الروح في حضرة الموت

الألم كان مهمازا للقريحة ووقودا للسير في طريق الإبداع والخلود وأجنحة حلّق بها أصحابها في عوالم الفكر والشعور.
السياب جسد ذاوٍ كأوراق الخريف ونشاز خلقي سبب له الألم وهو الشاعر المفتون بالنساء العاشق للمرأة الراغب في امتلاكها
يا يراعي ما زلت خير صديق ** لي منذ امتزجت بي وستبقى

"لا شيء يجعلنا عظماء غير ألم عظيم" 
ألفريد دي موسيه

الألم كظاهرة جسمانية أو نفسية مظهر من مظاهر النقص في الكائن البشري وآية عدم سويته، إنه يصيب الإنسان بالعجز ويحسسه بانسحاقه وبعدم قدرته على مزاولة حياته اليومية كغيره من بني جنسه.
وسواء أكان الألم جسديا أم نفسيا فإنه يلقي بظلاله الشاحبة على عالم اللاوعي ويمسح بكآبته على سراديب الروح فيحس الفرد بنقصه وربما عدم كفاءته - على الأقل - في ممارسة الحياة العادية كعامة الناس.
ولأن الإنسان أناني بطبعه، وغريزة البقاء متأصلة فيه، تأصل خلاياه وأنسجته، ولأن الموت والنسيان هما خصماه اللدودان، فإنه يسعى لاستكمال ذلك النقص المتجلي في المعاناة بضربيها الجسدي والنفسي بالتطلع إلى عوالم لا يرقى إليها الأشخاص العاديون وبالتحليق في سماوات تقصر مدارك الناس عنها، إنه اللاوعي يقاوم الفناء ويؤكد خصوصية الذات ويستنبت بذور البقاء، ويشفي الغليل - غليل نفس مهما كانت إنسانية -فهي حاقدة على الصحة الموفورة والاتزان النفسي للجماعة – القطيع - ولهذا كان شاعرنا الكبير المتنبي على حق حين قال:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ** وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم  
وإذا كان فرويد يفسر الإبداع على أنه التحول في اللبيدو فإن كارل جوستاف يونغ السويسري يفسره على أنه إحساس بالدونية ومن ثمة التسامي - عن طريق الإبداع - بهذه الذات إلى الظهور في مستوى الناس العاديين بله والتفوق عليهم والاستعلاء على مداركهم وطموحاتهم.
وقد كانت العرب على حق حين قالت:" كل ذي عاهة جبار" وهو قول علمي أكثر منه أدبي مضمونه جمع بين الفلسفة والعلم، وترك لعقل القارئ تحليل هذا القول واستقصاء جزئياته لإدراك مراميه البعيدة التي شرحناها من الوجهة النفسية والوجودية في بداية المقال.

الإبداع في الأصل موهبة لها ملكاتها الفطرية في وجدان صاحبها ويكون الألم عند البعض الوقود الذي يلهب مشاعر الأديب فيسابق الريح ويحرق المراحل ويخلد في شرخ الشباب وفي نضارة الصبا

وفي أدبنا العربي قديمه وحديثه مبدعون كبار – نثار وشعراء - ينسحب عليهم هذا القول وذلك التحليل المقدم آنفا.
لقد كان الألم مهمازا للقريحة، ووقودا للسير في طريق الإبداع والخلود وأجنحة حلّق بها أصحابها في عوالم الفكر والشعور، ومعارج عرجت بهم إلى قمة الأولمب بين أقدام أبولون فباركها بأن منحها الخلود ومنح إبداعها إكسير البهاء والبقاء.
والعجيب في أدبائنا الشعراء والكتاب المتألمين كانوا كالشهب في سماء الخلق الفني أضاءوا إضاءات سريعة واختفوا عن الوجود لم يثبتوا ثبات النجوم حتى لا يملها الرائي، فقد كانت حياتهم قصيرة، كان الألم والنشيج والأنين حجر الزاوية فيها، وأشد ما يلفت النظر في الشهاب سرعة حركته واندفاعه في السماء وشدة ضيائه الذي يكاد يخطف الأبصار ويكسف ما حوله من نجوم عتيقة.
 وكذلك كانت حياة هذا النفر من الأدباء ولعل شاعرنا الصداح فوزي المعلوف (1899 - 1930) خير من يمثل هذه الفئة وهو إن لم يصبه الداء العياء في صدر شبابه، بل كان مثالا للصناعي الناجح في البرازيل والغني المتألق الوسيم، ولكن معاناته كانت نفسية وجودية رأت الحياة بمنظار أبي العلاء، وتشربت معاني رباعيات الخيام، فبدا لها الوجود غفوة والموت صحوة والمال والبنون والصحة والوسامة مظاهر خداعة تتستر على هاوية العدم وقاع الفناء، وعانى هذا الشاعر من النفاق والرياء والكذب والغرور والحسد تلك الصفات المميزة للإنسانية في ملمحها العام اسمعه يقول:
من يمت ألف مرة كل يوم ** وهو حي يستهون الموت مرة
تعب كلها الحياة وهذا ** كل ما قال فيسلوف المعرة
واقرأ معي هذا المقطع الذي تجد فيه الشاعر قد نفذ إلى لباب الوجود – حسب رأيه - فإذا هو الزوال والفناء: 
نظرت وردة إلي وقالت ** أنت مثلي في الكون للكون كاره 
ويح نفس من الربيع ففيه ** أجتني بين آسه وبهاره 
ومن الصيف فهو يحرق أكمامي ** على رغمها بلفحة ناره 
والنسيم البليل هل هو إلا ** قاتلي بين وصله ونفاره 
يتصابى حتى أسلمه نفسي ** فيجفو والعطر ملء إزاره
وكان آخر ما نظم هذا الشاعر:
مرحبا بالعذاب يلتهم العين ** التهاما وينهش القلب نهشا 
مشبعا نهمة إلى الدم حرى ** ناقعا غلة إلى الدم عطشى
وقد خاطب قلمه أجمل خطاب مرة:
يا يراعي ما زلت خير صديق ** لي منذ امتزجت بي وستبقى
باسما من سعادتي حين أهنا ** باكيا من تعاستي حيت أشقى
وأما الشاعر اللبناني الآخر إلياس أبو شبكة (1903 - 1947) بودلير الشرق هذا الشاعر الذي أبدع في وصف الغواية، وتتبع العورة والسقطة، فقد كان الألم دافعه في الإبداع وحاديه في الكتابة اسمعه يقول:
من لم يذق في الخبز طعم الألم ** ولم ينكر وجنتيه السقم
من لم يغمس في هواه دمه ** من يمنع الأهوال أن تطعمه
من ليس يرقى ذروة الجلجلة ** ومن لم يسمر في الهوى أنمله
لن يعرف العمر شعاع الإله ** ولن يرى آماله في رؤاه
وفي البيت الثالث استلهم الشاعر قصة صلب المسيح أجمل استلهام، واللافت في هذا الشاعر البارع في وصف الغواية والمدرك لحقيقة الشعر والحياة معا وهي قول وليم بليك "اذهب وطور قابليتك على رؤية الرؤى حتى تصل بها إلى أفضل ما يمكن أن تكون عليه"، أنه عانى ألما جسديا ونفسيا معا عجلا به إلى هاوية العدم وما أجمل قوله:
إن الشقا سلم إلى السما ** فعدن ميراث لمن تألما
وأجمل منه هذا المقطع الظاهر فيه التأثر بالرومنطيقية الفرنسية الحزينة:
اجرح القلب واسق شعرك منه ** فدم القلب خمرة الأقلام
وإذا أنت لم تعذب وتغمس ** قلما في قرارة الآلام
واشق ما شئت فالشقا محرقات ** صعدت من مذابح الأرحام
رب جرح صار ينبوع شعر ** تلتقي عنده النفوس الظوامي
وزفير أمسي إن قدسته الروح ** ضربا من أقدس الأنغام
وعذاب قد فاح منه بخور ** خالد من مجامر الأحلام
وكذلك كان شاعر مصري الذي لا يعرفه إلا القليل صالح الشرنوبي (1924-1951) رفيق صالح جودت، جرته كآبته ومعاناته النفسية وقلقه الوجودي إلى الموت تحت عجلة القطار وهو القائل:
غدا يا خيالي تنتهي ضحكاتنا ** وآمالنا تفنى وتفنى المشاعر
وتسلمنا أيدي الحياة إلى البلى ** ويحكم فينا الموت والموت قادر
وقد كان الشاعر خليل شيبوب (1891 -1951) صريع الداء مكدود البدن تساقط نفسه أنفسا على حد وصف امرئ القيس لعلته، وزاده الألم النفسي قهرا وعذابا فانفجر يقول:
أنا بين الأمراض والحسرات ** ذهب صوتي وضاعت حياتي
كم دعوت السماء دعوة يأس ** عالما أن راحتي في مماتي
حبذا الموت يا ظلام فإني ** تاعس الحظ قد سئمت حياتي

وأما الشاعر السوداني التيجاني يوسف بشير (1912-1937) فقد كان الألم هو الآخر - وألمه هنا نفسي - كألم صاحبه دافعه إلى الإبداع وسلمه إلى التحليق في سماء الابتكار، وقد كان كسابقيه شهابا خطف الأبصار سناه ثم انتهى رمادا، اقرأ معي هذا المقطع الدال على معاناته:
ثم ماذا جدَّ من بعد خلوصي وصفائي؟
أظلمت روحي ما عدت أرى ما أنا راء
أيهذا العثير الغائم في صحو سمائي
للمنايا السود آمالي وللموت رجائي
آه يا موت آه يا يوم قضائي
وفي قصيدته قلب الفيلسوف يقدم لنا الشاعر ملامح شخص مرهف الحس، شديد الألم، تغطيه أسمال بالية على هيكل مكدود وهو يعني نفسه ومن على شاكلته: 
أطل من جبل الأحقاب محـتمـــلا ** سفر الحياة على مكدود سيمــــاه
عاري المناكب في أعطافه خـــلق ** من العطاف قضى إلا بـقايــــــاه
مشى على الجبل المرهوب جانبه ** يكاد يلمس مهوى الأرض مرقاه
هنا الحقيقة في جنبي، هنا قـبس ** من السموات في قلبي، هنـا الله
أما شاعر العربية الكبير وبلبلها الصداح ونسمتها المنعشة وعبيرها الفواح، شاعر تونس الخضراء أبو القاسم الشابي (1906 - 1934) فالألم الجسدي وقصور قلبه كانا سبب نكبته ومعراجه إلى سماء الخلود وطريقه إلى الشعر بعد أن امتلك أسبابه وتهيأت له فواتحه، ولسنا نتحدث عن الشابي المجدد والرومانسي وصاحب رائعتي "إلى الطغاة" و"إرادة الحياة" وإنما نتحدث عن الشابي المكدود العليل الصارخ من الألم المستشعر نهايته القريبة في شرخ الشباب ونضارة العمر ونكتفي بمقطعين يعبران عن معاناته الجسدية والنفسية من قصيدته "الصباح الجديد" وكأنه يؤمن في هذه القصيدة بتناسخ الأرواح، أو بفكرة البعث بعد الموت واستمرار الحياة إلى الأبد في أطوار وحيوات مختلفة، ولكنها حيلة اللاوعي وغريزة البقاء تسكن لوعته وتهديء من روعه حتى تحين القاضية، اسمعه يقول مخاطبا آلامه وجراحه:
اسكـني يـاجـــراح ** واسكـتي يـا شجـون
مـات عـهد النــــــواح ** وزمـان الـجـنـــــون
وأطـل الصـبـــــــــاح ** مـن وراء الـــقـرون
في فجـاج الــــــــردى ** قـد دفـنـت الألـــــــم
ونـثرت الدمـــــــــوع ** لــريـاح الــعـــــــدم
واتخـذت الـحيـــــــــاة ** مــعزفـا للنـــــــــغـم
أتـغـنى علـيـــــــــــــه ** في رحـاب الـزمـان
أما شاعر العراق الكبير ورائد شعر التفعيلة بدر شاكر السياب (1926 - 1964) فكانت معاناته جسدية،  جسد ذاوي كأوراق الخريف ونشاز خلقي سبب له الألم وهو الشاعر المفتون بالنساء العاشق للمرأة الراغب في امتلاكها الساعي إلى مواقعتها نزولا عند رغبتها واستجابة لاستعطافها، لقد كان السياب ظاهرة فريدة طواه الموت قبل الأربعين وأخرس صوت الألم فيه ولكن الألم خالد في شعره يصيبنا بفيروسه كلما قرأنا شعره وإن كنا لسنا كالقابض على الجمر، وفي قصيدة "دار جدي" وهي من أجمل قصائده التي توحي بهيبة صاحب الجلالة – الزمن - وتشعرنا بتفاهتنا وتفاهة الموجودات أمام عرشه الأزلي الأبدي، في هذه القصيدة إشارة إلى مرضه وألمه وآهته وإنه ليؤثر تأثيرا بالغا في وجدان قارئه حين يقول:
وفي ليالي الصيف حين ينعس القمر
وتذبل النجوم في أوائل السحــر
أفيق أجمع الندى من الشجـر
في قدح ليقتل السعال والهـزال
ولما استبد بالشاعر الألم وأعياه الصراخ وجفاه النوم وانتحرت خلاياه يأسا وسكن الموت في سراديب روحه وتلافيف مخه، ورأى هاوية العدم تنفتح لتبتلعه لم يجد غير الله يلوذ به، ولربما أدركه اليأس حتى من الله ولكنها حيلة اللاوعي وغريزة البقاء تعمل عملها وتحيي سنتها في مخلوقاتها اقرأ معي قوله:
شهور طوال وهذي الجـراح
تمزق جنبيَّ مثل المــدى
ولا يهدأ الداء عند الصبـاح
ولا يمسح الليل أوجاعه بالـردى
وقد جاءه الردى أخيرا فمسح الأوجاع وطوى الآهات وأخرس الأنات ولكنها خالدة في دواوين الشاعر.
هذه لمحة عجلى عن الألم - النفسي والجسدي - وعلاقتهما بالإبداع، استقصيناها عند بعض شعرائنا المحدثين، وإن كانت ثنائية الألم والإبداع ظاهرة موجودة في كل آداب الدنيا قديما وحديثا، وسيظل الألم هو الطريق إلى ذروة الجلجلة على حد وصف شاعرنا إلياس أبي شبكة، ولكن المشكلة أنه ليس في مقدور أي إنسان أن يخلد معاناته ويؤبد ألمه ويفرض على الزمان اسمه وإبداعه وبذلك ينفلت من هاوية النسيان، فالإبداع في الأصل موهبة لها ملكاتها الفطرية في وجدان صاحبها ويكون الألم عند البعض الوقود الذي يلهب مشاعر الأديب فيسابق الريح ويحرق المراحل ويخلد في شرخ الشباب وفي نضارة الصبا.