السعادة على ضوء الخطابات المتنوعة

باسكال يضعُ الإنتحار ضمن المساعي اللاواعية لتحقيق السعادة.
فهم السعادة من منطلق الحسيات له جذور فلسفية تعودُ إلى الإبقوريين
مقاربةُ لوك فيري تتميز بالمنهج التحليلي

بقلم: كه يلان مُحمَد

قد تختلفُ طرائق المعيشة وأنماط الحياة وتتباينُ المُعتقداتُ بين الشعوب والمُجتمعاتِ  وتتفاوت نظرة الأفرادِ بشأنِ المُعطيات الحياتية لكن ثمة مُشتركاتُ بقطع النظر عن وجود الإختلاف في الطبائع وأنساق التفكير، ولعلَّ السعادة من أبرزها ولا مُغالاة في القول بأنَّ الهدف الأساسي وراء كل نَشاطات الإنسان الفكرية والروحية والجسدية والحسية هو الوصول إلى السعادةِ وتقليص أسباب الشقاء.
ويذهب باسكال أبعد من ذلك إلى حدٍ يضعُ الإنتحار ضمن المساعي اللاواعية لتحقيق السعادة، إن كان هناك توافق على المطلب فذلك لا يلغي التنوعَ في الآراء والتفسيرات حول العوامل التي تمكنُ الإنسان من الوصولِ نحو السعادةِ. هناك من يربطُ بين السعادةِ والمعرفة أو التخلص من الإنفعالات بفضل التفكير العقلاني. ويقولُ المفكرُ المغربي سعيد ناشيد إنَّ السعادة نعمة الحكماءِ كما تكمنُ السعادةُ في حياة بسيطة لدى الفيلسواف إسبينوزا، والأغربُ في هذا السياق هو رأي الفيلسوف الألماني كانط. يقولُ صاحبُ "نقد العقل الخالص": "لو أرادت العناية الآلهية لنا السعادة ما منحتنا الذكاء". وهذا يعني أن نقيض حكم المنطوق في كلام كانط هو أن السعادةَ تؤتى للأغبياء فقط.
أيا كان الأمرُ فإنَّ موضوعة السعادة قد شغلت الجميعَ وتوسلَ الإنسانُ بالبشارات الدينية تارة، وبما قالهُ الحكماءُ والفلاسفةُ تارة أخرى لإكتشاف درب السعادة وتذق طعمها وأُضيفَ العلمُ أيضاً إلى تلك الأدوات التي من المفترض أن تُساهِمَ في تضيق الخناق على البؤس والمُعاناةِ غير أنَّ تفوق الذكاء الصناعي على الذكاء الإنساني في المستقبل حسب توقعات الفيزيائي البريطاني ستيفن هوكينغ قد يُشكِلُ تحدياً كبيراً للبشرية. وبذلك قد ينقلبُ ما تراهُ مصدراً للسعادةِ إلى سبب للشقاء. 

أسلوب هذا الكتاب بشأن السعادة يتصفُ بالتشويق والبساطة وذلك بفعل ما يعتمدهُ لوك فيري من المقارنة بين الخطابات المتعددة

وأهمُ ما يعالجهُ الفيلسوف الفرنسي المُعاصر لوك فيري في كتابه المعنون بـ "مفارقات السعادة .. سبع طرائق تجعلك سعيداً" الصادر مؤخراً من دار التنوير هو التناقضات الكامنة في الشعور بالسعادة. وقد أدركَّ الفيلسوف اليوناني سُقراط حقيقة هذا الأمر لذا اعتبر السعادة  هي ما لا يعقبهُ الإحساسُ بالندمِ ومن يندمُ أقلَ، ويأملُ أقل، ويحبُ أكثر فهو حكيم برأي أندريه كومنت سبونفيل. طبعاً لا يصحُ الحديثُ عن أسباب السعادةِ دون الاشارة إلى اللذة الحسية خصوصاً ونحنُ في عصرٍ تحولَ فيه الإستهلاكُ المُتسرعُ إلى ظاهرة طاغيةٍ بحيثُ تسلعنتِ الروحانيات أيضاً.
أكثرُ من ذلك تُقَدمُ وصفات للسعادةِ كما تذاعُ برامجُ عن المأكولاتِ والإرشادات الصحية لتخفيض الوزن في آن واحد. فأصبحَ المُتابعُ نهبَ الإعلانات المُتناقضة. صحيح أنَّ فهم السعادة من منطلق الحسيات له جذور فلسفية تعودُ إلى الإبقوريين غير أن ما يُغذي هذه النزعة في الوقت الراهن هو التيار الرأسمالي الذي جرَّد اللذة من دلالاتها المرتبطة بالكينونة الإنسانية. فالمبدأُ الأساسي للنفعية مضمونه أن الفعل يكون جيداً على المستوى الأخلاقي حين يسعى إلى زيادة نسبة السعادة وهذا مخالفُ لما ساد في عصر التنوير لاسيما لدى كانط من الإهتمام الأكبر بالعمل. وكانت السعادةُ بالنسبة لهؤلاء تأتي في المرتبة الثانية. 
من نافلة القولِ الإشارةُ إلى أن السعادة حسب نظرة النفعيين هي اللذة الحسية فقط. يتوقفُ صاحبُ "أجمل قصة للفلسفة" عند نجاح المُؤلفات التي تتناولُ نظريات التنمية البشرية وإعادة إكتشاف الحكمة الشرقية وعلم النفس الإيجابي ويستخلصُ من ذلك نتيجة مفادها أن المُجتمعات الديموقراطية تدعمُ فكرةً أنَّ السعادةَ صارت الواجب الجديد والهدف الوحيد للوجود الإنساني.
ومن ثُمَّ يشرحُ مؤثرات الثقافة الأميركية وتحولها إلى موضة عالمية راصداً تقليداً فلسفيا جديداً له تمثلات في المجتمع الأوروبي يُسمي لوك فيري هذا النموذج بـ "أخلاقيات الأصالة" وهي فلسفة قائمة على الربط بين السعادة ومسألة الإنشغال بالذات.
وفقاً لهذا المنهج تكون السعادةُ غير مُحتكرةٍ للأُرستقراطبة. كما يتساوى كل شيء ولا مجال للمُفاضلة بين المُجتمعات وتصنيفها إلى متخلفة ومتطورة أو التمييز بين الموسيقى الراقية والمبتذلة كما أنَّ كل النشاطات والممارسات الجنسية والأدبية تكتسبُ قيمتها وأخلاقياتها إذا تمثلتْ لمبدأ اللذة والرُفاهية. ومن الواضح أنَّ هذا إفراط في الفردانية. 
أشرنا سالفاً إلى تناقظات السعادة. وما يؤكدُ هو دراسة الباحثين الأميركيين بأنَّ معظمَ الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم سعداء يُصابون بأمراض عقلية تقودهم إلى نتائج كارثية. والحال هذه فإنَّ الهوس بالسعادة قد يتحول إلى مصدر للإحباط. جراء الإمتناع عن تذوق الملذات والتحامل على النفس أكثر وإغترابهم عن الحاضر. 

توسيع أفق التفكير
الإعجاب من أسباب الشعور بالسعادة

ينقبُ الكاتبُ في متنون النصوص الدينية والفلسفية والأسطورية لإبانة عن الرؤى المبثوثة في تضاعيفها حول مفهوم السعادة. وتتميزُ مقاربةُ لوك فيري بالمنهج التحليلي، ولا يكتفي بالوصفِ فقط. إذ يعارضُ فيري خيار التخلي عن العالم الخارجي وعدم الإرتباط بحجة هشاشة ما نستمدُ منه السعادة، فبرأيه لا يمكنُ تعميم تجارب أفرادٍ اختاروا العزلة والتنسك، فالبتالي لا جدوى من فكرة الرهبانية. يتخذُ مؤلفُ "تعلم الحياة" هذا الموقف دون أن يُنكِرَ حَتْمية الموت والفناء البشري ومحدودية اللحظات السعيدة. هنا من جديد يلجأُ لوك فيري إلى الأبيقوريين الذي حثوا الإنسان على عدم تعقيد نمط الحياة بالتفكير في الموت لأنَّ الموت لا وجود له طالما أنت على قيد الحياة. 
كما أنَّ هيراقليطس شخص هذه الحالة بصيغة معبرة وقال بأن الإنسان لا يستطيعُ مواجهة الموت والشمس مباشرة لذلك من الأفضل أن لا تمضي في تفسير لغزه إلى أن ينشب أنيابه. ويقرُ الفيلسوف التربوي بوجود جانب مظلم في الواقع وقساوة الظروف التي يعيشُ فيها المرءُ وأن كل لذة تحمل نقيضها غير أنَّه يتمسكُ بالواقع بمراراته وقساوته، ويميلُ إلى الإعتقادِ بأنَّ إختبار صعوبة الحياة وخيباتها هو ما يريحُ الإنسان أكثر من الركون إلى الوهم.
يُفردُ لوك فيري فصلاً كاملاً من مُؤلَفه للحب بوصفه مصدراً للسعادة. ويعالجه من منطلقِ المؤمنين وغيرهم من الذين ينتهي رهانهم في هذه الحياة. موضحاً دلالة الحب الدينية ما يعنيه من الحلول في المحبوب بينما أن  السعادة الناجمة من الحب الحسي مؤقتة. وهنا يقتبسُ عبارة لويس آراغون "لا يوجد حب سعيد"، وحتى لا يلتبسُ الفهمُ لدى المُتلقي يؤكدُ يرلوك في على أن حياة النُساك هي رفض للعيش أكثر من كونها تطبيقاً للحكمة لافتاً إلى ضرورة التفريق بين الفرح وهو حقيقي ولكنه زائل وبين السعادة التي تنشدُ الأبدية وهي ليست إلا وهما، كأنه بذلك يردُ على نيتشة الذي رأى أن كل فرحة تبحثُ عن الخلود.
ومن أسباب الشعور بالسعادة حسب مُحَددات صاحب "ثورة الحب" هو الإعجاب، ولكن هناك إشكالية فيما يتعلقُ بهذا الموضوع لأنَّ الإنسان المُعاصر يعيشُ في زمن غروب الآيدولوجيا والأبطال الكارزمية. وغاب ما يجدرُ بالتضحية من أجله وما يحلُ مكان المفاهيم النضالية والأطروحات الخلاصية هو الحب والعدل والجمال وفقاً لما يذهب إليه لوك فيري. 
ويزيدُ المُؤلف إلى ما سبق ذكره الحرية والتعلم والإبداع وتوسع أفق التفكير والإنعتاق من مشروطية القومية والإنفتاح على المُغاير والمُختلف، كما يكرسُ الفصل الأخير لتناول الوضع التعليمي في بلده فرنسا ويحكي جانباً من تجربته في هذا المجال عندما كان وزيراً للتربية والتعليم مبيناً أن التهاون في التدريس قد أدى إلى تراجع مستوى الدارسين وأن إلغاء العلامات في الفصول الدراسية قد أتي بنتائج مُخيبة.
يُذكر أنَّ أسلوب هذا الكتاب بشأن السعادة يتصفُ بالتشويق والبساطة وذلك بفعل ما يعتمدهُ لوك فيري من المقارنة بين الخطابات المتعددة.