السيدة دالاوي تعيش الوباء الخفي

جارتي ليست فرجينيا وولف! فالسيدة دالاوي كان حزنها أكبر من أن يستوعبه مداد الكلمات الجارحة.
المجتمع العربي يغني للعزلة دون أن يعيشها

أتخيّل أنني اعرف هذه السيدة جيدا عندما تكون وحدها في منزلها، أعرف كيف تفكر بالخوف والحزن اللذين ينتابانها، وكيف تبدو أمام نفسها في غاية التعاسة، وأن خيارها أن تبقى وحيدة نوع من الحل المُرضي لكنه يبقى مؤلما ومخيفا!

فجارتي التي تكاد تكون مختار شارعنا الهادئ الجميل، تعرف كل الناس هنا، ولا تتردد في محادثة أيّ ممّن تراهم بعد خروجها من منزلها، بينما يكتفي الآخرون بالتحية في ما بينهم، وفي أفضل الأحوال تبادل كلمات قصيرة عن الطقس، أمّا هي فقد منحت نفسها الحق في التحدث بأيّ شيء وفي كل شيء، لأنها تعرف مثلا لمن تعود القطة السوداء التي تتجول في حدائق المنازل، ومن اليقين بالنسبة لها أن تخبرك أن القطة البيضاء تعود للمنزل في الجادة المقابلة.

تحيّيك بابتسامة غير مزيفة وتعلن بدء الحديث معك، سواء برضاك أم من دونه، مرة أثنت على ملابسي وقالت تبدو في غاية الأناقة، لكن من الغباء أن يشتري المرء الكثير من الملابس وبشكل دائم، لأن الموضة متغيرة، فيضطرّ إلى رمي ثياب صالحة للارتداء! هي على حق فالبريطانيون يتبرعون بملابسهم القديمة بشكل دائم.

لماذا تتحدث بأريحية مع الجميع، لأنها ببساطة تعيش وحدها، فزوجها الذي لم تكن على وفاق معه مات مبكرا بسبب إدمان الكحول، ولديها ابنتان تعيشان في مدن متباعدة، تنام مبكرا هذه السيدة من أجل أن تصحو مبكرا، في حقيقة الأمر خيالي يخبرني أنها لا تحصل على جودة النوم المرتجاة، لأنها تتحدث مع نفسها عندما تكون وحدها في البيت، وهذا سبب كاف للقلق، هذه المرأة تعيش حزينة مع أنها تكتفي بوحدتها، وحياتها صعبة لأنها تعيش بمفردها، بالطبع، عملت الأزمات الاجتماعية المعاصرة على جعل الحياة صعبة في وجه الكثير من الناس، ومنهم جارتي، فهي لا تستخدم الإنترنت ولا تمتلك هاتفا مزودا به، وتكتفي بمشاهدة التلفزيون وقراءة الصحف والمجلات كنوع من الحل لمقاومة وحدتها، جارتي ليست فرجينيا وولف! فالسيدة دالاوي كان حزنها أكبر من أن يستوعبه مداد الكلمات الجارحة.

لماذا أتخيل جارتي حزينة أكثر مما ينبغي، مع أنها لا تبدو كذلك في كل حديثها مع الناس، لأنها ببساطة تعيش “الوباء الخفي” وفق تعريف منظمة الصليب الأحمر. فوباء العزلة يكلف السلطات البريطانية 7 آلاف دولار للفرد، لذلك توجد وزيرة دولة في الحكومة مسؤولة عن شؤون الوحدة والعزلة.

وبغض النظر عمّا إذا كانت حياة هذه السيدة سيئة أم جيدة، الوحدة تجعل منها كائنا مختلفا مهما امتلك من مهارات مقاومتها.

من حسن حظ مجتمعاتنا العربية أن هذا الوباء لم يصبها، صحيح أننا نغنّي كثيرا عن الوحدة ووجعها، لكن التقاليد الاجتماعية لم تسمح لها إلى حدّ الآن بأن تصبح وباء كما في الغرب.

من السهل إغفال الحظ هنا، لكن سواء أكان الحظ جيدا أم سيّئا، يمكن لجزء بسيط من الحظ أن يدوم بطرق نجد من الصعب حتى ملاحظتها أو الانتباه إليها.