسرع مما تتصور”. وكانوا أيضًا على خطأ. عندما فارق ذلك المريض بادي الشحوب ذو الأوصال المرتعشة نيو إنغلند صادفته حياة جديدة في مينيسوتا. قال لي أصدقائي العارفون بخبايا الطب: "ضع بندقية على كتفك اقتل وكُلِ الطرائد الضارية في البراري". توقعت أن أصبح نهبًا للتقلبات المزعجة والخسران المبين إن أخذت بتلك المشورة لكن على العكس تمامًا فقد صلبت تلك النصائح عودي الواهن وأضفت مسحة من السحر والفتنة على فنون الكشف ومباهجه ذلك أنني تمكنت سريعًا أن أسهم ولو بنصيب صغير في واقع سبقني كثيرون من الرجال في تشكيله وإخراجه لحيز الوجود وبالمزج بين عالم الغابة ودنيا البراري أصبحت أقرب ما أكون من الطبيعة في جمالها وفي نضرتها وفي عظمتها، وقيض لي أن أزور أكواخ الهنود بيضاوية الشكل وأكواخ المستوطنين البيض حيث مررت بالكثير والكثير من المغامرات".

وأشار إلى أن كتابته لهذه الرواية تعد "سجلًّا لأحداث ومشاهد تجربتي في ارتياد واكتشاف الغرب الأميركي، أحداث عشتها وخضت غمارها وانغمست فيها بكل ما أوتيت من اهتمام وعزم، فكم من مرة ارتحلت وسط الحشائش وقد موجتها أنفاس الرياح المنبعثة بقوة ووسط الأزاهير الفواحة بعبير مسكر لا يقاوم وكم من مرة تناهى إلى مسمعي فيها عواء الذئاب وتغريد الطيور وكم من مرة طبعت النسائم الطلقة التي تبرئ المرضى قبلاتها فوق جبيني وأنا قائم أتعبد مجددًا في محراب أحد الأكواخ الخشبية. أجل، الشرق والغرب كلاهما عزيز عليّ ولا غنى لأحدهما عن الآخر. بينهما ما بينهما من أواصر القربى ووشائج النسب. منذ تمت هذه الرواية فصولًا كانت إحدى أعز القريبات ممن يتحلين بأكرم الخصال وأعلى درجات الإيثار والتي طالما ملأت دنيانا نورًا وجمالًا، قد حزمت أمرها على الاستقرار نهائيًّا في أحضان أكثر البراري التي عرفتها يومًا أثناء كتابتي لهذه الرواية، بساطة وبراءة. كان الأطباء قد طلبوا منها أن تقصد الغرب إنقاذًا لحياتها وقد وصلت إلى هذه البقعة من الأرض في الوقت المناسب لتموت فيها ما جعل قلبي يتعلق بهذه الأرض وترابها لداعٍ آخر موجع أليم. أن يربط الحب يومًا بين الشرق والغرب الأميركيين كما يتم الآن من خلال الروابط الوطنية والتجارية وأن تفضي هذه الرواية على بساطتها وتواضع أمرها إلى تحقيق مراد كهذا يسعد النفس ويثلج الصدر، لهي أقصى أماني المؤلف.

مقتطف من الرواية

العائلة الرائدة.. القنص الجريء

"ها قد تم حفر آخر هضبة وأنا جد سعيد بذلك". هكذا حدث توم جونز نفسه وهو متكئ على مجرفته مستغرقًا في التفكير.

كان توم فتى قويًّا في السادسة عشرة من العمر يعلو رأسه شعر بني أشعث ويعلو شعره قبعة من القش غير مؤطرة الحواف، وكان يرتدي بنطلونًا تراه فتحسبه مقلوبًا ظهرًا لبطن فما أكثر ما نالته يد الترقيع والرتق حتى انتهى به الزمن والعمل والقماش الذي كان إلى تخليق عدد من البناطيل. أما الجزمة عالية الساق، فلم تكن تغطي إلا أقل القليل من أطرافه السفلى، ويبدو أنها آلت إليه بالميراث وكانت ملكًا لأحد معدمي الجيل السابق. لكن أي بأس بالنسبة له أن تكون ثيابه رثة بالية عديدة الألوان متنافرة المنظر؟ أو أن تسمح ثقوب حذائه للتربة الخصبة العميقة أن تتسلل إلى جوانب قدمه وأطراف أصابعها؟ أليس هو "محتل الأرض وسيدها المطلق اليد" وهو ابن أحد المستوطنين الذين لا تحدهم قيود ولا تقف في وجههم حواجز أو سدود مثلهم في ذلك مثل الهنود الذين يجوبون براري موطنهم في الغرب الأميركي؟ إنه لم يسمع قط بأن ثمة "موضة أخيرة" ولا يعير انتباهًا لقصَّة ثيابه بالرغم من أنه، والحق يقال، يرغب أحيانًا في أن تكون تلك الثياب أنيقة ومريحة بعض الشيء. منزله كائن في صميم البراري كما أشرت سلفًا. إلا أن حيازة الأسرة هي حيازة متواضعة إذ تقل مساحتها عن الفدان مسيجة على نحو بدائي فج وتضم بين حناياها "المزرعة والأبنية الملحقة"، وهذه الأخيرة تتألف من منزل خشبي صغير وزريبة خنازير صغيرة والكوخ، كان هذا عند بدء قصتنا، وكان واضحًا من هيئتها أنها تعود في إنشائها إلى موسمين فائتين على أقل تقدير وهو الأمر الذي يشهد بجلاء على مدى فقر وسفه ساكنيها لأنهم أهدروا وقتًا ثمينًا كان بوسعهم فيه زراعة قطعة أرض كبيرة من تلك الأرض القابلة للحرث والفلاحة إن حولوها إلى مشروع تجاري وصناعي. لكنهم كانوا ينتمون لفئة من الناس لا تتمتع بتلك المزايا العقلية والعملية، كانوا قومًا لا يقر لهم قرار جوابين في الآفاق كشافي طرق ورواد سبل حدها حيثما تغرب الشمس. لكن لعلنا غفلنا عن الفتى المتكئ منذ وقت ليس بالقصير على مجرفته يذهب به التفكير كل مذهب. دعونا الآن نلقي عليه نظرة فاحصة. يقول المثل القديم: "ليس كل ما يلمع ذهبًا ولا كل ما يبرق فضة". من فضلك أيها القارئ تعال نتغاضى عن ثيابه ونتفحص وجهه. عينان زرقاوان صافيتان، حاجبان ذوا تقوس لطيف، ملامح متناسقة، فم وذقن ينمان عن عزم ودماثة موروثة وجبين عريض منبسط. آه لعلنا هنا أمام كنز مخبوء تحت أكداس ركام، من يدري؟.