"الزبارة" مملكة خليفيّة عصية على النسيان

منطقة الخليج العربي شهدت فراغا إقليميا كبيرا جراء انهيار الدولة الصفوية وصعود الدولة الأفشارية ثم الزندية الأضعف.
الشيخ خليفة تميز بأنه لم يكن يفكر بنفسه بل بمساعدة الجميع على تكوين ثرواتهم الخاصة بهم
الشيخ محمد الكبير استفاد من تجربة العتوب السابقة

بقلم: د. محمد الزّكري

سبق ظهور دول العتوب في شرق جزيرة العرب في القرن السابع عشر مع مطلع القرن الثامن عشر أمران مهمان: ما شهدته تجارة القرنفل من تراجع كبير أو شبه انهيار. فقد كان حينها طلب على القرنفل من أوروبا وكان تجار الهند (كانت الهند مركز التجارة الكونية) يموّلون سماسرة القرنفل للتنسيق مع المزارعين في غرب أفريقيا والزنجبار والجزر المتناثرة في المحيط الهندي. ولكن نتيجة سوء إدارة من شركة الهند الشرقية الهولندية قرر الكثير من المزارعين إحراق مزارعهم على خوض علاقة مجحفة معهم. أمام هذا الانهيار الكبير لتجارة القرنفل انحرف اهتمام تجار الهند إلى اللؤلؤ ليكون أحسن بديل يحرك رأسمالهم بتمويل نشاطاته ومن ثم شراؤه لجني الثروات بتصديره إلى الأسواق الأوروبية عن طريق شركة الهند الشرقية.
في ذات الأثناء حصل أمر ثاني مهم وهو ذاك الفراغ الإقليمي الكبير جراء انهيار الدولة الصفوية وصعود الدولة الأفشارية ثم الزندية الأضعف والذي انعكس هذا على منطقة خليج العرب. فاغتنم تحالف قبائل العتوب ذات التنظيم الإداري العالي هذا الفراغ والتي بدأت تفد جماعات جماعات ابتداء من عام 1665 وعملت على سده بإنشاء إمارات عربية. تمكن تحالف العتوب من تأسيس عدة إمارات نجحت إمارتان بالبقاء إلى يومنا هذا، كان أُولَاهُمَ الكويت انطلاقا من عام 1716.
دول العتوب اعتمدت على ثلاثة عناصر حرجة كانت السر المكين لقيامها وصمودها. أول عنصر هو قدرتها على التنظيم المجتمعي المتميز وبجدارة. ثانيا قدرتها على تنظيم الجماهير في إطار صناعة الغوص. ثالثا قدرتها على - عند الضرورة القصوى - خوض معارك والانتصار فيها بغض النظر عن حجم وقوة الخصم. عناصر أكسبت إماراتهم شهرة منقطعة النظير بين العرب.

الفرحة تغمر "كبير الزبارة" (ابن خليفة) بسيادة المملكة الكاملة على أراضيها وأنها ذات منعة سياسية واقتصادية وعسكرية تضاهي القوى المحيطة بالمملكة

مباشرة مع بدأ تحالف العتوب في الكويت التعامل الإيجابي مع المستجدات الإقليمية السياسية والاقتصادية انخرطوا في عمليه تنظيم رحلات صيد وبيع اللؤلؤ. في هذه المرحلة المبكرة من خوض صناعة الغوص على اللؤلؤ ذكر التاريخ نبوغ رجل كان هو الأنجح في عملية إدارة وتنظيم الجموع البشرية ووضع ربابين مع ما يحتاجونه من طواقم بشرية ومؤنة غذائية فوق مراكب صيد اللؤلؤ مع تأمين الحماية لأسرهم من نساء وأطفال وكهول في فترة إبحارهم. رجل قائد وعبقري اسمه الشيخ خليفة العتبي الجميلي. 
الشيخ خليفة من مواليد بلدة الهدار- الخرج في جنوب شرق نجد الذي غادرها بعد هجرة قبائل عنزة الشهيرة إلى الشمال  - ولكنه ببعد نظره قرر قيادة جماعته إلى شرق جزيرة العرب. تميز الشيخ خليفة بأنه لم يكن يفكر بنفسه بل بمساعدة الجميع على تكوين ثرواتهم الخاصة بهم ومن هؤلاء مساعدته لمحمد بن رزق الخالدي لينمو بتجارته والذي سيلعب دورا مهما لاحقا. 
هناك إشارات توضح أن الشيخ خليفة الجميلي كبير العتوب كان يعتقد بأنه الأجدر بقيادة التحالف وبمشيخة إمارة الكويت نتيجة نجاح إسهاماته التنظيمية والصناعية والإدارية في أمور اللؤلؤ وهو أهم مصدر من مصادر رزق سكان هذه الإمارة الفتية، لكن هذا الأمر لم يحصل إذ نجحت عائلة الصباح الكريمة (ذات العلاقات الوطيدة مع قبائل الشمال) بنيل هذه المهمة، وأصبحوا شيوخ تحالف العتوب في الكويت بلا منازع.
حروب الكويت الأولى أتت مبكرا جدا. ففي هذه الأثناء تطورت صناعة وتجارة اللؤلؤ في دولة الكويت فتطلع تجار الكويت إلى توسيع منطقة نفوذهم وذلك ببيع حصاد اللؤلؤ مباشرة إلى الهند وهذا الأمر يتطلب تجاوز إمارة الكعوب التي كانت تحتكر عملية البيع المباشر مع الهند. دخل كبير الجميلات الشيخ خليفة العتبي في معركة بحرية مع بقية حلف العتوب ضد مراكب الكعوب في عام 1762 ومن ثم حسم تحالف القوى القبلية المنظمة في الكويت الأمر لاحقا بانتصارهم عسكريا في معركة بحرية (الرقة) على أسطول إمارة الكعوب.
كان مجاراة العتوب لأسطول إمارة الكعوب نقطة تحول محورية في تاريخ كل منطقة خليج العرب. لقد تغير كل شيء في خليج العرب بعد هذا الانتصار. فهذا الانتصار فتح كافة نشاطات صناعة اللؤلؤ على مصاريعها من الكويت إلى الهند لكل فرد وعائلة وإمارة تمتلك القدرة والملكة على خوضها بدون عائق احتكاري. إن كل نجاح لاحق في مجال الأعمال المتصلة باللؤلؤ مدين لانتصارات العتوب هذه.
في هذه الأثناء توفى الشيخ خليفة العتبي وخلفه ابنه (تقريبا 1763)، وهذا الخلف يستحق لقب الرجل الكبير بجدارة وهو موضوع المقالة وقطعا أعني الشيخ الكبير محمد بن خليفة العتبي الجميلي. لا يوجد عندي شك أن الشيخ محمد بن خليفة، المؤسس لمملكة الزبارة، على قدر عال من الحنكة والدراية مع حيازته على ملكة التخطيط الاستراتيجي.
ويجدر بنا التأكيد على أن الشيخين خليفة ومحمد كانا منضبطين في إطار أعراف حلف العتوب وهو عدم “الخروج” على رأي الجماعة. فلم ينازع لا الشيخ خليفة ولا ابنه الشيخ محمد الكبير قرار التصويت وبيعة التحالف لأسرة آل صباح الكريمة. ولكن امتدادا لرؤية والده وثقت عزيمة الشيخ محمد بن خليفة على تأسيس مملكة أخرى في شرق الجزيرة العربية حيث إن الفراغ السياسي في خليج العرب لا يزال شاغرا ولا بد من سدة.
استفاد الشيخ محمد الكبير من تجربة العتوب السابقة التي لم تحسن بادئ الأمر (تقريبا 1665) التنسيق مع قيادة إمارة بني خالد في الأحساء مما تسبب في خوض معركة قديمة أثارها آل مسلم العشيرة الخالدية. المراقب للتاريخ يشهد أن العتوب لا يبنون دولهم بمنازعة مراكز القوى ولكن بالتنسيق مع القوى المحيطة. فهذا هو تحالف العتوب لاحقا (تقريبا في عام 1716) ينسق مع إمارة بني خالد عند تأسيس الكويت فنجحوا في ذلك.
لذلك تحرك الشيخ محمد بن خليفة كبير العتوب على الأرجح مباشرة بعد مشيخته على جماعته أي في عام 1763 بوضع خطة فائقة الذكاء استغرقت مراحلها قرابة سنة أو ثلاث سنوات لتأسيس مملكة الزبارة الخالدة. فقرب الشيخ محمد بن خليفة صديق والده الشيخ محمد بن رزق الخالدي والذي كان على تواصل جيد مع والي البصرة مع شبكة عريضة من الاتصالات ونفوذ واسع وثروة طائلة.

عقد الشيخ محمد بن خليفة العتبي مع مستشارية الرأي على ترشيح قرية صغيرة اسمها “الزبارة” كمكان لتأسيس الإمارة. علما أن العرب تطلق اسم الزبارة على القرى الساحلية ذات آبار ماء مطوية بحجارة أو زباري إذا كانت غير ساحلية. فهناك على سبيل المثال زبارة في خورفكان وهي قرية ساحلية قديمة جدا. وهناك زباري في دير الزور وهي قرية قديمة.
بعد هذا الاتفاق أوعز الشيخ محمد العتبي إلى الشيخ بن رزق الخالدي العرج (تقريبا عام 1763) على مقر إمارة بني خالد في الأحساء لاطلاعهم على أبعاد رؤيتهم. بعدها سار الشيخ بن رزق إلى قرية الزبارة.
كان يسكن قرية الزبارة فرع سُليم من قبيلة البنعلي من قبل عام 1700، وكان يقطن قرية الفريحة القريبة منها أيضا فرع المعاضيد من قبيلة البنعلي مثل ما كان يقطن الكويت عوائل من قبيلة البنعلي. ارتبطت قبيلة البنعلي بعلاقة وطيدة مع الشيخ محمد بن خليفة الجميلي. فقبيلة البنعلي الكريمة كانت متواجدة في الخليج منذ عهود سبقت "محدار" قبائل الجميلات من موطنهم الأصلي الهدار باتجاه خليج العرب. كما دخل البنعلي مبكرا جدا في حلف العتوب مع الجميلات عندما شاهدوا فيهم الحكمة وبعد النظر مباشرة عند وصولهم الأول سواحل خليج العرب قبل الاستقرار في الكويت. 
والاهتداء إلى قرية الزبارة كموضع قدم لتأسيس المملكة لا يمكن فهمه خارج تأثير علاقات عشائر البنعلي على الشيخ محمد بن خليفه كبير العتوب. كما أعجب الشيخ محمد الكبير بنبل أخلاق وبأس ومنعة قبائل البنعلي ووفائهم فتزوج منهم ليجعلهم نِعْمَ "خيلة" لكل أبنائه ماعدا ابنه الأول الشيخ خليفه بن محمد بن خليفة العتبي الجميلي وفي تقديري أن كل أبنائه من مواليد الكويت.
قام الشيخ بن رزق الخالدي ببناء دار كبيره في قرية الزبارة وجعل بها ديوانا كبيرا ثم قام الشيخ محمد بن خليفة بمهمة زيارة قرية الزبارة بشكل متكرر لمدة سنة أو أكثر. في خلال هذه السنين نمت الزبارة إلى بلدة وفي كل مرة كان يستقبل فيها الشيخ محمد بن خليفة أهل بلدة الزبارة للاطلاع على أحوالهم والقضاء في أمر اختلافاتهم ومعالجة أوضاعهم الاقتصادية وسد ثغرات متطلباتهم التموينية. 
ما قام به الشيخ محمد بن خليفة لأهل بلدة الزبارة مهم جدا خصوصا إذا ما استذكرنا ما ذكره المؤرخ سيف البنعلي أن قبيلة البنعلي قبيل وصول الشيخ محمد بن خليفة إليها حاولوا تنظيم عملية الغوص ولكنهم لم يتوفقوا إلى ذلك نتيجة امتناع تسديد أحد القبائل ما عليهم من قروض مالية ضخمة لصالح قبيلة البنعلي الزبارية مما تسبب انتكاسة للقبيلة في تطوير انخراطها في صناعة الغوص مع التجار في خليج العرب.
تكرار تردد الشيخ محمد بن خليفة على الزبارة كشفت لجماهير الزبارة عن حجم خبرته في إدارة جماهير الغوص بكل حلقاتها. وتبدي لعوائل بلدة الزبارة أن هذا القائد محاط بطاقم إداري منظم من أمثال الشيخ بن رزق الخالدي الحرمي السديري. لكل الأمم لحظاتها التاريخية التي لا تنسى وكان سنة 1765/1766 هي تلك اللحظة التاريخية الفارقة في مسير بناء المملكة الخليفية. ففي ذلك العام تقدمت زعامات الزبارة من البنعلي والنعيم والعتوب والجلاهمة والمعاودة بمبايعة الشيخ محمد بن خليفة العتبي الجميلي ونسبوه كعادة النجادة الى اسم كبير العائلة البارز وتحويلة من لحظة البيعة إلى لقب له وهنا انطلق لقب "آل خليفة" بتسميتهم له بـ الشيخ محمد بن خليفة آل خليفة ولتنطلق أعظم مملكة أنشئت في العهد القريب من تاريخ العرب في خليج العرب.
مباشرة قام الحاكم الشيخ محمد آل خليفة كبير الزبارة بتعمير مملكته وقام ببناء قلعة الحاكم والتي تطل على مدينة الزبارة وهي ذات جدران بسماكة خمسة أذرع والمعروفة بقلة "مرير" (أي مرة على الغزاة بمناعتها وتحصينات دفاعها) وذلك في عام 1766. فارتحل إليها عرب من عوائل شتى وعلماء ومهرة في شتى المجالات وكبرت إلى حجم المدن. وسّع الشيخ محمد آل خليفة المدينة وحصنها بسور الزبارة وذلك في عام 1768 كما شق قناة من الساحل مسافة ميل وزيادة إلى داخل المدينة تسمح للسفن البحرية بعبورها لتفريغ بضاعتها مباشرة في سوق المدينة. كما عمر المدارس والجوامع والساحات في المدينة. واكتظت الزبارة بأفاضل أناس خليج العرب وازدهرت بهم.
وفي عام ١٧٦٨ أعلنت مملكة الزبارة سيادتها المطلقة على أراضيها على لسان حاكمها الشيخ محمد بن خليفة آل خليفة الذي أنشد:
ابن خليفة دايخ سكران ** لا يرى ذياب والا الديوان 
باني له في الزبارة كوت ** ما على الراضي من الزعلان
والتي تعني أن الفرحة تغمر "كبير الزبارة" (ابن خليفة) بسيادة المملكة الكاملة على أراضيها وأنها ذات منعة سياسية واقتصادية وعسكرية تضاهي القوى المحيطة بالمملكة وهي قوى القواسم (بقوله ذياب) وقوى آل مذكور (بقوله الديوان). ويقصد من قوله "الكوت" الحصن المنيع المزود بكافة المؤونة لمجابهة الغزاة. وأنهى الشيخ قصيدته بتعبير الرضى كناية عن شعور الرضى بين أهالي مملكة الزبارة على إنجازاتهم بقيادة كبيرها الشيخ محمد بن خليفة آل خليفة أول كبير لمملكة الزبارة الخليفية.
أنثروبولوجي بحريني - يقيم في ألمانيا