الشعر العربي بين مد التجديد وجزر التقليد

شاعرية الشاعر لا تقاس بنوع الموضوع الذي يتطرق إليه في شعره.
شعر أبي نواس هو في القمة من حيث استيفائه على عناصر الشعر ومكوناته
الشعر إذا تخلى عن جوهره وساير مجالا غير مجاله فقد صفة الشاعرية وتحول إلى نظم
أبا المسك هل في الكأس فضل أناله **  فإني أغني منذ حينٍ وتــشرب؟

ألا يا طائر الـفردو ** س إن الشعـر وجدان 
عبدالرحمن شكري

الشعر صورة من الحياة ونسل من رحمها، وهو ترجمان الشعور، وفيض من توتر الروح وسبحات الوجدان، وكل موضوع من مواضيع الحياة، سما أو انحّط، مثاليا كان أو واقعيا، وكل همسة أو خفقة قلب أو شرارة انقدحت في الوجدان هي مجالات الشعر.
وليس يعني الشاعر في شعره بالمثل والقيم العليا فما هو بفيلسوف ولا داعية ولا مصلح إنساني، وإذا جاء شيء من هذا في شعره فهو من طريق غير مباشر وإلا فسدت رسالة الشعر، ورسالته تجمل في كلمة فحواها أن الشعر تعبير عن الوجدان.
إن الشاعر الحقيقي صنو للإنسان الحقيقي، فكما لا يكون الشاعر شاعرا إلا إذا امتلك زمام اللغة وتبحر في بلاغتها وعرف أوزان الشعر وقواعده فليس هو بشاعر إن خلا قلبه من الحب – حب الكائنات والطبيعة – والسعي إلى إضافة شيء في المعمار الإنساني.
ومن ثمة تسقط الدعوة التي يروج لها بعض الناس وهي أن الشعر لا يكون شعرا إلا إذا تضمن الأشياء العظيمة وحلّق في سماء الفضيلة وما عداه ففحش ومجون.
وفي الواقع فشاعرية الشاعر لا تقاس بنوع الموضوع الذي يتطرق إليه في شعره، ومن ثمة الحكم بالإبداع أو الرداءة وإنما بطريقة الأداء وكيفية التصوير ودلالة اللفظ على المعنى وتدفق الشعور كتيار مصاحب للصور الشعرية وهي وحدها العناصر التي يحاسب عليها الشاعر.

أزمة الشعر الحديث في رأينا تأتي من كون الجيل اللاحق لجيل الكبار (السياب، الملائكة، البياتي، دنقل، عبدالصبور) لم تستقم له الملكة الشعرية ولا تهيأت له أسباب السيطرة على اللغة العربية، ولا تعمق في دراسة الشعر العربي الكلاسيكي

وفي تراثنا الشعري القديم كثير من المنظوم الذي ليس بشعر، فمنه ما يخلو من صدق الشعور وأكثر شعر المديح من هذا القبيل، وفي دواوين الشعراء الكبار كالمتنبي وأبي تمام والبحتري كثير من هذه السقطات التي ابتغى بها هؤلاء الشعراء حطام الدنيا مقابل التزييف والقفز على قناعات عقولهم وأحاسيس وجدانهم فالمتنبي الذي يقول في كافور:
قواصد كافور توارك غـيره **  ومن قصدَ البحر استقل السواقيا
يعود ليقول فيه:
ومثلك يؤتى من بلاد بعــيدة** ليضحك ربات الحداد البواكيا!
ولا لشيء إلا لكونه انتظر إمارة من كافور ولم ينلها:
أبا المسك هل في الكأس فضل أناله **  فإني منذ حين أغني وتــشرب؟
فأين هو صدق الشعور الذي انقلب من الضد إلى الضد في أمد قصير؟ ولم يسلم شعراء الجاهلية على علو كعبهم في الشاعرية من آفة تسيء إلى الشعر، وهي آفة التقليد فإذا كان امرؤ القيس قد وقف على الديار فبكى واستبكى حسب غيره من الشعراء أن عليهم سداد دين لآلهة الشعر ليترصدن خطى الملك الضليل حتى ولو لم يكن لأحدهم في سوق الهوى الذيوع وما وقف حقيقة على طلل. ولذا عد أبونواس شاعرا بحق لأنه قال: 
عاج الشقي عن رسم يسائله ** وعجت أسأل عن خمارة البلد
لقد جعل الشعر ترجمانا عن وجدانه ولسانا يبين عن حاله، وقد كان أبونواس رجلا غاص في الرذيلة إلى الأذقان، ولم تكن حياته إلا السكر والإمعان في الفجور وهو يبدع حين يصف عربدته ودعارته وليس أبدع في وصف الخمرة وتأثيرها من قوله:
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ** إن مسها حجر مسته ســـراء
وحياة أبى نواس لا ترضي المثل ولا يرضى عنها أهل المروءة، ولكن شعر أبي نواس هو في القمة من حيث استيفائه على عناصر الشعر ومكوناته.
والشعر إذا تخلى عن جوهره وساير مجالا غير مجاله فقد صفة الشاعرية وتحول إلى نظم، وقل مثل هذا عن الشعر الأخلاقي والوعظي المباشر وديوان الشافعي ولامية ابن الوردي خير مثال على هذا.
والشعر موسيقي في الصميم فهو على حد تعريف القدماء له الكلام الجميل الموزون المقفى، وقد حافظ الشعر العربي على نسقه العمودي أحقابا طويلة، واقتضت ضرورة الحياة وتطوراتها وتباين البيئة من إحداث تجديد فيه دون التخلي عن الأوزان الخليلية، وأفضل مثال على ذلك الموشحات الأندلسية واستعمال الأبحر المجزوءة واستحداث التغيير في بحر بعينه كمخلع البسيط وقد نظم عليه ابن الرومي هجائيته المشهورة:
وجهك ياعمرو فيه طول ** وفي وجوه الكلاب طول
ولكن في العصر الحديث ونتيجة لاحتكاك الشعراء بالثقافة الغربية الوافدة وبتأثير من الشاعر الإنجليزي توماس إليوت، ثار لفيف من الشعراء العرب على عمود الشعر، ذلك أنهم رأوا فيه إكراهات وقيود تعيق حرية الشاعر، ولعل أهمها تبعية الشاعر للغة قصد الاستجابة لدواعي الوزن، وعلى الرغم من أن هؤلاء الشعراء بإمكانهم تنويع القافية كسرا لهذا الغل، إلا أن هذه الحرية في معتقدهم لا تشفي الغليل، فالشعر تيار نفسي مسكون بالرغائب والهواجس والانفعالات، مسكوب في قوالب لفظية ودرجة الانفعال وحدته هي التي تتحكم في طول وقصر البيت وهو ما يسمونه  بالسطر ولقد كان السياب ونازك الملائكة والبياتي وصلاح عبدالصبور وخليل حاوي وأمل دنقل ونزار قباني خير من يمثل هذه الحركة التجديدية، التي لاقت معارضة شرسة من قبل المحافظين على عمود الشعر، ولعل أبرز المعارضين العقاد، وله في ذلك حجة ذكية تستحق النظر وفحواها أن الشعر حركة ومناورة في فن محكوم بالقيود (الوزن والقافية) والشاعر الحقيقي هو الذي يتحرك بخفة ورشاقة دون أن تحد تلك القيود من مرونة حركته، فهو يعبر عن رغائبه وبنات أفكاره ومشاعره أتم تعبير وأكمل تصوير وكأن تلك القيود غير موجودة أصلا وله في ذلك قصيدة طريفة بعنوان "حانوت القيود".
لا ريب أن العقاد قد غالى في حملته على الشعر الجديد، وقد جانب الصواب حين أحاله على لجنة النثر للاختصاص، فالبحور الشعرية وشكل القصيدة العربية المتوارثة ليست وحيا منزلا وما على الخلف إلا الاتباع، فلأبناء هذا العصر ثقافتهم وظروف حياة تختلف عن حياة آبائهم وعالم يعيشون فيه يمتلأ حركة ونموا ومرونة فمن السخف غض النظر عن كل هذه الأشياء والركون إلى ميراث الأجداد لاستهلاكه دون أن يضيف إليه الأبناء شيئا جديدا.

إن في الشعر الحديث إنجازات شعرية كبيرة هي ترجمان الشاعر والعصر على السواء وهي قصائد تستحق البقاء حتى وإن كانت الذاكرة قد ألفت حفظ الشعر العمودي وترديد حكم المتنبي وغزليات امرىء القيس وخمريات الأعشى ومواجد ابن الفارض .
وإن القارئ الحصيف الحي الضمير، المرهف الإحساس، الغني العقل ليجد في قصائد من مثل "دار جدي" و"أنشودة المطر" للسياب، و"الظل والصليب" لصلاح عبدالصبور، الفن الكبير الذي يغذي العقل والوجدان على السواء .
ولا أدل على ذلك من هذا المقطع لخليل حاوي من ديوان "نهر الرماد ":
خلـني للبحـر، للريح، لموت
ينشــر الأكـفـان زرقا للغريـق                                              
مبحـر ماتت بعينيه منارات الطريـق
مات ذاك الضـوء في عينيـه مات
لا البطولات تنجـيـه ولا ذل الصلاة !
فهو مقطع قد تكاثفت فيه الروح الشعرية، وتعددت فيه صور الضياع ومشاعر الكآبة والانسحــاق، وموسيقاه مناسبة تماما لهذا الغرض أي الأزمة الوجودية الخانقة التي يحياها الشاعر .
والشاعر يعتمد تكرار التفعيلة (فاعلاتن) من بحر الرمل في كل سطر حسب حاجته النفسية: 
 فاعلاتـــن  فاعلاتــــن  فعلاتـــن
فاعلاتــــن  فاعلاتـــن  فاعـلـــن
فاعلاتن  فاعلاتـــن  فعلاتـــن  فاعلن
فاعلاتــــن  فاعلاتـــن  فاعـلـــن  
فاعلاتـــن  فعلاتـــن فعلاتـــن فاعـلـــن 
فمن غير المقبول اعتبار هذا الإبداع الشعري المحكم البنيان، الغني بالصور الشعرية، والطاقة الشعورية المتدفقة من وجدان الشاعر محالا على لجنة النثر  للاختصاص.
وأزمة الشعر الحديث في رأينا تأتي من كون الجيل اللاحق لجيل الكبار (السياب، الملائكة، البياتي، دنقل، عبدالصبور) لم تستقم له الملكة الشعرية ولا تهيأت له أسباب السيطرة على اللغة العربية، ولا تعمق في دراسة الشعر العربي الكلاسيكي، ولا تمرس بدراسة المذاهب والنظريات النقدية الغربية والشرقية على السواء، ناهيك عن الجهل التام بالعروض وقواعده والقافية وأصولها، وأغلبهم يعجز عن إنشاء قصيدة عمودية، ولذا تراه تحت دعاوى التجديد والحداثة وما بعد الحداثة يحاول إخفاء عورته والتستر على فقره بهذه الرطانات التي يسميها صاحبها شعرا حديثا وفي الواقع هي مؤشر الأنيميا الشعرية والسقوط الفاضح.
وما نحسب أن هؤلاء الكبار الذين أشرنا إليهم كانوا يعجزون عن النظم حسب أصول القصيدة العمودية، وللملائكة والسياب بل ولعبدالصبور قصائد عمودية، تدل على تمكن هؤلاء الشعراء من القصيدة العمودية، ولكنها الروح التجديدية الوثابة هي التي حدت بهؤلاء الكبار إلى إنتاج شعري جديد شكلا ومضمونا.