الشاهد يحقق حكاية تميم الداري ويناقش أصولها التاريخية

"حكاية المختطف عن ألف ليلة وليلة" أول تحقيق علمي لأقدم حكاية شعبية.
الباحث يحلل الآراء التي عرضها المستشرق الفرنسي رينيه باسيه والناقد التونسي حمادي الزنكري، والباحثان الإسرائيليان يهوشع فرانكل، وموشه كوهين
حكاية تميم الداري ترتبط في أصلها العميق بحديث نبوي

يقدم د.نبيل الشاهد في كتابه "حكاية المختطف عن ألف ليلة وليلة"، "أول تحقيق علمي لأقدم حكاية شعبية "حكاية تميم الداري وما جرى له من العجايب"، تلك الحكاية التي نشأت في تاريخ الإسلام متماهية مع حديث الجساسة المشهور والوارد في صحيح الإمام مسلم. ويناقش الكتاب الأصول التاريخية والدوافع الدينية لبزوغ وانتشار "حكاية تميم الداري وما جرى له من العجايب" في ربوع العالم الإسلامي، وهو الانتشار الذى جعل نسخ الحكاية تتوزع بين مكتبات العالم. 
كما يسعى الكتاب لمحاولة تتبع فرضية انضمام الحكاية لحكايات النسخ الأم في النص الألفليلى، إضافة لتحليل الآراء التي عرضها المستشرق الفرنسي رينيه باسيه في مجلة الجمعية الآسيوية، والناقد التونسي حمادي الزنكري، في حوليات الجامعة التونسية، والباحث الإسرائيلي يهوشع فرانكل، وزميله موشه كوهين، في مجلة "الكرمل" بجامعة حيفا. كما يعقد الكتاب صلة وثيقة بين دور الراوي الديني وأثره في رواية الحديث وجموح خياله العجائبي في الحكاية الشعبية التي تؤرخ لعلامات آخر الزمان في نص حكائي شعبي.
ويلفت الشاهد - في كتابه الصادر عن دار عالم الكتاب - أنه يروم من دراسته نشر الحكاية الأقدم في تراث العجائبي العربي، وتقديمها بالشكل الأكثر منهجية، والكشف عن تعالقاتها الدينية والجغرافية، والبحث عن أثر ذلك في ذهنية المرسل والمتلقي خلال فترات انتشارها وذيوع صيتها، خاصة وأن للحكاية عددا لا يستهان به من النسخ المخطوطة التي تكشف عن مدى انتشار الحكاية. 
ومن اللافت للنظر أن هذه القصة قد تم تداولها بشكل أساسي في المنطقة الأفريقية "الشمالية"، كما يشهد على ذلك وجود عدد كبير من المخطوطات فهناك حوالي 30 نسخة مخطوطة من قصة رحلة تميم، محفوظة تحت عناوين مختلفة وكل منها مختلفة عن الأخرى من حيث المحتويات والحلقات المدرجة.

توصيف المخطوطات ومنهجية التحقيق بملاحق ضمت النص الذي قام الشاهد بتحقيقه،  وملحق خاص بحديث الجساسة كما ورد في صحيح مسلم. وكذلك نماذج من صور المخطوطات والنسخ التي اعتمدها في تحقيق حكاية تميم الداري

ويشير إلى أنه يشفع للقول بظهور حكاية تميم الداري أنها ترتبط في أصلها العميق بحديث نبوي ـ حديث الجساسة ـ يحظى بحكم بنيته بالقبول والانتشار، سواء بين أوساط العامة أو الخاصة من علماء الحديث، وعليه يمكننا افتراض وجود الحكاية في القرون المتقدمة زمنيا، غير أنها لم تكن منتشرة بالقدر الذي يسمح بتداولها وتدوينها، وأن انتشارها الأكبر وتدوينها، الأوسع بدأ مع القرن العاشر من الهجرة وما تلاه، ويدعم هذا الافتراض تلك الاشارات اللطيفة التي أوردها الجاحظ في القرن الثالث الهجري عن تميم الداري، في إشارة لروابط متعددة بين عجائبه في البحر وعلاقة ذلك بذي القرنين والقصص والتكدية. وكذلك ما ذكره صاحب كتاب "التيجان في ملوك حمير"، في نفس الفترة تقريبا، عن مغامرات تميم في مدينة إرم التي بناها شداد بن عاد. كما أن صاحب الفهرست ذكر كتابا مجهولا يعرف بـ "كتاب التميمي والتميمية الذين تعاهدوا، وهو ما يشي بانتشار الحكاية الجامعة لحديث السمر الليلي، مع حديث الخرافات والعجائب الذائع الصيت في هذه الفترة، ولذلك اشتهر التميمي بالمختطف الذي لا عقب له، وغلبة اللقب على الاسم، يعني أن الشخص عرف واشتهر عن طريق الحكاية التي اختطف فيها، أكثر من غيرها من الصفات التي لازمته.
وقال الشاهد إن حكاية تميم الداري تدرج على وجه خاص بجانب الحكايات التي تلتحف بغطاء السحر والرحلة والخوارق والعجائبي، لأنها تسير على منوال حكاية "التاجر مع العفريت ـ حكاية وزير الملك يونان والحكيم دوبان ـ حكاية الصياد وأخويه ـ حكاية مغامرات حاسب كريم الدين ـ حكايات السندباد" وغيرها من الحكايات التي تتماس مع هذا الخط اقترابا وابتعادا. وهي كذلك تستجمع آليات الحكي الألفليلي سواء من ناحية التأطير الحكائي أو التوزيع الشجري، أو التشعب المكاني، أو الانفتاح الزماني، أو الاتكاء على شخصية البطل الأوحد، الذي يخوض الصعاب من نقط اتزان، ليتأزم بعدها الحدث عبر مسار رحلي، في اختلال ممتد، يعقبه الوصول لخاتمة/ تشكل الحل لكل الأحداث المتشابكة، بلا حول ولا قوة منه.
وأوضح أنه حتى لو خلت نسخ النص الألفليلي المتاحة بين أيدينا الآن من حكاية تميم الداري، فإنه لا يمكننا الجزم بخلو النسخ التي غيبها التاريخ من دمج هذه الحكاية بين دفوفها، لأنه من المحتمل أن تكون الحكاية ضمن الحكايات التي وجدت في النسخ الأم المندثرة، أو تلك التي اختفت بفعل الضياع والتشظي ومحاولات الطمس التي تمت لمنع الأدب غير الرسمي من التواجد بموازاة الرسمي منه. ويؤكد ذلك ما عثرت عليه د.نبيهة عبود ونشرت عنه دراسة في مجلة "دراسات الشرق الأدنى"، عن أقدم ما وصل إلينا حاملا عنوان إحدى الأمهات القديمة التي سبقت النسخة الأم، ويشير أصل الورقة المعنون بـ "حديث ألف ليلة" لأوائل القرن الثالث الهجري، وهو ما يؤكد فرضيتنا بذيوع النص الألفليلي لما قبل القرون الأربعة الأولى من الهجرة، وهو ما يدفع بافتراض وجود حكايتنا في هذه الفترة، ولاحتمالية تضمينها في النص الأم بوصفها الحكاية الأقدم ذات المنشأ الديني.
وأكد الشاهد أن الصلات الوشيجة القائمة بين الحكاية الشعبية المنبثقة عن أصل حديث نبوي، تدعم أقدمية الحكاية وتضمينها في الحكايات الألفليلية من ناحية، وفكرة أصلية الحكاية وعروبتها من ناحية أخرى، وهذه الأقدمية تجعلها مسوغا لاحتمالية وجودها كحكاية أم، ظهرت في القرون الثلاثة الأولى للهجرة، وأنها بانتشارها الواسع الذي تدل عليه النسخ، وكتابتها، على الأغلب، كحكاية مستقلة أو مضافة لبعض الحكايات الأخرى، يدفع لكونها أصلا في النسخ الأولى من ألف ليلة، أو ربما على أقل تقدير كانت مضمنة في النسخ الدستورية التي تلتها، أو ربما تاهت من النسخ الأخيرة التي وصلتنا، وأن احتمال ظهورها، بعدما سقطت منها بفعل الزمن أو النساخ أو الايديولوجيا، قائم. 

heritage
نبيل الشاهد

وتابع "لو افترضنا جدلا أنها ليست من الليالي لا من قريب أو بعيد، وأنها ليست أصلا مما كان أو ما هو قائم فعلا، فلنا أن نتساءل: ولماذا لم تلحق الحكاية في أبواب الحكايات والنوادر والملح مما تولى جمعه الأدباء في عيون كتبهم ومستظرفاتهم؟ أوَليس من الإجابات المحتملة أيضا، أنه ما جرأ أحدهم على ذلك لنسبتها وبنوتها لأصل أصيل في الليالي، ولو علم أحدهم بكونها لقيطة، لا أب لها أو أم يرجع إليها لإثبات عراقة أصلها، وأنها لا تعدو أن تكون غرسا شيطانيا من مجهولات النسب، فلن نعدم من كان يتسابق ليضمها في كتابه تحت باب الوعظ والاعتبار أو التربية والاستبصار.
ورأى الشاهد أن التناص الحكائي لعب مع شخصية المسيح الدجال أحد مظاهر المصداقية التي اعتمدها الراوي، فباستدعاء حضوره وظهوره كشخصية أساسية في نص المخطوط، الذي تناص فيه مع المخيال الشعبي والديني، الذي صوره كرجل أعور، يعيش في عزلة منتظرا أوان الأوان، ليخرج مستجيبا لنداء الوظيفة التي رسمت له، ثم عملية الإيهام بالتحديث الديني لا التسريد الحكائي، يحكي تميم الداري "فدنوت منهم فإذا أنا بشجرة، وإذا برجل جالس في أصلها، وإذا هو موثوق بالحديد، وهو ممسوح العينين، وإحدى عينيه كالكوكب الذي يلوح في وجهه، فبقيت أنظر إليه، وإلى عظم خلقته، فقال لي أنت إنسي. فقلت: نعم. فقال لي: من أي أمة أنت؟ قلت: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ومن مدينته. فقال: أخبرني عن محمد، أبعث أم لا؟ فقلت: بعث، وقد قبض. فكان متكئا فاستوى جالسا. فقال: ادن مني، فما عليك بأس، إنما أريد أن أسألك. فدنوت منه، فإذا هو موثوق بالحديد من رأسه إلى قدميه. فقال لي: كيف شهادتهم بالله؟ فقلت: يشهدون لا إله إلا الله محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم). يقولون ذلك في قيامهم وقعودهم، وصعودهم ونزولهم وطرقهم وفي سرهم. فلما أخبرته بذلك، ذاب كما ذاب الرصاص، ثم إنه عاد متكئا، فقال لي: أخبرني عن العين، هل غادرت؟ قلت: لا. بل هي تدفق بمائها، والنبات حولها. فقال: ما فعل بحر سيار؟ قلت: هلك. قال: يوشك أن يطلقنا الله تعالى، ونأتي إلى مكة ونطوف بالمدينة وبيت المقدس، فإني لا أقدر على الدخول إليهما. ثم قال لي: هل ظهر في أمة محمد صلى الله عليه وسلم الزنا. فقلت: نعم، وقد فشى فيهم الزنا، وسفكت فيهم الدماء. وصارت شهادتهم زورا، وشربوا الخمر جهرا. قال: قد سرني ذلك. وكل هذا في أوان خروجي من السجن، ثم إنه زعق زعقة عظيمة، حتى ظننت أن الجبال قد تصدعت. وإذا بملك نزل عليه وبيده عمود من حديد، فضرب به رأسه. وقال له: اخسأ يا ملعون، فليس هذا أوان خروجك. فتنخس؛ فتركه ووليت على وجهي يومي ذلك وليلتي".
وأضاف أن تقنية الحوار الدائر بين الشيخ وتميم هي من أهم مظاهر هذا التناص مع قصة الجساسة، خاصة بما يحمله الحوار من آلية السؤال عن أشياء محددة، يجهلها السائل ويتلهف لمعرفة إجابتها من المسئول، ولما تخالف الاجابة طموحه المنتظر، يختفي وجوده بالتحول إلى مادة غير المادة التي كان عليها، ويصبح مصير عودته لحالته الأولى، أمرا مجهولا للمسئول والقارئ على السواء.
واختتم الشاهد كتابه بتوصيف المخطوطات ومنهجية التحقيق بملاحق ضمت النص الذي قام بتحقيقه، "مجلس في شرح حال تميم الدار صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم". وملحق خاص بحديث الجساسة كما ورد في صحيح مسلم. وكذلك نماذج من صور المخطوطات والنسخ التي اعتمدها في تحقيق حكاية تميم الداري.