السودان ومغامرات العسكر

هناك تجارب فاشلة عدّة يستطيع السودانيون، كعسكر ومدنيين، التعلّم منها وتفادي السقوط في سلبياتها.

وضع المجلس العسكري في السودان بالاتفاق مع ممثلي الحراك الشعبي الأسس لمرحلة جديدة يمكن للبلد ان ينتقل اليها في حال سارت الامور حسب الخطة المرسومة. هذا يعني انتقال السودان، في غضون ثلاث سنوات وثلاثة اشهر، الى مرحلة يكون فيها نظام عصري يقوم على التداول السلمي للسلطة في ظلّ دولة مدنية. يستأهل السودان ان يستقرّ أخيرا على نظام سياسي قابل للحياة يسمح باستغلال الثروات الطبيعية للبلد في ظلّ دولة القانون بدل دولة العسكر او الميليشيات الإسلامية او الأحزاب الانتهازية الفاسدة المتنافسة في ما بينها على فتات السلطة.

لحسن الحظّ، تنازل العسكر وتنازل الناس العاديون الذين انتفضوا على عمر حسن البشير واسقطوا نظامه غير المأسوف عليه، وهو نظام قام على ضابط متخلّف في كلّ المجالات. كان متخلّفا خصوصا في مجال بناء مؤسسات لدولة قادرة على ان تكون في خدمة مواطنيها. كان البشير على استعداد لكلّ شيء من اجل البقاء في السلطة. كان البشير مستعدا حتّى لارتكاب جريمة تقسيم السودان بدل العمل على لم الشمل بين المسيحيين والمسلمين وأبناء الطوائف الأخرى في ظل سودان موحّد يتساوى فيه مواطنوه في الحقوق والواجبات.

كان ضروريا التوصل الى تسوية لعلّ السودان يكون استثناء بين الدول العربية التي عصف بها "الربيع العربي" الذي لم يكن في واقع الحال سوى خريف... هذا اذا استثنينا التجربة المصرية التي كانت، بحسناتها وسيئاتها، عملية انقاذ للدولة العربية الأكبر من السقوط في فخّ الاخوان المسلمين وتخلّفهم في ظلّ الشعارات المزيّفة التي يرفعونها عن الديموقراطية.

تبيّن في السودان انّه لا يزال هناك مجال للغة العقل والمنطق في بلد جاءه "الربيع العربي" متأخّرا. استطاع الجيش وممثلو القوى الشعبية في نهاية المطاف الخروج من كسر الحلقة المقفلة التي دخلها السودان مع ادخال البشير الى السجن تمهيدا لمحاكمته. هذا لا يعني ان الطريق صارت معبدة امام التغيير الكبير في بلد لا يزال يحتاج الى الكثير من اجل استعادة الامل في مستقبل افضل لكل أبنائه.

لا يزال المأزق السوداني قائما على الرغم من كلّ ما تحقّق في الايام القليلة الماضية بفضل الوساطة الاثيوبية التي تولاها رئيس الوزراء ابي احمد شخصيا والتي اظهر من خلالها انّه سياسي مثير للاهتمام، خصوصا بعد نجاحه في القيام بإصلاحات كبيرة وضعت اثيوبيا على طريق النمو السريع.

قام السودان بخطوة كبيرة في اتجاه الخروج من الوضع الذي وجد نفسه فيه. كان لا بدّ من تجاوز الحراك الشعبي لعقدة العسكر، كما كان لا بدّ للعسكر من استيعاب انّ لا مستقبل لهم اذا كان طموحهم سيظلّ محصورا في ممارسة السلطة على طريقة إبراهيم عبّود او جعفر نميري او عمر حسن البشير. ليس لدى العسكر في هذا العالم، الّا اذا استثنينا قليلين جدّا منهم، ايّ مشروع سياسي او اقتصادي او حضاري قابل للحياة. هذا ما اثبتته تجارب السنوات الطويلة التي حكموا فيها السودان.

على الرغم من المجزرة التي وقعت يوم الثالث من حزيران – يونيو الماضي امام مقرّ القيادة العامة للقوات المسلّحة في الخرطوم حيث نكّل جنود بالمدنيين، لا تزال هناك فرصة امام كبار الضباط الذين قلبوا عمر حسن البشير لاثبات انّهم مختلفون عنه. لكنّ السؤال الذي سيطرح نفسه عاجلا ان آجلا هل هناك قيادات مدنية للحراك الشعبي تستطيع لعب دور إيجابي خلال المرحلة الانتقالية من خلال "المجلس السيادي" الذي سيضم عسكريين ومدنيين والذي سيتولى ضابط رئاسته في الأشهر الـ18 الاولى؟

لم يكن "الربيع العربي"، بدءا بسوريا التي تآمر العالم على شعبها من اجل المحافظة على نظام مهمّته حماية إسرائيل، سوى سلسلة من الكوارث. وقعت كارثة في تونس التي يترحّم فيها المواطن العادي على زين العابدين بن علي. وقعت كارثة اخرى في ليبيا التي ليس معروفا هل ستقوم لها قيامة في يوم من الايّام. تدفع ليبيا الآن كلّ الفواتير المترتبة على ارتكابات معمّر القذّافي ومشاريعه الفاشلة التي لم تكن سوى كوابيس رجل مريض. امّا اليمن، فقد تشظّى شرّ تشظّ. لم يبق منه سوى تلك الامارة الإسلامية على الطريقة الطالبانية التي اقامها الحوثيون في الشمال. لا تشبه تلك الامارة التي تتحكّم بها ايران، والتي تحولت الى قاعدة اطلاق صواريخ وطائرات من دون طيّار تستهدف المملكة العربية السعودية، سوى امارة "حماس" في قطاع غزّة. بات كلّ كلام عن وحدة اليمن من النوع الذي لا معنى له. كذلك الكلام عن عودة الى صيغة الشطرين الشمالي والجنوب. لا الشمال الحالي يشبه الشمال ايّام الجمهورية العربية اليمنية... ولا الجنوب يشبه ما كان يسمّى جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية التي كان تاريخها سلسلة من الحروب الداخلية توّجت بانهيار كامل لنظام ارتبط ارتباطا مصيريا بمرحلة الحرب الباردة.

هناك تجارب فاشلة عدّة يستطيع السودانيون، كعسكر ومدنيين، التعلّم منها وتفادي السقوط في سلبياتها. أي طريق سيختارون؟

الى الآن، ساروا في طريق التعقل والمنطق. لا يستطيع العسكر تسيير البلد على طريقة البشير ولا يستطيع المدنيون وحدهم تولي شؤون السودان. ما حصل كان تسوية معقولة بعيدا عن التهوّر، علما ان ما ينقص السودان حاليا هو ظهور قيادة مدنية مسؤولة تستطيع بلورة مشروع سياسي للمستقبل. مؤسف انّه لم تبرز الى الآن شخصية واحدة قادرة على ان تكون في الواجهة ومخاطبة السودانيين بطريقة توحي لهم بانّ البلد سيكون في ايد امينة. والكلام هنا عن شخصية تشبه شخصية رئيس الوزراء الاثيوبي الحالي الذي استطاع خلال فترة قصيرة تحويل البلد الى جاذب للاستثمارات الأجنبية وجعل نسبة النموّ فيه بين الأعلى في افريقيا. اعتمد كلّ ذلك على شخصية آبي احمد ومعرفته في كيفية جعل اثيوبيا على تماس مع كلّ ما هو حضاري في هذا العالم.

سيعتمد الكثير على استمرار العمل بلغة العقل والمنطق بعيدا عن مغامرات العسكريين وعبث السياسيين الذين سهّلوا مرارا استيلاء ضابط مجنون، من نوع جعفر نميري او عمر حسن البشير، على السلطة والبقاء فيها طويلا.

في تاريخ السودان الحديث عدد لا بأس به من السياسيين المتميّزين الذين برزوا على الصعيدين الداخلي والعربي. كان هؤلاء مختلفين جذريا في كلّ شيء عن كلّ ما كان يمثّله النميري والبشير. هل من مجال لظهور شخصية في مستوى إسماعيل الازهري او احمد محمّد محجوب على سبيل المثال وليس الحصر... ام انّ السنوات الثلاثين التي قضاها عمر حسن البشير في السلطة كانت كفيلة بالقضاء على أي امل في قيام جيل من المثقفين يمكن ان يخرج منه سياسي مختلف لديه رؤية مستقبلية؟!