الرَّواتب.. قتلت خلفاء ووزراء

مِن المذهل حقّاً أنَّ تذهب الثَّروة التي حصدها العراق عندما ارتفع سعر النِّفط.
قيل في الوزير الخاقاني: إذا أهل الرُّشى اجتمعوا لديه، فخير القوم أوفرهم بِضاعة
الثَّقب الذي تتسرب منه مئات المليارات مِن الدولارات لم تحول لأشخاص فقط، إنَّما نُقلت إلى دولة أخرى
لا مساءلة لكانزي المال بينما قديماً إذا شُعر بفساد الوزير تُصادر أمواله، فيُظهر ما كنزه تحت الأرض

وصل الأمر بالعِراق، هو وإقليمه كردستان، العجز عن دفع رواتب الموظفين، وهذا آخر الزَّمان أن يعجز بلدٌ ثريٌّ عن دفع الرَّواتب! فأين ذهب المال مِن خراج النِّفط وبقية الموارد؟! يعلن أيِّ بلدٍ إفلاسه عندما الخارج مِن الميزانيَّة يصبح أكثر مِن الدَّاخل إليها، وهذا ما عرض الوزير العباسي محمد بن يحيى الخاقاني (ت:312هجرية) إلى العزل والمصادرة ثم فقدان العقل. كان الخاقاني همه إرضاء النَّاس والخليفة معاً، لكنه لا يفي بشيء «إذا رأى جماعة مِن الملاحية والعامة يصلون جماعة، ينزل ويُصلي معهم، وإذا سأله أحد حاجة دق صدره... حتى سُمّي دقّ صدره» (ابن الأثير، الكامل في التَّاريخ). بعدها كلف المقتدر بالله (قُتل: 320 هجرية) شخصاً يُدير الوزارة في الظِّل، وهذا يُعرف بـ«الدَّولة العميقة».

إنَّ الثَّقب الذي تسربت منه مئات المليارات مِن الدولارات ومازالت تُسرب، لم تحول إلى حسابات أشخاص فقط، إنَّما نُقلت إلى دولة مصير الجماعات المستحوذة على خزانة العِراق مرتبطين بها، إذا مال نظامها يميلون قبله. يسأل عن ذلك مَن قال أمام علي أكبر ولايتي في مؤتمر «الصَّحوة الإسلاميَّة التَّاسع» ببغداد: قادمون يا رقة قادمون يا حلب... حققنا الصَّحوة الإسلامية وانتصرنا بها (قناة العالم)! فعلاً، تحقق الانتصار على الشَّعب العراقي، أن يصل حاله إلى العجز عن دفع الرَّواتب، ولم يظهر خبر عن مئات المليارات، التي صُرفت على تلك الصَّحوة، والدَّولة التي تديرها! ولا مساءلة لكانزي المال، الذي ظهرت عليهم النّعمة بعد السُّلطة. بينما قديماً، إذا شُعر بفساد الوزير أو الوالي تُصادر أمواله، فيُظهر ما كنزه تحت الأرض.

مِن المذهل حقّاً، أنَّ تذهب الثَّروة التي حصدها العراق عندما ارتفع سعر النِّفط، وصار 150 دولاراً للبرميل الواحد، وظل على هذا الحال فترة غير قصيرة، ثم يأتي رئيس وزراء جديد، مِن الحزب نفسه، ويقول: لم أجد في الميزانية سوى ثلاثة مليارات؟! لكنَّ هل تجرأ رئيس الوزراء هذا لمساءلة محافظ البنك وهو مِن حزبه نفسه عن مصير الأموال؟!

عندما عجز المعتز بالله بن المتوكل (خُلع: 255 هجرية) عن دفع الرَّواتب ذهب إلى والدته يستدين منها، فهمَ المماليك الأتراك بخلعه، وهربت والدته عبر نفق عملته في دارها لمثل هذه السَّاعة، ولما أقرت على دفائن كنوزها، قالوا: لديها كلّ هذه الأموال وعرضت ولدها للقتل؟! بسبب الرَّواتب التي كانت تُسمَّى الأرزاق. عذب المماليك الأتراك المعتز بالله، ومُنع مِن الطَّعام والشَّراب ثلاثة أيام، وجصَّصوا سرداباً عليه (الطَّبري، تاريخ الأُمم والملوك).

كان المعتز أحد المخلوعين والمقتولين بسبب الأرزاق، لكنَّه ليس الأخير، والسبب هو الفساد، الذي يسبب عدم الموازنة بين الدَّاخل والصَّادر من الخزينة، وكذلك الإخلال بمصالح حيتان الأموال والعقارات، مثلما حاول المستنجد بالله (اغتيل:566 هجرية) إعادة أمورها إلى ما شرعه عمر بن الخطاب (اغتيل:23هجرية) في أرض العراق عدم توزيعها غنائم، هذا القرار الذي ألغاه الوزير السَّلجُوقِيّ نظام المُلك (اغتيل:485 هجرية)، وقام بتوزيع قرى العِراق إلى إقطاعيات خاصة، شأن منطقة الجادرية اليوم والقصور الرَّئاسيَّة السَّابقة.

نعلم جميعاً، أنَّ خطورة المعركة مع الفساد من ذلك المستوى، فكم قاضٍ اغتيل لاقترابه مِن حيتان الفساد. لأن الفاسدين جاءوا مِن مجاعة، وقد قيل في الوزير الخاقاني الذي بدأنا به المقال: «إذا أهل الرُّشى اجتمعوا لديه/ فخير القوم أوفرهم بِضاعة/وليس يُلام في هذا بحالٍ/لأن الشَّيخ أفلتَ مِن مجاعة» (المصدر نفسه)، ومَن كان جائعاً وصارت مفاتيح خزائن العراق بيده فما عساه يفعل، غير قتل كلّ مِن يحاول الاقتراب مما يُعرف بـ«مجهول المالك». كان آخر القتلى مجموعة شباب بالنَّاصريّة، برصاص تيارٍ يملك ما لا تملكه الدَّولة، وقبلها لم يكن قائده يملك غير ثيابه!