الشاعر كمال بوعجيلة يبوح في لقاء بنادي مؤانسات
كيف للشعر أن يستوعب الذات في حلها وترحاله وكيف لقصيدة ما أن تكتب الذات في هيجانها الرجيم على ما هو ساكن ومجتر، هي فقط فكرة الكتابة تجترح من الأرجاء ما يعلي من شأن هذه الذات وهي تلهث خلف السراب الجميل..ثمة شجن وقلق ونطر وتأويل وحلم يانع.. ثمة موسيقى بلا تواريخ تعلو لتبتكر عطورها النادرة وهي تتوزع على الآفاق معلنة نواحها الخافت...مثل نشيد قديم من ذهب الأزمنة حيث الانسان كتلة أمنيات وخسارات جمة وأحلام قاتلة.
الشعر هذا المسافر في الأكوان من قدم لا يضاهى الى الآن وهنا يبتكر قائليه ومريديه وفتيته الشرسين في وداعة أحوالهم وسيرهم الناعم نحو الأشياء والعناصر والتفاصيل.
هذا هو الشعر من فرجيل الى الآن وغدا..غير معني سوى بالكينونة تلهج بالأسماء والعلامات والأفعال والذكرى.. حالة نادرة من بين الحالات الانسانية في تعاطي الكائن مع الحياة... كون من أسئلة ومن كل شيئ تجاه الحيرة الكبرى..ترتيب الكلام والكلمات على نحوها الشعري..و وفق هناءات ذوات قوية منكسرة صلبة مفجوعة صامدة هشة عالية منخفضة تقوى على كل شيئ لممكن السقوط دونه.
لا علينا..هكذا نلج عوالم لقاء شعري حول شاعر في "عز القائلة" مثلما عن لمجانين الشعر وأحواله الاحتفاء بذات شاعرة في خصوصية بينة لسيرتها والمسيرة الشعرية الحافة بها، كان ذلك بـ"كهف" دار الثقافة ابن رشيق هذا المكان النادر في تاريخه الثقافي حيث شهد لقاءات وحوارات ونقاشات ثقافية فنية وابداعية فترات الثمانينيات في الأدب والمسرح والموسيقى.
أنسى الشعر وحميمية اللقاء الحاضرين حرارة الطقس لينهمكوا مثل أطفال جدد وبلا ذاكرة في نقاش وحوار وأحاديث ممتعة حول السيرة الشعرية والتجربة الابداعية لشاعر تغمره الطفولة وجمال القصيدة والحلم المقرون بالفرح المنسي.
هو لقاء استثنائي تم بداية من الساعة الثانية والنصف من يوم الاربعاء 8 حزيران/يونيو ليتواصل الى المساء بحضور نقاد وشعراء واعلاميين ضمن نشاط "نادي مؤانسات" بادارة الأديب عمر السعيدي لتكون المتعة الثقافية الشعرية الأدبية والوجدانية حيث قدم الكاتب والناقد نورالدين الخبثاني دراسة قيمة وذكية في تعاطيها مع حيز من تجربة الشاعر المحتفى به ونعني الشاعر الجميل كمال بوعجيلة.
نورالدين الخبثاني اهتم في مداخلته بخصوصية الكتابة الشعرية منذ الثمانينات عند كمال ورغبته في أن يبتكر لنفسه نهجا شعريا مخصوصا وسماه شمسه الخاصة ضمن سعي ككل شاعر يروم الفرادة بما يضيء شيئا من عتمة الحياة مشيرا الى انخراطه في النهج الحداثي المحفوف بالحرية والأسئلة تقصدا لصوت مختلف قائلا انه "شاعر لم تعبده القبيلة".
كما تطرق ومن خلال الاستشهاد بنصوص شعرية لبوعجيلة الى ذهاب الشاعر تجاه اسعاد وسعادة الانسان شعريا مبرزا استبطان الشاعر لحالات القلق والمساءلة والارتياب.
منذ التنشئة الشعرية والخروج عن " القبيلة" ليحضر الحنين والانثى لينتهي الى التحول الحاصل في تجربة الشاعر مشيرا الى " كتابة الشاعر كمال بوعجيلة لما يسمة بنشيد الحرية الانسانية وفق تجدد وتحول بين في تفرد نصي شعري من حيث جملة المعارف والأفكار".
اثر ذلك تداول على النقاش عدد من الحاضرين منهم الأزهر النفطي ووحيدة المي وشمس الدين العوني ولسعد بن حسين وبوبكر العموري وعثمان الجلاصي الشريف ليشيروا الى جوانب من تجربة الشاعر ومناقشة ما ورد في مداخلة نورالدين الخبثاني مبرزين ثراء وخصوصية الكتابة الشعرية لبوعجيلة في همومها الأدبية والانسانية والفكرية السياسية..ليتحدث اثر ذلك الشاعر الضيف كمال في معرض اجاباته عن جملة ما ورد من أسئلة الحضور وملاحظاتهم وليتحدث كما لو يتحدث من قبل في صراحة هي من شيم الشعراء الذين تمرسوا بأحوال الكتابة والحياة وفي غير تكلف وادعاءات ونرجسيات لشعراء نصف موهوبين ومتسرعين عن الشعر والكتابة..كان كمال متحدثا بارعا في بساطة وعمق و"طفولية " عالية عن الكتابة والشعر والطفولة ويشير في شاعرية باذخة الى ضرورة التخلي عن تلك القوالب والتعريفات والمفاهيم البالية التي رافقت الشعر والشعراء متسائلا " أنا أتنقل في الزمان والمكان وفي سفري هذا لا يهمني أو يعنيني رصد تحولاتي الشعرية ومتغيرات الكتابة والتجربة فهذا مجال النقاد والباحثين".
كما أشار في ردوده الى أجوبته بشأن أسئلة وقضايا عن الشعر والحياة الى ما ورد في حواره مع وحيد تاجا لصحيفة "الوطن" العمانية بشأن سؤال هو "يعيش الكثير من الشعراء، بعد عودتهم من الخارج، حالة من الغربة داخل أوطانهم، سواء على الصعيد الاجتماعي والثقافي وأيضاً الفكري والإنساني. هل تعيش هذه الحالة. ومتى يشعر الشاعر بغربة في وطنه.. وكيف تكون علاقته مع هذا الوطن عندها…؟" ليقول "ربما عشتها قبل أن أغادر، وقد تكون غربةً أقصى وأشد لأنها تراكمت عبر السنين والوقائع. مجتمعاتنا تعيش ركوداً قاتلاً منذ ما يزيد عن عشرة قرون، فكيف لا يشعر من يحاول نبش الرماد فيها بالغربة، وربما هذه الغربة هي ما يدفعنا إلى الرحيل ليس بحثاً عن الرفاهية والعيش السهل كما يبدو للكثيرين، وإنما لفتح آفاق أرحب وأجدى للكتابة والتفكير.
بعد العيش هناك والعودة ينفتح الجرح أكثر وتزداد الحساسية تجاه هذا الانغلاق والتحجر وتصبح العلاقة شبه مستحيلة مع المحيط وأعني هنا الناس أي المجتمع، لذلك ترى معي أن أغلب من هاجر من كتاب وشعراء وفنانين على اختلاف مواقعهم وتوجهاتهم تخيروا البقاء هناك فيما يشبه المنفى مفضلينه على أوطانهم الأصلية هذا يفهم في سياق ما يحدث من تحجيرٍ للفكر وتحنيط للعقل ومنع للبحث والاستقصاء، كل شيء جاهز منذ السلف وليس لنا إلا الاقتداء بهم، لا ترى كم هو مخيف هذا التشويه المبرمج للحياة".
وبخصوص سؤال آخر فحواه "كيف تعاملت مع إشكالية الأصالة والمعاصرة خلال تجربتك الشعرية…؟" يجيب قائلا "الأصالة ليست الماضي وكليشيهاته المفرغة من أي معنى والمعاصرة ليست التقليد الأعمى والمبتور لكليشهات العصر، لذلك لا أرى أي تناقض بينهما، انهما معاً الجانب المضيء والانساني في تجارب كل الشعوب قاصيها ودانيها. الأصالة هي التجذر والانتماء لكفاح الانسانية الكبير والمتواصل لأجل حياةٍ أفضل وحرية أسمى وتفاعل أرقى مع الطبيعة والكائنات، والمعاصرة هي الاندماج العقلاني الواضح مع المنجزات والابتكارات التي تخدم الانسان وترقى به مادياً ومعنوياً. هكذا أفهم هذا الثنائي، ولا أستسيغ ما يروجه البعض من تناقض وصراعٍ وفوضى بين هذين المفهومين في حين أن الصراع قائمٌ بين الإنساني واللاإنساني منذ القديم في كل المجتمعات والشعوب".
وقرأ الشاعر كمال بوعجيلة جانبا من قصائده الجديدة والعذبة انسيابا وجمالا، وفي ايقاعها الخفيف والمحبذ للنفس المرهقة بالراهن وأحواله الشتى..هذا هو كمال الذي كان معنا وعرفناه الشاعر منذ الثمانينات.. انه الشعر زمن الخديعة بل أزمنتها.. شعر في مواجهة القلق..شعر يذهب للقلق.. ليبقى رجع صدى القصائد التي أختزلها أنا في جمال وروعة هذا المقطع من النص البوعجيلي العالي "...لماذا اذن...تخدع امرأة الحلم...نرجسها" .
بوعجيلة، شاعر مختلف وعميق وحضور مميز لعارفين بتجربة الضيف، ولقاء استثنائي أذهب عن الأنفس والاجسام حرارة صيف تونسي.. الشعر هذا البهاء النادر يفعل فعله.. في اللغة..في الكلمات..وفي الناس.