السجين والسجان في السجن .. فأين السلطة الآمرة؟

"حبوس" يتمتع بجرأة وشجاعة كاشفة لمأزق الإنسان في مواجهة ذاته والتحديات التي تتصارع في محيطه المحلي والعالمي.
النص ينافس الرؤية الإخراجية بل يسيطر عليها بقوة
المؤلف صالح زمانان يعتبر من الأسماء البارزة في قصيدة النثر السعودية المعاصرة، كما يُعد من أهم كتّاب المسرح في السعودية ومنطقة الخليج العربي

تمتع العرض السعودي "حبوس" الذي قدم على حشبة مسرح قصر ثقافة الشارقة في ثاني أيام مهرجان الشارقة للمسرح الخليجي في دورته الثالثة، بجرأة وشجاعة كاشفة لمأزق الإنسان في مواجهة ذاته والتحديات التي تتصارع في محيطه المحلي والعالمي، وذلك من خلال رؤية إخراجية استطاعت إلى حد بعيد أن تستوعب المحمولات الفلسفية والفكرية والشعرية للنص المؤلف، هذا النص الذي نافس هذه الرؤية الإخراجية بل سيطر عليها بقوة، والذي اتسم بغموض رسائله رغم بساطتها، وهو الأمر الذي ربما سيطر على المخرج وقيد حركته داخل الفضاء المسرحي وتشكيلاته وحد من قدراته وإمكانياته على تنويع الديكور والإضاءة والملابس، بل إن ممثليه لم يحتملوا ثقل النص الفكري والفلسفي والشعري الجواني أو ربما لم يستوعبوا خطورته عقليا ووجدانيا.
النص المؤلف هو لصالح زمانان الذي يعتبر من الأسماء البارزة في قصيدة النثر السعودية المعاصرة، كما يُعد من أهم كتّاب المسرح في السعودية ومنطقة الخليج العربي، وقد أغرق في الأفكار التي أدت إلى ضبابية ومن ثم عدم تعميق فكرة محورية يمكن تلمسها معنويا وماديا.  
أما المخرج فهو نوح الجمعان الذي قدم عشرات العروض المسرحية المتميزة والتي أثرت بشكل كبير في الحراك المسرحي السعودي، ولكنه في هذا العرض بدا وكأنه ينفذ نصا دون أن يقيم علاقة جدلية مع أفكار النص، وهي كما سبق وأشرت كثير ومتراكم ومشتبك إلى حد التشتت.
يطرح العرض دلالات وأبعاد مفردة "السجن" انطلاقا من سجن الذات للذات، وسجن الذات للآخر، وسجن المحيط مكانيا وزمانيا للذات والآخر معا، ليدخل في جدلية فلسفية بحثا عن تحديد للسجان هل هو يكمن في الذات وما يعتمل فيها من مشاعر وأحاسيس؟ أم يكمن في العلاقات مع الآخرين؟ أم في الأحداث التي تلقي بظلالها النفسية السلبية على الذات؟ أم أن الأمر لا يخرج عن كونه صناعة تتغلغل في كل المحيط الإنساني، صناعة مختلفة الأشكال والمتخيلات، ولها مخبروها وسجونها ومعذبوها وملابسها وآفاتها النفسية والجسدية، وهي تفضى بالنهاية إلى قتل من يجرؤ على الخروج على أقفاصها ودوائرها.
كل هذا بلوره النص وألقاه أو أداه ثلاثة ممثلين على خشبة المسرح، تباينت أداءاتهم بين الضعف والقوة، بدا أن هناك استعدادا لديهم في تقديم أداء مميزة يليق بنص جرئ في رسائله وقوة في لغته ومعالجة أفكاراه الوجودية، لكنهم فيما يبدو لم يتعايشوا مع هذا النص أو لم يتلقوا التدريب الكافي الذي يكفل لبهم امتصاص رؤيته ورسائله، وهي رسائل إنسانية عميقة، أوما خانتهم ضبابية النص، فبدوا كمتلقين وليس ممثلين خاصة أن المخرج حملهم فوق طاقاتهم فلم يتح لاثنين منهما تحديدا أن يلتقطا أنفاسهما، فهما في مواجهة الجمهور طوال العرض، لذا كان أحرى بالمخرج أن يختار الفكرة الأقرب للتيمة الرئيسية أقصد السجن ويشتغل عليها خالقا مشاهد بصرية وجمالية وتشكيلات سيناغرافية تساعد ممثليه وتفتح للمتلقي آفاق التجاوب معهم. 

السجين والسجان تطاردهما هلوسات القمع الداخلي والخارجي في ظل مراقبة يمارسها النادل على المقهى تارة وساعي البريد تارة وبائعة المناديل تارة والفنان الموسيقي، حتى ليصرخ أحدهم "منذ كتى بدأ سجن الناس للناس؟ وما الجريمة التي يسجنون بها"، ومن ثم يصعب الإفلات من قبضة "الفيروس"/ "السجن"، يصرخ أيضا "ما تعتقد أنه حق سجن؟ حتى شجرة البرتقال في بيت أمي سجينة"، الكل مسجون في النص وعلى خشبة المسرح وعلى الكل أيضا أن ينسى أنه في قبضة سجان؟
لا مكان ولا زمان محددين أو يمكن التعرف على دلالاتهما في العرض، الإنسان هو المكان والزمان، المكان والزمان هنا على خشبة المسرح سجن، فمن السجان؟ السجان يظل سلطة غير مرئية يسلط البعض على البعض، يضرب الصديق بصديقه، يطارد ضحاياه في كل وقت وحين،  يسكن في الداخل وعيونه تتبصص في الخارج.
كما يفتتح العرض بمشهد قمعي بامتياز حيث يخرج ممثل ضخم الجثة ليشكل ما يشبه كائنا خرافيا حيث نجح المخرج من خلال الظلال أن يجعل له 6 أيادي وسط موسيقى صاخبة وحادة الإيقاع وإضاءة دموية، يختتم العرض بالقتل، فبعد أن وعد السجان سجينه أن يلبي طلبا له يتمثل في السماح له بالفرار، يتراجع عن وعده، فهذا الطلب مستحيل التحقيق، وكما يقول "التوق إلى الحرية يؤدي إلى الهلاك" لكن السجين لا يأبه بذلك فيقتله السجان، فسوق "الحبوس" بلا مفاتيح ولا يخرج منه أحد حيا، مات فيه عدد لا يحصى من الناس.
إن الرسائل التي استهدفها العرض حتى في ظل ضابية النص واتساع دوائر أفكارها وفلسفتها وشعريتها ومحاولات المخرج تجنب المكاشفة الصريحة، تظل واضحة، إذا كنا نعيش في سجن كبير، والسجان والسجين في السجن، فأين السلطة الآمرة؟ إنها سلطة فوقية "من لم يرض بقضائي فليخرج من تحت سمائي".
يبقى أن نوجه التحية للمخرج والمؤلف والمملثين على الرغم من أي ملاحظات سلبية على العرض حيث إن جرأته يمكن أن تلتمس لهم جميعا العذر.