هوامش سودانية في الجامعة الأميركية

أتمنى أن يتخلص الأخوة في السودان من حساسيتهم التاريخية المفرطة، والاستفادة من الثقل الإقليمي لمصر بدلا من البحث عن وساطات وحلول لأزماتهم في دول أخرى.

في كل مرة أجلس فيها وسط سودانيين أتلقى جرعة سياسية وافية عما يدور في بلدهم، والتعرف على كواليس بعض التطورات. في هذه المرة كان الحصاد كبيرا، لأنه جاء عقب وقت قصير من توقيع اتفاق المجلس العسكري وتحالف الحرية والتغيير الذي أرسى قواعد المرحلة الانتقالية، وبعد تحركات سريعة لسد المنافذ على من يريدون تخريبه قبل أن يتحول إلى أمر واقع يلتف حوله الشعب السوداني، لأنه يعبر عن الحد الأدنى أو العملي لتطلعاته.

حضرت اللقاء الذي نظمته الجامعة الأميركية في القاهرة بقاعة "إيوارت" الشهيرة، مساء الاثنين، وسط مجموعة كبيرة من السياسيين والباحثين الذين لعبوا دورا مهما في الثورة. ونجح حامد التيجاني أستاذ السياسات العامة بالجامعة في حشد عدد معتبر من الناشطين بقوى الحرية والتغيير في الندوة التي خصصت لمناقشة التحديات والفرص التي تواجه السودان. وتطرق الحوار لملفات عديدة. وتشعب في دهاليز قضايا شائكة. وصب مجمله في عدم رضا الشباب عن الاتفاق الذي يحمل بين ثناياه قنابل موقوتة.

ألقيت كلمات وقدمت اجتهادات كثيرة من هنا وهناك. وبدا الخلاف واضحا حول تراجع الثقة في المجلس العسكري، وارتفاع حسن النوايا لدى قيادات الحرية والتغيير. ولثراء الحوار الذي امتد لثلاث ساعات أكتفي بتسجيل ملاحظات أو هوامش سياسية كاشفة لطبيعة المرحلة المقبلة في السودان الشقيق.

غمز صلاح مناع، القيادي بحزب الأمة القومي، أكثر من مرة إلى ضرورة رفع دول المنطقة أياديها عن السودان، وألمح إلى الاسطوانة التي تظهر وتختفي، حسب الحاجة السياسية، بشأن وجود دعم مصري وخليجي للمجلس العسكري.

ومع أن أحد لا يملك دليلا واحد على حدوث تدخل مباشر، لكن المؤكد أن التصريحات الرسمية التي صدرت في القاهرة ركزت في مجملها على دعم الثورة ومساندة الشعب السوداني في خياراته السياسية، بصرف النظر عن ماهيتها ومن يحكم. وقام حسام عيسى سفير مصر في الخرطوم بعقد لقاءات مؤخرا مع قوى وطنية مختلفة، بما ينفي فكرة الانحياز.

تردد الغمز واللمز على لسان أكثر من متحدث. وفي تقديري أن انعقاد ندوة في الجامعة بالقاهرة وغالبية حضورها من قيادات وكوادر الحرية والتغيير أبلغ دليل على عدم صحة الانحياز المصري للمجلس العسكري. كما أن دور محمد الحسن لبات المبعوث الأفريقي في تذليل الكثير من العقبات أمام الاتفاق الأخير، يؤكد أن رئاسة مصر للدورة الحالية للاتحاد الأفريقي مفيدة، وجنى السودان من ورائها ثمارا سياسية عدة.

كنت أتمنى أن يتخلص الأخوة في السودان من حساسيتهم التاريخية المفرطة، والاستفادة من الثقل الإقليمي لمصر بدلا من البحث عن وساطات وحلول لأزماتهم في دول أخرى، لأنها أكثر دول العالم حرصا على أمن هدوء واستقرار السودان، لاعتبارات استراتيجية معروفة، وهو ما بدا على استحياء في بعض الكلمات، بشكل عبر عن قدر من التناقض في الحسابات.

لست بحاجة لتكرار الحديث عن الأضرار التي تكبدتها مصر من وراء نظام الرئيس المعزول عمر البشير. وتكفي نظرة واحدة لدوره القاتم في أزمة سد النهضة لمعرفة الصورة كاملة، ونوع الضرر الذي سوف ينعكس حتما على مصالح السودان نفسه مستقبلا.

فضلا عن مساحة الحركة والسيطرة والتمكين التي جرى توفيرها لجماعة الإخوان المسلمين والمتشددين والإرهابيين هناك، والتي فضحت كلمات كل من السياسي القدير الشفيع خضر، والاقتصادي إبراهيم البدوي، جانبا مهما من معالمها، ولا تزال تمثل خطرا على البلاد، فقد هيمنت الحركة الإسلامية وتنظيم الإخوان على مفاصل الحياة بأكلمها في السودان خلال حكم البشير.

نبهت ندوة الجامعة الأميركية إلى أن نفوذ الإخوان يؤثر سلبا على الثورة، ومن الضروري أن تتكاتف جميع القوى الوطنية لاقتلاع الجماعة من جذورها، لأن السودان يعد الرصيد الاستراتيجي للتنظيم الدولي للإخوان، ويلعب عبر أراضيه الممتدة دورا مهما في المنطقة. ومن الخرطوم بدأ الانفتاح على دول كثيرة.

ويستوجب هذا التحدي ممارسة ضغوط متواصلة لوضع نهاية عاجلة لمظلة الحركة الإسلامية في السودان قبل أن تتمكن من ترتيب أوراقها وتصبح الرقم المعطل والمرجح معا في المعادلة الجديدة.

كشفت الندوة عن هوامش خفية أو مسكوت عنها في الأزمة، تتجاوز المعالم الظاهرة للغموض الذي يكتنف جانبا من اتفاق المجلس العسكري والحرية والتغيير. فلم يتم تحديد الآليات اللازمة لتنفيذه. ويبدو أنها تركت غامضة لضمان تمرير الاتفاق بعد تعرض الطرفين لضغوط محلية وإقليمية ودولية هائلة. وهي واحدة من العقبات التي ستظهر ملامحها عقب الشروع في تقاسم السلطة، لأن سياسة الغموض البناء سوف تكون لها عواقب وخيمة في حالة السودان المفعم بالسياسيين والناشطين والأحزاب والحركات المسلحة.

تغافل الاتفاق عن ما يسمى بكتائب الظل في السودان، وهي ميلشيات تمتلك السلاح بوفرة، وأنشأها نظام البشير للدفاع عنه لحظة الثورة عليه. وتمثل الآن هاجسا لقطاع كبير من المواطنين الذين يريدون تفكيكها في أقرب وقت ممكن كدليل على عمق التغير، ومؤشر على الاقتراب من الاستقرار. وما لم تنته هذه الظاهرة سوف يظل شبح البشير مخيما على أي حكومة مدنية يتم تشكيلها.

توافق المجلس العسكري وتحالف الحرية والتغيير على حل أزمة المناطق المهمشة والتوصل إلى تسوية عادلة نقلة ضرورية في مسيرة الأزمة. غير أن السباق نحو استقطاب قيادات الحركات المسلحة دخل مرحلة مبهمة. وكل طرف يريد استرضاء قياداتها كعلامة على الصفاء والنقاء والرغبة في السلام الشامل، في حين الغرض الحقيقي زيادة حصة التكتلات التي من المفترض أن يكون السودان الجديد تجاوزها.

يقول الخبراء إن الاقتصاد ضحية السياسة، لكن في السودان ربما يكون الأول ملهما للثانية، على حد قول الدكتور إبراهيم البدوي، والتوافق حول عقد اجتماعي لثورة اقتصادية مسألة مهمة لإيجاد حل لكثير من الأزمات.

يعتبر رفع اسم السودان من على القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب واحدة من الخطوات الصحيحة في هذا الاتجاه، لأنها تسهل التفاهم مع الصندوق والبنك الدوليين، وترفع المخاوف التي ترسبت لدى بعض الدول. وهي في المجمل إشارة تنطوي على مكونات سياسية عميقة، وتؤكد أن سودانا جديدا يولد الآن.