"الشعلة وجبل الجليد" .. ماذا نريد من الحياة؟

رواية محمد حسن عبدالله الفائزة بجائزة المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب في ستينيات القرن الماضي جاءت في ثوب طباعي شديد التواضع.
الروائي في خط التشويق تلاعب بمصائر شخصياته
الرواية تكشف نوازع النفس البشرية العجيبة والمتشابكة، وخواطرها ولفتاتها النفسية العميقة

ارتفعت نسبة مقروئية الروايات مؤخراً، واشتهرت روايات دون أخرى، من جميع الأجيال، بحيث تعاد طبعاتها أكثر من مرة، ويبدو أن للكتب حظوظاً وأرزاقاً مثل البشر، فقد ألتقطت رواية "الشعلة .. وجبل الجليد" للكاتب د. محمد حسن عبدالله، من أرفف مكتبتي، والصادرة عن مكتبة الشباب بالمنيرة، في ثوب طباعي شديد التواضع، والكاتب له مجموعة كتب نقدية ُطبعت أكثر من مرة، منها رسالته للماجستير "الريف في القصة المصرية"، ورسالته للدكتوراه "الواقعية في الرواية العربية"، وله إصدارات أخري حيث نشر له أكثر من 58 عنواناً، لكن روايته تلك لم يتم مقاربتها نقديًا حسب إحاطتي، رغم أن الرواية لها حكم قيمة حيث أشارت الصفحة الأولي من متن الرواية أنها الرواية الفائزة بالجائزة الأولى والميدالية الذهبية من المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب في ستينيات القرن الماضي.
وقد حققت الرواية مفهوم القراءة الشجية بإثارة الفكر والتأمل في قصدية الروائي، حيث تقوم على مجموعة من الشخصيات الرئيسة، وأخرى شخصيات فرعية، لكن تلك الشخصيات الثانوية موظفة بذكاء لخدمة أفكار الرواية، فمن هذه الشخصيات من حضر سويعات قليلة علي مسرح السرد، مثال "فاطمة" وزوجها "رشدي"، والأخير هو زوج "فاطمة" أخت "أحمد ماهر" البطل الرئيس في الرواية الذي يري الدنيا من منظور كتبه.
تقول له والدته: "أنت يا بني لا تعرف كيف تمضي الحياة في البيوت ... ليس كل العلم في الكتب. ما أصدق هذه الكلمات وأقساها .. فيهتف بقلب ذبيح: رحمتك يا رب. وينصرف إلي كتبه .. إلى الحقيقة الوحيدة في حياته".
تقول له الأم: "أنت لا تعرف كيف تمضي حياة الناس .. أنت نبيل وذو خلق رفيع، لكن الحياة لها أخلاق أخرى تفرضها على الناس". هنا نفي الاختيار في ظلال هذا الغول المتوحش لندرة الفرص أو البدائل للاختيار: "آه .. أين أنا في ذلك الغول المتوحش ... العالم!!"
الشخصيات الرئيسية هي أحمد ماهر وصديقه زكريا، فريدة وصديقتها سامية، والرباعي طلاب في الجامعة، ود. راضي أستاذهم بالجامعة الشخصية الرئيسة الخامسة، وقد تشابكت خيوط الأحداث والمشاعر، وتبدلات المواقف، وحتى آخر سطر من الرواية، ظل التشويق مشتعلاً، حيث لم تتحدد مصائر الشخصيات إلا بآخر صفحة من الرواية، لم  يُحَط القارئ بالمصير، ولم يستطع التنبؤ بهذا المصير من تفاعلات الشخصيات والمواقف بالرواية.

إن الرواية تنتمي بذلك لما يسمي "سرد التكوين"، يقول الناقد سيد أحمد السيد: "الجامعة فضاء نموذجي لزمن التكوين وهو زمن يبدأ من نهاية الطفولة ويصل إلى فترة الشباب .. زمن الصداقة والحب والأحلام ... زمن النهم للتحصيل والتغيير ...أي سحر كامن في هذه الفترة يدفع كتاب السرد لتناولها؟". لعل الإجابة أتت في ثوبها الروائي حيث أنماط الشخصيات المتباينة التي تخط بسلوكياتها واختياراتها مسارها في الحياة.
ويطرح الروائي سمات الشخصيات ليكشف لنا أن مصائرها ارتبطت بما جبلت عليه من أخلاق: "كان أحمد ميالاً للعمل الجاد والعنيف، وكان دائم الحركة .. نشط الخيال، ولكن خياله كانت تتحكم فيه الطريقة المسرحية .. وكما تتوالد المسرحية الكاملة من موقف يفضي إلى موقف آخر، مرتبط به، ويتطور عنه، وحدث يدفع إلى حدث آخر هو مترتب عليه، ونتيجة له .. كذلك كان يتخيل أحمد الحياة .. مجموعة من المواقف والأحداث المترابطة التي يفضي بعضها إلي بعض". 
الروائي في خط التشويق الروائي، تلاعب بمصائر شخصياته، ففي المشهد الأخير الذي شمل عدد سبع صفحات من رواية قوامها 206 صفحات من القطع الطويل، وهو مشهد ظهور نتيجة امتحانات السنة النهائية، ولقاء الرباعي الطلابي أبطال الرواية وتبادل التهنئة بالنتيجة، رغم أن مرات لقائهم كرباعي نادرة على صفحات الرواية (ثلاث مرات فقط)، ظهر من الموقف أن هناك شروعا في خطبة بين فريدة وزكريا، كما كان السياق طوال الرواية، ثم في سطور تالية قليلة نجد أن د. راضي كان أسرع في التقدم إليها بعد لقاء التهنئة هذا بساعات قليلة، واقتنص أماً بديلة لابنه الطفل (ماسي) التي رحلت أمه الأجنبية بعد أن فارقت زوجها حضارياً وسلوكياً، وكأن الروائي يقول لنا فناً الحكمة القائلة: "استثمروا الفرص فإنها تمر مر السحاب"، وتلك حقيقة اختيار الحياة الصائب، ففي مشهد التهنئة الختامي بين رباعي الرواية نجد هذا المعنى عندما أعلن أحمد ماهر قراره الذي يعلمه القارئ بالسفر إلى الخارج بعد أن أطفأ مشاعر الشعلة برود التردد من قبل حبيبته (سامية) التي لم يربطه به سوى النظرات والمشاعر الصامتة. 
يقول الراوي: "بل ولا يكاد يفكر في سامية ذاتها. لقد رأى أن الطريق إلى أي شيء هو أن ينال ركائز قوية لحياته .. ركائز مدعمة لا يطعن فيها أحد .. وأصبح التفوق هدفاً واضحاً أمامه .. هدفاً وحيداً .. فوجه إليه كل طاقته"، هنا لحظة التحول الناتج عن معرفة ماذا يريد. إن أحمد باستقامته ومثاليته أنتج اختياراً موفقاً، ويتباين في هذا مع موقف صديقه زكريا.
ونعود للمشهد الختامي وأحمد يعلن على مسامع حبيبته "سامية" التي حاد عنها بمشاعرة إلى هدف بديل حتى لا تنطفأ شعلته ببرودة التردد والإحجام وضعف الثقة بالنفس: "هذا حق .. بعض الآمال ترتبط بظروف معينة .. لا أريد أن أقول إنها آمال وقتية، أو تافهة، ولكنها ترتبط بظروف معينة، فإذا نجحت في وقتها دام نجاحها، ونمت وكبرت، وفرضت نفسها، وإذا أفلتت الفرصة فلا أحد يتنبأ بما يجد من أشياء .. ربما لم تهب الريح المواتية مرة أخرى".
إنها اقتناص لحظة السعادة، لحظة التوفيق في الاختيار، لحظة الحلم الجميل، إنها الفرصة النادرة بالسعادة والانسجام العاطفي، إنها لحظات نادرة (ضائعة في الرواية للأسف)، لحظات لا تتكرر أبداً إلا في لمحات كالبرق أو كالسحاب: "ما أسعدها من لحظة يا زكريا .. عندما تصل عواطف الحبيبين إلي التركيز القوي .. حينما تستغني عن كل النساء بحب فتاة، وعندما تستغني الفتاة عن كل الدنيا بالتعلق برجل .. وتسلم قيادها له مطمئنة .. تلك هي الخطبة .. إنها الحياة كلها مختصرة في لحظة سعيدة .. كما تنطوي الشجرة العملاقة في بذرة صغيرة".
الرواية تناقش مفهوم اختيارات الإنسان بين الجموح والتردد والإحجام، فالدكتور راضي اختار زوجته الأجنبية (ماريان) في فترة سفره بالخارج أثناء إعداده الدكتوراه، لكي يحقق نمط الحياة الغربي الذي تخيل أنه يعشقه، وأنه يحقق له السعادة في الحياة، وهذا النمط من الحياة يجعله ممزقاً نفسياً في فترة لاحقة، لأنه يناقض شيئاً مركوزاً في ضميرة (الشرق شرق والغرب غرب)، ويوظف الروائي صورة الوالد بهيئته المصرية العتيدة، في إطار معلق بحجرة مكتبه بالمنزل، في أكثر من لقطة، وجعلها بذلك شخصية روائية حاضرة في الخلفية السردية لشرح التمزقات، والتصحر العاطفي، حتي الطفل (ماسي) حاضرا في المشهد الروائي بجوعه للأمومة البديلة ممثلة في بنت البلد (فريدة) الفتاة الباحثة عن الواقع الفاهمة لأبعاده، وماريانا نفسها اختارت لنفسها أن تكون أكثر انسجاما مع ذاتها، وقررت الرحيل المفاجئ بصحبة رجل آخر.  

اقتناص لحظة السعادة،
لحظة التوفيق في الاختيار

أما زكريا فيجمح في اختياراته ويرضي متدنياً أن يكون لقطياً عاطفياً على بوابة أرملة العوامة التي تلفظه بعد حين ساخرة منه، ويعاقبه أحمد صديقه المثالي بمقاطعته عندما يحاط علماً بغرقة في بئر الأثم، وعندما تتاح له الفرصة للاستجابة إلى نوازع مخبأة في أغوار قلبه ناحية سامية بعد سفر صديقه (حبيبها)، تأتي الخاتمة الأخلاقية في آخر الرواية في ثوبها الفني لتشرح المصير: "واستدار خارجاً، وعلى فمه ابتسامة لا لون لها، ومضى خطوات على رصيف الميناء متجهاً إلى باب الخروج، فاستوقفه الحارس قائلاً: معذرة .. باب الزوار قد أغلق .. تستطيع أن تخرج من باب العفش ..".
فبينما صديقه يبدل بوصلة اختياراته للحياة في اتجاه الطموح، ويسافر للخارج للحصول على الدكتوراه، يقع (زكريا) في اختياراته الآنية التائهة: "أنا قلعة مهزومة .. أنا سفينة .. تبحث عن ربان، انا لا أعرف من أنا .. هل تستطيع الشياطين ان تهديني؟".
أما (سامية) الرقيقة المترددة، فنجد شخصيتها موصوفة في مقابل الصديقة فريدة: "برغم ما بينهما من تضاد في بعض الطباع .. فريدة جرئية لبقة، لاذعة النكتة .. ساخرة، لا تتردد ولا تستشعر خجلا وسامية حيية وادعة، تغرق في شبر ماء، وتسلم بأشياء كثيرة قد لا تريدها أو ترغب فيها، لمجرد أنها تود إنهاء الموقف .. ولا تقوى على حدة النقاش"، وهذه العبارة الكاشفة لملامح الشخصية الروائية النفسية، هي حل أحجية الرواية بعقاب الروائي لسامية المهذبة اللطيفة، حيث تركها في نهاية مفتوحة بعد أن خسرت الشاب (الشعلة) المثالي أحمد ماهر، وبعد أن ظلت مترددة في الاستجابة لندائه للارتباط رغم رغبتها في ذلك، العقاب مؤلم للقارئ، لكنه قد يفطن لمبرره الموضوعي، فعلى قدر الذنب أتت العقوبة، في مناجاة أحمد لذاته: "وبدا أصبعها الذي يتمني أن يطوقه بالذهب .. فتركزت نظراته عليه .. كأنه الأمل الوحيد للنجاة من ثلوج العالم كله التي تتراكم في طريقه، ومن الشعلة المتوهجة بين ضلوعه .. التي تطلب الري". إن توقيت الاختيار في غاية الأهمية.
الرواية في مسيرتها تلك تكشف نوازع النفس البشرية العجيبة والمتشابكة، وخواطرها ولفتاتها النفسية العميقة، مشتبكة أيضاً مع مصائر الشخصيات الروائية، وتظل تعبيرات وتلميحات الرواية تشير إلى مسرحة الحياة: "لا تعني الحركة المسرحية الحركة الآلية، فربما كانت الحركة كلاماً أو ابتساماً أو حتي صمتاً .. وإذا لم تشتمل المسرحية على نوع من الحركة النامية فإنها تنتحر أمام الجمهور"، ولا تتحقق تلك الحركة النامية إلا بصياغة الاختيار القائم على إجابة السؤال: ماذا نريد من الحياة؟