السؤال روح الإيمان: قراءة في أعمال نصر حامد أبوزيد

كتب الباحث المصري الراحل تمتاز بنوع من العمق التحليلي النقدي العلمي الدقيق ليس فقط في وضوحها المنهجي، بل أيضا في خلفياتها النظرية والمعرفية.

إضاءة:

تمتاز كتب نصر حامد أبوزيد بنوع من العمق التحليلي النقدي العلمي الدقيق، ليس فقط في وضوحها المنهجي، بل أيضا في خلفياتها النظرية والمعرفية. والقليل من القراء هم الذين انتبهوا إلى محاولته الفكرية العلمية، والاجتماعية الثقافية في إنتاج وعي جديد بالمسألة الدينية في إطارها الشامل الثقافي الاجتماعي، والسياسي التاريخي بعيدا عن الإسقاطات الإيديولوجية لصحابة الأقنعة الدينية، وجماعة الأقنعة العلمانية.

وغالبا ما تم تبخيس مجهوده العلمي بدوافع رافضة للتغيير والتحرر من أسر التصور السياسي السلطوي الاستبدادي في الدين، إما بسبب الدفاع عن السيطرة والهيمنة حماية للمصالح المادية، أو بحكم العبودية المختارة التي تطاول مع زمن القهر سحر تلاعبها بالعقول، وتحكمها في القلوب.

كتابات أبوزيد زعزعت وفككت الكثير من البديهيات الدينية البشرية التي حصنت سطوتها باسم الدين والقداسة، وفق غالبا تصورات أسطورية الغيبية، وهي ليست أكثر من تعبيرات عن اجتهاد بشري في حماية الوجود الاجتماعي السياسي لفئة معينة داخل المجتمع.

كما أن الرجل استطاع أن يعيد للسؤال المعرفي الإيماني قيمته الإنسانية في تحقيق المشروع الوجودي للاجتماع الإنساني بعيدا عن إرهاب نفي الإنسان وتغييب الحياة الدنيا انتصارا لثقافة القهر والقمع والعنف والموت، فالكثير من الاعتراض والنقد الذي جوبهت به كتب نصر حامد هي من جهة عبارة عن ذعر وخوف قوى السلطة والتخلف من عري القهر وانكشاف حقيقة المستور وراء رداء قداسة الحقيقة المطلقة، ومن جهة أخرى ليست هذه الاعتراضات سوى انتقادات لا ترقى إلى مستوى النقد المنتج لبديل معرفي في تشكيل الثقافي الاجتماعي، بل هي ليست أكثر من مزايدات إيديولوجية في إدعاء النقد الجذري للمسألة الدينية في الحياة والمجتمعات.

من هنا غيب مجهود الباحث المفكر أبوزيد في بناء روح الإيمان من خلال أسئلة تستأنف آفاق تعدد الأصوات الحوارية في بنية النصوص الدينية، وفي البنية الثقافية الاجتماعية التاريخية، للسردية الاعتقادية الإيمانية، فكيف استلهم وتفاعل المفكر الباحث أبوزيد مع مفهوم التركيب في ترابطاته المعقدة على مستوى النص القرآني وعلى مستوى علاقاته بباقي النصوص الثقافية، وفي جدله -النص- مع الإنسان والواقع الاجتماعي التاريخي، متكونا ومتطورا في سيرورة من التعديل والإضافة، أو الناسخ والمنسوخ، وفق ما تطلبته سياقات أسباب النزول، بعيدا عن الاعتقاد في أزلية النص، أو في ديمومة النزوع الوصفي للواقع في أحكام شريعة فرضتها ظروف وشروط المرحلة على كل المستويات المعرفية الثقافية والاقتصادية والاجتماعية السياسية؟

"للنصوص لغتها الخاصة، أو شفرتها الثانوية، داخل نظام اللغة. ومن خلال هذه اللغة الثانوية تطرح النصوص الدينية العقيدة= (الإيديولوجية) الجديدة، وهي العقيدة التي يحاول بها النص إعادة تشكيل وعي المتلقي. لكن حتى هذه العقيدة الجديدة لن تكون عقيدة جديدة تماما فالنص ينحاز في النهاية لإيديولوجية لها بذورها أو إرهاصاتها في الثقافة...إذا انتقلنا من المجال الثقافي العام بشقيه المعرفي والإيديولوجي إلى مجال علاقة النص الديني بالنصوص الأخرى السابقة عليه والمعاصرة له لوجدنا أن النص قد انخرط في علاقات سجالية مع تلك النصوص. وقد اعتمدت تلك العلاقات السجالية على آليات تناصية على درجة عالية من التعقيد"1.

لهذا يرى المفكر أن استئناف المشروع الوجودي للإنسان في عمارة الحياة الدنيا يبدأ من هذا الأفق الإيماني المتحرر من سلطة النصوص الدينية، أي من سلطة خطاب الحقيقة التي فرضها التغلب والقهر في التاريخ العربي الإسلامي بشكل أحادي يدعي القداسة في منع وإقصاء أو اغتيال التنوع والتعدد والاختلاف كحالة طبيعية صحية في الوجود التاريخي الإنساني.

لكن إلى أي حد استطاع حقا المفكر الباحث أبوزيد الاستجابة لطموحاته وأفكاره النقدية، ومقارباته المعرفية والفلسفية العلمية، دون السقوط في نوع من التدين الأقرب إلى تأسيس فرقة دينية جديدة؟

الرجل استطاع أن يعيد للسؤال المعرفي الإيماني قيمته الإنسانية في تحقيق المشروع الوجودي للاجتماع الإنساني

أولا /السؤال أو المنفى، الكلام أو الموت

يصعب جدا في ظل تصور من بين تصورات كثيرة في احتكاره خصوصية التسمية (الإخوان المسلمون، الجماعة الإسلامية، الصحوة...)، وعمومية التمثيل الدلالي للدين/الإيديولوجية الذي ساد وسيطر وشاع، أن نفكر بمنطق السؤال لأن الديني في سيرورة صراعه التاريخي مع تصورات ومعتقدات ورؤى خلافية مختلفة استطاع أن يسود ويسيطر عبر تاريخه الطويل، بمنطق التغلب والقهر، بعيدا حتى عن إدارة الاختلاف في حده الأدنى: منكم الأمراء ومنا الوزراء. ومن ضمن آليات تأبيد وجوده الاجتماعي السياسي هذا، هو أن يتحول إلى حقيقة مطلقة، ناسفا أرضيته التاريخية، متنكرا لبشريته في قناع القداسة المفارقة للوجود الإنساني، ولذلك حارب طويلا تاريخية النصوص الدينية مختبئا وراء أزلية القرآن ليخفي تصور اجتهاده البشري. لهذا فالدين يمقت ويكره الإيمان/السؤال إلى حد وصم صاحبه بالزندقة والكفر. هنا تكمن حلقته الأضعف وعورته التي يستميت ويقاتل في حجبها بعشرات الأوامر والنواهي المهددة، بالنفي والتغريب، وسحب عضوية الانتماء المجتمعي، وهدر الدم، وبالكفر والعذاب السعير. إن أكبر ما يخشاه الدين أن ينزله سؤال الإيمان من سطوة سدته العالية، ويمشي في الأسواق ويأكل بين الناس، كفعالية بشرية ضمن فعاليات كثيرة يحتضنها الوجود الاجتماعي الإنساني.

في سياق هذا الصراع التاريخي بين سلطة الدين/إيديولوجيتها ونصوصها، ثوابتها، نهائيتها الناجزة والمطلقة، استقرارها المألوف بالتسلط والتكرار القهري، وفق آليات القمع والحفظ والاسترجاع وتنميط الذاكرة، وبين الإيمان/السؤال كسيرورة مستمرة متغيرة ومتطورة في النظرة والفعل والتفكير، وفق آليات الفهم والتحليل والنقد والاستنباط والاستدلال والاستنتاج، في محاولة دؤوبة لبناء عملية اكتشاف السؤال، قلت في سياق هذا الصراع تحمل نصر حامد أبوزيد عبء ومشقة الإيمان/ السؤال في محاولة منه عدم التنازل عن شرعية وأحقية امتلاك روح الإيمان الذي هو سؤال الفهم والمعرفة والتحليل القائم على الشك والنقد والرفض امتدادا لما فعلته فعاليات مختلفة في تاريخ الفكر العربي الإسلامي قديما كالمعتزلة وحديثا كطه حسين وعلي عبدالرازق وزكي نجيب محمود...، فهو- أبوزيد- يعرف "أن المنهج سؤال متواصل دائم، وحين يتوقف السؤال ويتصور الباحث أنه حقق نضجه المنهجي، فإن ما يكون متحققا بالفعل هو الجمود المنهجي"2. لذلك لا يريد أن يكرر التنازل العلمي المعرفي الذي قدمه أولا محمد عبده في "رسالة التوحيد" حيث تراجع في طبعته الثانية عن موقف المعتزلة من مسألة أزلية القرآن، ثم ثانيا الترضيات التي قدمها كل من طه حسين وعلي عبدالرازق وزكي نجيب محمود...

وكما قلنا سابقا فالإيمان فردي بامتياز ولا شأن له بالجماعة، وإلا تحول إلى دين ثوابت وعصبية مولدة للعنصرية والكراهية والاقتتال المذهبي الطائفي، لهذا يمكن القول بأن سؤال الإيمان أقرب إلى مفهوم الكلام في فرديته وفرادته النوعية في التغيير والإبداع عكس الدين الأقرب إلى اللغة في صورتها الجماعية، في ثباتها وتحجرها ومقاومتها للتغيير والتطور.

"هكذا أدرك دي سوسير من خلال تفرقته بين اللغة والكلام أو بين الاجتماعي والفردي في اللغة بعض عناصر الصراع الإيديولوجي في الحياة الاجتماعية على أرض اللغة، فهناك نصوص تنطقها اللغة وتلك هي التي تسمى نصوصا على سبيل المجاز والتساهل، وهناك نصوص لديها كلام تريد أن تنطقه من خلال اللغة". 3

بناء على هذا التمييز يمكن فهم الصراع بين نصوص الخطاب الديني التي تتشبث بالثبات والتكرار القهري للمعطى اللغوي الحرفي بخلفيات أسطورية مانعة للتفكير وإنتاج المعرفة، ونصوص نصر حامد أبوزيد التي لديها كلام حول الحياة والمجتمعات في تاريخيتها وشروطها الثقافية الاجتماعية تريد أن تقوله من خلال اللغة. إنه صراع القهر والثبات والموت ضد الحرية والتطور والحياة والكلام، بما يذكرني بالكتاب الجميل لمصطفى صفوان "الكلام أو الموت". في هذا السياق ومشاركة في هذا الأفق الكلامي والإيماني الفردي انتصر أبوزيد للحياة وللدينامية الاجتماعية في حركة تطورها التاريخي، خدمة لنماء وتطور وحصانة القيمة الإنسانية للإنسان، كما تحمل محنة ومشقة السؤال في مواجهة آلة المنفى وثوابت الموت الرهيبة.

ثانيا/ عبء السؤال الإيماني

كثيرة هي الكتابات المتهورة، ذات الرؤية الضيقة التي يدفعها غضبها العصبي، وانفعالات ردود أفعالها إزاء واقعها القهري الصعب، إلى صب جام غضبها وسخطها على الدين في شخص معتقدات وتصورات وممارسات الناس العقائدية، مختزلة الصراع المجتمعي بمستوياته البنيوية والتطورية في مخاصمة المعتقد الديني. لكن نصر حامد أبوزيد بعيد في كل ما كتبه عن هذا النمط من التفكير، وعن هذه السياقات الانفعالية، وعن هذا الأفق الضيق لمسار ومصير الإنسان، فهو استطاع حمل عب السؤال بفضل اقتداره المعرفي وتمكنه العلمي المؤسس على تكوين ثقافي بكل ما استجد في الفكر الإنساني من خلفيات معرفية وفلسفية وابستيمولوجية، ومن مقاربات ومنهجيات حديثة في الفهم والتحليل والنقد، وذلك من خلال اشتغاله المتواصل والمتطور لمنهجية حديثة تستلهم المنجز الإنساني القديم من خلال أسس ومتطلبات وأسئلة ما يطرحه الراهن من تحولات ومتغيرات وسياقات ورهانات، وما ينفتح عليه من آفاق وسيرورات معقدة التركيب والترابط والتفاعل في كل المجالات، الشيء الذي يستلزم معرفيا وفلسفيا ومنهجيا رؤية كل الوجوه التي تسمح بتوسيع زاوية المنظور.

لهذا يمكن القول إنه تمكن من اقتراح قراءة نقدية جديدة ليس فقط لسؤال الدين/ الإيديولوجية، كما يختزل البعض عطاءه الإنساني، بل أيضا - وكما كان يطمح- التأسيس لقراءة تحليلية نقدية للفكر والواقع العربيين في أزماتهما العميقة وانسداداتهما التاريخية الآسنة. لذلك أدرك أن اكتشاف محنة السؤال كامن في وحل الأرض، في تاريخية الوجود الاجتماعي وما يمفصله من سلط في البديهيات والمسلمات، وفي اللغة والنصوص، وفي التصورات والمعتقدات، بمعنى في كل الانساق الثقافية والاجتماعية. من هنا إصراره العنيد على ما يخبئه الاستقرار والثوابت والعقائد والقداسة والحقيقة المطلقة من قهر وتسلط وسلطة في اللغة والنصوص والمقولات والتصورات والممارسات، وبحثه المتواصل أيضا في بناء سؤال التاريخ وجدلياته المختلفة في الفكر والثقافة، وفي الحياة والمجتمع، سؤال التاريخ الذي تم استعباده باسم سلطة قداسة الدين في نوع من الاسترقاق المعرفي والاجتماعي والسياسي والاعتقادي العصبي المولد للطوائف والعصبيات والمذاهب ومختلف أشكال الجماعات والفرق المسكونة بهواجس الطهرانية على إيقاع العنف وقتل النفس وإراقة الدماء. إزاء كل الوثنية الاستلابية لسلطة الحقيقة المطلقة، التي تتستر وراء النصوص الدينية، كالقرآن والحديث والإجماع...، أو خلف الصحابة والأئمة وكل الموروث الديني، قام أبوزيد بعقلية المفكر الباحث بتفكيك الخطاب الديني الذي حول الإنسان في الحياة والمجتمع إلى مجرد دابة تمشي على الأرض لا تملك حرية قرار التحكم في زمام مصيرها، كقطيع من الأتباع العبيد يستثمر في اقتصاد التخلف والعنف والحروب. وبناء على تكوينه العلمي والثقافي حاول نزع قناع القداسة عن التاريخ والفاعلين الاجتماعين، كما انتصر لروح الإيمان في معانقة سؤال الخلاص الاخروي في عمقه الدنيوي البشري المنفتح على الحياة والمجتمع بما يخدم سعادة الإنسان في تقدم وتطور قيمه الثقافية والاجتماعية، حياته المادية والرمزية، في إطار نماء قيمته الإنسانية مهما كانت لغته ومعتقداته....

فالكشف عن أسس ومنطلقات وآليات الخطاب الديني في كتب نصر حامد أبوزيد يسمح لنا بالقول وفق لغته المفهومية والمنهجية على أن كتبه هي أولا مُنتَج ثقافي تمفصل فيه بعد التركيب بين المحلي القديم والحديث والمعاصر والفكر الإنساني في أبعاده المعرفية والابستمولوجية والفلسفية والإيديولوجية، كما أنها ثانيا مُنتِج ثقافي يسهم في بناء السؤال وإنتاج معرفة علمية وتفكيك المسلمات السائدة والمسيطرة باسم الدين، إلى جانب أنها تعمل على تغيير الوعي والتحرر من سطوة وتسلط وقهر قداسة السلطة بمختلف أشكالها. والجميل أن القارئ لكتبه يستأنف وجوده التاريخي الاجتماعي الإنساني، ويمتلك حقه في روح الإيمان بتحمل مسؤولية عبء السؤال في سيرورته الحيوية والمتدفقة والمتطورة باستمرار، بالتحرر من الأجوبة الأحادية والوحيدة للفرقة الناجية الصراطية المتلبسة زورا وبهتانا لقناع القداسة. قراءة تحررك من أسر القطيع والعبودية والاستقرار والثوابت الزائفة، ومن الإذعان والخوف من جرأة السؤال الإيماني إزاء سلطة النصوص الدينية التي قمعت الحرية والتنوع والتعدد والاختلاف، كما نالت من كرامة الإنسان بفرض الاسترقاق في صورته الفظيعة، حيث التحكم في العقول بإيقاف عملية التفكير، مع التسلط على القلوب بالترهيب والتخويف من فرح ونعم الحياة الدنيا، بالانتصار لنزوة الموت ضد رغبة الحياة.

كتابات أبوزيد تمتلك عمقا معرفيا أصيلا، وتحليلا نقديا خصبا منتجا للوجوه والمكونات السوسيولوجية والثقافية والتاريخية للمجتمعات العربية والإسلامية، ذلك التنوع والتعدد والاختلاف الذي غيبه طغيان قداسة الفكر والاجتهادات البشرية المسيجة إلهيا بسلطة النصوص الدينية تثبيتا وتأبيدا للمصالح في شكل سياسي عقائدي يسهل الاستئثار بالثروة والسلطة والمجتمع والثقافة والدولة، كما يرسخ ويكرس آفة فقر الدم التاريخي، إلى درجة نشر رهاب العنصرية والكراهية والتكفير إزاء أي تفكير نقدي تاريخي يتوخى إضاءة الماضي، خاصة المهمش والمسكوت عنه في التاريخ والفكر العربي الإسلامي وإبراز التصورات الخرافية. "هذه التصورات هي التي سادت تاريخ الثقافة العربية الإسلامية وسيطرت بآليات الفرض السياسي وسيطرتها وسيادتها لا يعني امتلاكها قوة الحقيقة ."4

كتابات أبوزيد تمتلك عمقا معرفيا أصيلا، وتحليلا نقديا خصبا منتجا للوجوه والمكونات السوسيولوجية والثقافية والتاريخية للمجتمعات العربية والإسلامية

ثالثا التاريخية: النظام اللغوي وجدل التاريخي الاجتماعي

كتب أبوزيد ليست نتيجة حسابات شخصية، أو بسبب رغبة ذاتية في حب الظهور الإعلامي والإيديولوجي السياسي، من خلال التهجم على معتقدات الناس، بل هي جزء من بنية فكرية تنويرية لتيار أو مكون فكري ثقافي جسدته على أرض الواقع الكثير من الأقلام، من ضمنها على سبيل المثال لا الحصر، نذكر بصورة مؤسسة الشيخ أمين الخولي وطلابه. لذلك فكتب نصر حامد تشكلت بهم وانشغال علمي معرفي بحالة الانسداد التاريخي الآسن، وبسبب تحدي ثوابت أسس التسلط والتخلف والانحطاط الناتج عن الاسترقاق السياسي الاجتماعي باسم سلطة قداسة النصوص الدينية، إلى جانب وعيه النقدي بفقر حصاد التنوير الذي حالت توفيقيته التلفيقية والتلوينية دون إنتاج وعي مختلف نقيض للخطاب الديني الغارق في التخلف والظلامية.

"نبرة التردد والاحتمالية التي يلوذ بها خطاب التنوير لا تعني مغايرته التامة لنقيضه، ولعل في تلفيقيته الناتجة عن تصوراته وأطروحاته، ما يفسر لنا فقر حصاد التنوير، الفقر الناتج عن تجاهل الأسئلة الحقيقية والالتفاف حولها، وترك تأثير تجاهلها يعمل في الخفاء"5، وهو في ذلك لا يبخس بشكل عدمي مجهود خطاب التنوير الذي انتصر في قراءته للتراث للمعقول ضد اللامعقول الشيء الذي مهد في نظر نصر حامد "لتأصيل تاريخية التراث الديني، ومن شأن إدراك هذه التاريخية أن تؤدي إلى نزع قناع القداسة عن وجهه، وهو ما يؤدي في نهاية الشرط إلى طرح كل الأسئلة الممكنة، بلا خوف، ولا تردد ولا تواطؤية تبريرية. إنها ممارسة الحرية على مستوى الفكر والقول والفعل، الحرية التي اعتبرها التنويريون صرخة العصر، وشارة إنسانه وشعوبه التي تسعى لقهر الضرورة على مستوى العلم بفهم قوانين الطبيعة والمجتمع، والحرية كما تتجلى في تعبيره الجميل عن أحلامه وأشواقه. إن ممارسة هذه الحرية في نقد التراث تعد شرطا ضروريا في مشروع النهضة سعيا لتغيير بنية العقل من حالة الإذعان والتقبل السلبي إلى حالة التساؤل وإنتاج المعرفة، وهل للتنوير معنى دون هذا الشرط الجوهري؟"6

انطلاقا من هذه الرؤية في التفكير والفعل المنتج للفكر النقدي الاختلافي انتصر أبوزيد لجدل الحرية والتنوير بعيدا عن عقلية التلفيق التي "تلوذ بالسلامة، ولو على حساب التواطؤ الفكري والعقلي"7، لهذا تبنى المنهج النقدي التاريخي الذي وجد بعض سماته وملامحه في موقف المعتزلة من مسألة خلق القرآن حيث يمكن تجاوز التصورات الأسطورية للخطاب الديني التي تحولت، بفعل عزل الإنسان عن التاريخ وجعله مجرد أتباع لقطيع عبيد تنازلوا طوعا واختيارا عن عقولهم، أي عن سؤال الإيمان لصالح الدين، إلى عقائد مقدسة للتكرار القهري، وهي ليست أكثر من اجتهادات بشرية أنتجها الفعل الاجتماعي التاريخي في إطار الصراع بين تصورات متباينة المصالح والأهداف والغايات.

"الوحي ليس ظاهرة مفارقة للواقع التاريخي الاجتماعي الذي نزل فيه القرآن على الباحث دائما أن يضع هذا الواقع التاريخي في اعتباره. وشرحنا بما لا يتعارض مع المصدر الإلهي للوحي وأكدنا أن فهم القرآن بوصفه بناء لغويا ومنتجا ثقافيا لا يعني إنكار جانبه الإلهي".8

من هنا نقده لأصحاب أزلية القرآن في اللوح المحفوظ، حماية لمصالحهم من التغيير، وكبتا لأسئلة النقد التاريخي في الكشف عن ولادة وتكون وتطور الأفكار التي سيطرت وسادت بمنطق القهر والتغلب حتى تحولت من أفكار بشرية مارست اجتهادها بشكل أو بأخر إلى نصوص دينية وعقائد إلزامية في الاعتراف بالإيمان وكسب شرعية العضوية الاجتماعية للانتماء الديني لملة الأتباع الذين يسيجهم التوسط الإيديولوجي للدين الحق، والدين القيم الذي أنجزه أمثال: الشافعي والغزالي...، "سيادة اجتهاد الشافعي وهيمنته في حيز علم أصول الفقه ظاهرة تاريخية، أي ظاهرة يمكن تتبع أسبابها وعللها في التاريخ الاجتماعي للمسلمين. ذلك أن هذ الاجتهاد لا يكتسب من هذه السيادة التاريخية منطق اليقين المطلق والحقيقة التي لا يمكن ان ينالها النقد".9

لهذا، فإن أكبر ما يخشاه الدين/الإيديولوجية، وخطاباته المختلفة هو القراءة النقدية التاريخية التي لا تسلم بالمعطى الثابت الناجز والنهائي كحقيقة مطلقة بما في ذلك النصوص الدينية في معناها الحرفي القطعي الدلالة، والمحسوم المعنى الذي لا يقبل الخضوع لتطور المعرفة في سيرورتها التاريخية، لذلك ليس تجديفا أو نكرانا في نظر نصر حامد للمصدر الإلهي للنص القرآني في قولنا بتاريخيته، أي في تعاطيه وتعامله مع مشاكل عصره وزمنه، أو في اعتباره أرضية لأفق أمل الإنسان في سعادته وتطور حياته من زاوية تطوير وتوسيع دلالاته وآفاق معانيه بما يفيد ويسعد حياة الفرد والمجتمعات، أي في اعتبار النص الديني مجموعة أوراش أفقها الإنسان تخاطبه وتهتم بشؤونه في الحياة الدنيا، يجب أن تستكمل وفق السيرورة التاريخية لمتطلبات وتحديات وآمال العصر الراهن، فهذه القراءة التاريخية هي التي تسمح بتغيير زاوية النظر الوحيدة والأحادية إلى تطور الفكر والواقع البشري في سيرورته التاريخية الاجتماعية، بما يسمح من جهة برؤية الوجوه المتعددة للأفكار والمواقف والتصورات والمعتقدات المتنوعة والمختلفة والمتعددة إلى حد التناقض بعيدا عن الوسطية الزائفة لكل أشكال التفكير والفكر التوفيقي الذي ساد وسيطر قديما وحديثا إلى حدود النهضة وخطاب التنوير العربيين، بل الكارثة اليوم أن كثيرا من الأصوات الفكرية في العلوم الإنسانية والاجتماعية تقف ضد حرية وكرامة ومستقبل شعوبها، وهي تخلط بين المعرفي والإيديولوجي، فتكرر بعقلية الثبات والتكرار والبحث عن الاستقرار، الذي يعني تأبيد الوضع الراهن، الانحياز لمواقف وأفكار وممارسات عبادة الموروث الفكري والثقافي البشري، والانتصار للجمود والتخلف وللقمع السياسي والديني، دون تحمل عناء ومشقة "الحفر من أجل رد الأفكار إلى أصولها وبيان منشئها الإيديولوجي وحين ينكشف الأساس الإيديولوجي لبعض ذلك المستقر والثابت تنتفي عنه أوصاف الحقائق الثابتة أو ما هو معروف من الدين بالضرورة. إن للأفكار تاريخا وحين يتم طمس هذا التاريخ تتحول الأفكار إلى عقائد فيدخل في مجال الدين ما ليس منه ويصبح الاجتهاد البشري ذو الطابع الإيديولوجي نصوصا مقدسة". 10

وهكذا يتم فهم التسلط الديني الذي ساد وسيطر في الفكر والواقع العربي الإسلامي على أنه مجرد "نتائج استقرت في الوعي الإسلامي واكتسبت صفة الحقيقة مع أنها نتائج لفكر بشري. الأخطر من ذلك أن هذه النتائج المشار إليها تمارس تأثيرا في حجب الوعي الإسلامي عن تاريخيته وتعوقه من ثم عن قراءة ذاته قراءة مستبصرة ناقدة".11

وفي سبيل نزع قناع القداسة عن التاريخ والنصوص الدينية استند نصر حامد أبوزيد إلى تكوين معرفي علمي ورؤية فلسفية ابستيمولوجية في المنهجيات الحديثة، الشيء الذي مكنه من بلورة واستثمار وتخصيب مفهوم التاريخية كما طرحها موقف المعتزلة من أزلية القران.

"إن مسألة خلق القرآن كما طرحها المعتزلة تعني في التحليل الفلسفي أن الوحي واقعة تاريخية ترتبط أساسا بالبعد الإنساني من ثنائية الله والإنسان أو المطلق والمحدود، الوحي في هذا الفهم تحقيق لمصالح الإنسان على الأرض، لأنه خطاب للإنسان بلغته. وإذا مضينا في التحليل الفلسفي إلى غايته - التي ربما غابت عن المعتزلة- نصل إلى أن الخطاب الإلهي خطاب تاريخي. وبما هو تاريخي فإن معناه لا يتحقق إلا من خلال التأويل الإنساني، إنه لا يتضمن معنى مفارقا جوهريا ثابتا له اطلاقية المطلق والقداسة."12

لم يكن بإمكان أبوزيد تجاوز القراءات المغرضة التي تؤسسها الخلفيات الإيديولوجية سواء كانت سلفية سياسية بأقنعة دينية، أو سلفية سياسية بأقنعة علمانية، إلا من خلال التناول العلمي لإشكالية الدين في سطوة الإيديولوجي على المعرفي. ولهذا طرح إشكالية النص الديني ضمن رؤية لسانية سميولوجية بنيوية تاريخية تأخذ بعين الاعتبار طبيعة النص الديني من حيث خصائصه الذاتية كنص لغوي في بناء مكوناته الذاتية المعنوية والفكرية والدلالية، ومن حيث تفاعلاته الجدلية مع مستويات كثيرة من الانساق الثقافية بسياقاتها المتعددة التي تؤطر بشكل ما ولادة النص وتكونه ثم تطوره إلى درجة الإسهام في عملية التشكيل الفكري والاجتماعي لجدل الفكر والواقع حسب الشروط الثقافية والتاريخية.

"فالنص في مرحلته الأولى في تعبيره عن الثقافة لم يكن مجرد حامل سلبي لها، فقد كانت له فعاليته الخاصة بوصفه نصا في تجسيد الثقافة والواقع، وهي فعالية لا تعكسهما عكسا آليا، بل تجسدهما تجسيدا بنائيا، أي تجسيدا يعيد بناء معطياتهما في نسق جديد. وفي المرحلة الثانية ليس المقصود بأن النص منتج للثقافة تحويل الثقافة إلى صدى سلبي للنص، فللثقافة أيضا آلياتها الخاصة في التعامل مع النص وذلك بإعادة قراءاته وتأويله". 13

من هذه الزاوية، عند أبوزيد، التي يحددها مضمون فكره المؤسس والموجه لاستراتيجية إنتاج المعرفة ككتابة نقدية، ليس فقط للخطاب الديني، بل أيضا لطبيعة المآزق التي تحاصر الراهن العربي في استبداديته وتخلفه الشامل، وتتواطأ ذاتيا في شل فعل التغيير وتأجيل النهضة المنشودة، أنتج أبوزيد إطاره المعرفي النظري، وجهازه المفاهيمي المنهجي كأساس للقراءة التأويلية النقدية التي يمارسها كفعل ثقافي اجتماعي تاريخي، حيث اعتبر النصوص الدينية "نصوصا لغوية تشكلت خلال فترة زادت على العشرين عاما. وحين نقول تشكلت فإننا نقصد وجودها المتعين في الواقع والثقافة بقطع النظر عن أي وجود سابق لهما في العلم الإلهي أو في اللوح المحفوظ... وإذا كانت هذه النصوص قد تشكلت في الواقع والثقافة فإن لكليهما دورا في تشكيل هذه النصوص"14.

انطلاقا من هذه الرؤية المنهجية للنص الديني كنص لغوي أدبي حاول أبوزيد تحرير مسألة خلق القرآن من التصورات الأسطورية ومن فقر الدم التاريخي بما يخدم فاعلية الإنسان في تقرير وجوده ومصيره كذات اجتماعية تاريخية فاعلة. ولذلك ذهب بعيدا في تناوله اللغوي الأدبي للنصوص الدينية مستندا على تراث النظم عند عبدالقاهر الجرجاني والتأويل في الثقافة العربية الإسلامية، وعلى الأساس النظري والمنهجي للمقاربات الحديثة مع إعطاء الكثير من الاعتبار لقضية السياقات الداخلية والخارجية البنيوية والتطورية المؤطرة للسيرورة اللغوية والنصية والثقافية الاجتماعية التاريخية لتطور جدل النص الديني والواقع الحي بكل مستوياته وأبعاده.

" الدين ذاته ليس إلا مجموعة من النصوص التي تتحدد دلالتها بدورها بالسياق وذلك بوصفها خطابا وكون الخطاب إلهيا من حيث المصدر لا يعني عدم قابليته للتحليل بما هو خطاب إلهي تجسد في اللغة الإنسانية بكل إشكاليات سياقها الاجتماعي والثقافي والتاريخي"15.

وفق هذه الرؤية تمكن أبوزيد من تعرية طلاسم القداسة التي يتقنع بها الخطاب الديني الذي وصم تصوره واجتهاده الديني بالوحدانية المطلقة وأن كل ما عداها شرك وكفر لا يتبعه إلا أهل الأهواء. وبهذا التناول العلمي النهضوي سقطت سلطة النصوص الدينية للخطاب الديني فظهرت على حقيقتها كحقيقة فرضها الاستبداد والقهر باسم الدين. وهذا ما سنناقشه في الجزء الثالث "تاريخ الثقافة في كل المجتمعات الإنسانية يعلمنا أن هذه السيطرة والهيمنة لخطاب بعينه كانت تتم من خلال عوامل القهر السياسي والإذعان الاجتماعي وتزييف في أحسن الأحوال".