الشركات المليارديرية معنية بمصير الصحافة

الصحافة ليست مشروعا شعبويا يفكر بالحضور بغض النظر عن التأثير، بل هي روح خدمة عامة تقدم للناس، لذلك حان الوقت أن تكون ثروات المليارديرية منقذا لها من أجل المحافظة على أهميتها داخل المجتمعات.
لم تعش الصحافة عصرا غير عادل بحقها كما تعيش اليوم

لم يخف مقاتلو لوحة المفاتيح تهكّمهم الساخر أكثر مما ينبغي على تبرع ملياردير مثل جيف بيزوس مؤسس شركة أمازون، ومارك زوكربيرغ مالك فيسبوك، من أجل مواجهة انتشار كورونا. فبنظر هؤلاء المقاتلين “وهم على حق تماما”، أن تبرع بيزوس مئة مليون دولار وزوكربيرغ 25 مليون دولار، كما لو كانت ثلاثة دولارات! في نسبة لا تعادل شيئا من ثروتيهما.

التهكم مرده أن تعاطف الرجلين الثريين كشف عن إحساس ببخل الشعور بالمسؤولية حيال مأزق يمس الناس برمتهم على الأرض. تكتب هانا ميرفي مراسلة صحيفة فايننشيال تايمز في الولايات المتحدة “لا يستطيع مقاتلو لوحة المفاتيح قول الشيء نفسه عن مؤسس تويتر ورئيسه التنفيذي جاك دورسي الذي تعهد الأسبوع الماضي بتقديم مليار دولار لجهود الإغاثة من فايروس كورونا وهي واحدة من أكبر المساهمات الفردية في مكافحة الجائحة، تعادل 28 في المئة من ثروته”.

بينما قال ديفيد جونز الرئيس التنفيذي السابق لمجموعة الإعلان “هافاس” ومؤسس شركة التكنولوجيا “يو آند مستر جونز”، “كان لدى دورسي دائما اعتقاد أساسي بأن الأعمال التجارية يمكن أن تكون، وستكون، قوة من أجل الخير في العالم”.

وفي الوقت الذي يحاول فيه صناع الصحافة التنبؤ بالطموحات الحقيقية لشركة فيسبوك ومالكها، يوجد أمر واحد واضح وفق صحيفة فايننشيال تايمز “المدفوعات هي ساحة المعركة. حتى لو لم تحقق نجاحا، فقد زادت فيسبوك التحديات أمام منافسيها بمجرد ولوجها لهذا المجال”.

وهذا ما دفع جاي روزن أستاذ الصحافة في جامعة نيويورك، ومؤلف كتاب “لهذا تم اختراع الصحافيين” إلى القول إن “الأثرياء الذين يحافظون على الصحف صامدة ماديا من خلال تبرعاتهم الضخمة، من الممكن أن يبدأوا بإلقاء ثقلهم للتأثير في الأخبار، هذا سيكون تطورا متوقعا تماما. فهل هذا خطر؟ بالطبع هذا خطر. لكن كل نظام دعم معروف للبشرية مليء بالمخاطر”.

مناسبة الحديث على التبرعات يتعلق اليوم بمصير الصحافة نفسها التي لم تعش عصرا غير عادل بحقها كما تعيش اليوم، كانت قد دخلت السوق المريضة منذ سنوات، وقد أجهز عليها فايروس كورونا بالأمس ليقتلها بشكل قد يكون نهائيا. فالمخاوف بشأن مستقبل الصحافة المطبوعة في النظام الرقمي الطاغي، حيث يزدهر التزييف، ليست شيئا جديدا، لكن هذه الأزمة وضعت الأمور في حالة انهيار حاد.

يمكن لكورونا أن يوجه الضربة النهائية إلى أجزاء من صناعة تكافح بالفعل مع سوق مريضة منذ أكثر من عقد، بينما فشلت لحد الآن كل العلاجات، الحق أن الحكومات لم تكن جادة أو مندفعة في رسم الاستراتيجيات لإخراج الصحافة من السوق الكاسدة.

إنقاذ الصحافة من قبل الشركات التكنولوجية الثرية لا يعني بأي حال من الأحوال تبرعا، أو كرما يستحق فكرة الثناء الفلكلورية، لأنه يعني ببساطة المحافظة على وسيلة ترقى بالمجتمعات وتدفع باتجاه حرية تبادل المعلومات والمحافظة على الديمقراطية ومنع تغول وفساد الحكومات. مثلما تساهم في استمرارية عمل تلك الشركات بقوة. وتلك مسؤولية جمعية وفقا لمدونة القيم التي يتفق عليها الأثرياء أنفسهم والتي تعلن عنها الشركات التكنولوجية من دون تردد.

أو بتعبير ميرفي “في العالم الذي لا يرحم، عالم النمو بأي ثمن في وادي السيليكون، يمكن أن تكون الإنسانية ذميمة” وهي رسالة موجهة بشكل خاص لمليارديرية الشركات التكنولوجية.

الصحافة ليست مشروعا شعبويا يفكر بالحضور الدائم بغض النظر عن التأثير، بل هي روح خدمة عامة تقدم للناس، لذلك حان الوقت أن تكون ثروات المليارديريه والشركات الكبرى منقذا لها من أجل المحافظة على أهميتها داخل المجتمعات.

تواجه الصحافة اليوم تهديدا اقتصاديا وجوديا في إعادة ضبط مكانتها في العالم. بينما يتصاعد الجدل المتشائم بشأن الإعلام والسياسة والديمقراطية في زمن كورونا وما بعده، هناك تردد أكثر من أيّ وقت مضى بشأن تعريف الصحافة، ولماذا هي مهمة باعتبارها الوسيلة المثالية للنقاش المثمر من أجل المصلحة العامة. بالأمس حذر كريستوف دولوار، الأمين العام لمنظمة مراسلون بلا حدود، من أن يكون وباء كورونا فرصة للدول الأسوأ تقييما في تصنيف حرية الصحافة لتطبيق “عقيدة الصدمة” التي وضعتها الكاتبة نعومي كلاين عن صعود رأسمالية الكوارث، موضحا “أن تلك الدول تستغل ذهول الجمهور وضعف التعبئة لفرض تدابير يستحيل اعتمادها في الأوقات العادية”.

على مستوى آخر ثمة أمل بارتفاع الأصوات من أجل إنقاذ الصحافة في العالم برمته وسط سلبية حكومية عربية مخجلة وهي تتفرج على انهيار الصحف في بلدانها، وفي الواقع أن القراء الأوفياء الذين عولت عليهم صحيفة الغارديان مثلا في دعمها بالاشتراك والتبرعات ليسوا حلا دائما، بل الحل في أموال الشركات التكنولوجية الكبرى وهي تدير جمهوريات المليار مستخدم بتصاعد مستمر لأرصدتها المالية.

هذا الأسبوع دعا وزير الثقافة البريطاني أوليفر دودن المواطنين في بلاده إلى شراء الصحف خلال أزمة كورونا. وكتب الوزير “الآن بالتحديد تؤدي صناعة الأخبار خدمة حيوية للمواطنين حيث تقدم لهم أهم المعلومات عن مسار الجائحة”، محذرا من أن تراجع وسائل الإعلام يمكن أن تكون له عواقب بعيدة الأثر على الديمقراطية، قائلا إن الصحافة تكافح ضد أكبر أزمة وجودية في تاريخها.

فيما أعلنت أستراليا أنها ستجبر غوغل وفيسبوك على الدفع لوسائل الإعلام مقابل نشر محتواها، وهي خطوة تهدف إلى مساعدة وسائل الإعلام التقليدية على مواجهة منافسة عمالقة الإنترنت.

وقال وزير الخزانة الأسترالي جوش فرايدنبرغ إن القواعد الإلزامية ستقدم بحلول يوليو، وهذا ما نريده هو شروط متكافئة للمنافسة.

بينما أصدرت الجهة المسؤولة عن المنافسة العادلة في فرنسا أمرا لشركة غوغل بالتفاوض مع الناشرين ووكالات الأنباء في فرنسا حول البدل الذي عليها دفعه مقابل نشر محتوياتها.

مع ذلك فأن ما يحصل في الواقع بحسب إيان موراي مدير مجموعة رؤساء التحرير في بريطانيا هو “فسحة أمل بسيطة وسط غمامة هائلة”.