الشهادة الأدبية على طاولة الناقد السعودي محمد الصفراني
تشكل الشهادات الأدبية في المؤتمرات والمهرجانات الأدبية على اختلافها شعرا أو رواية أو مسرحا، ظاهرة لافتة في العصر الحديث، فلا يكاد ينظم مؤتمرا أو مهرجانا أدبيا إلا وتخصص فيه مائدة مستديرة أو جلسة حوارية يكاشف فيها الأديب وقائع تجربته أمام نفسه وأمام أقرانه ومتلقيه انطلاقا من بدايات انطلاق الكتابة لديه ومراحل تطورها على المستوى الأسلوبي والفني والجمالي والتقني، والتأثيرات التي ألقت بانعكاستها عليها سواء كانت محيطا اجتماعيا أو ثقافيا أو فكريا.
هذه الظاهرة كانت محور التي طرحها الأديب والناقد السعودي محمد الصفرانيفي الجلسة التي أدارها الناقد د.محمد أبوالفضل بدران ضمن فعاليات معرض أبوظبي الدولي للكتاب في دورته الـ 31، حيث قال إن الظهور المتنامي للشهادات الأدبية في العصر الحديث من قبل الأدباء، في مختلف المجالات الإبداعية، الأمر الذي يعني أننا أمام شكل كتابي أدبي ناضج وحاضر ومتنام، إلا أنه بالرغم من نضجه وحضوره لم يحظ ـ في حدود علمي المتواضع ـ بدراسة شاملة تحدد مفهوم الشهادة الأدبية، وأركانها، وأنواعها، وتحدد وتحلل الأشكال الأدبية التي تتجلى فيها، وتبحث إلى ترسيخ وتأكيد قيامها شكلا أدبيا كتابيا مستقلا، وتبحث الشهادات الأدبية من منطق وثائقي يبرز حجاجيتها ووثائقيتها الأدبية والاجتماعية.
وأضاف أن هذا المشكل تبلور لديه في مجموعة من الأسئلة المعرفية المركزية، تمثلت في: ما مفهوم الشهادة الأدبية؟ وما علاقتها بالشهادة القانونية من حيث المفهوم؟ وما صلة الشهادة الأدبية بفن السيرة الذاتية؟ وما أركان الشهادة الأدبية في ضوء أركان الشهادة القانونية؟ وما الأشكال الأدبية التي تتجلى فيها الشهادة الأدبية؟ وكيف تكون عتبات كتابتها أدلة أجناسية على أنها شكل أدبي مستقل؟ وما التقنيات الحجاجية فيها؟ وأخيرا ما البعد الاجتماعي لها؟.. للإجابة رأيت أن أنطلق من استراتيجية نقدية هي "التناص الحقلي" بين حقل القانون ممثلا في باب الشهادة القانونية تحديدا، وحقل الأدب والنقد ممثلا في الشهادة الأدبية. وبناء عليه جاءت أطروحتي التي أصدرتها أخيرا في كتاب بعنوان "ما بعد الشمولية.. الشهادة الأدبية في الأدب العربي الحديث بحث في المحاقلة بين القانون والأدب"، وتطرح مصطلح ما بعد الشمولية وفا لخطاب الشهادة الأدبية الذي يعد شكلا سرديا جديدا في الأدب العربي تضافر على إنتاجه حقلان معرفيان هما القانون والأدب.
وعرّف الصفراني الشهادة الأدبية الذاتية بأنها "سرد نثري تذكري قصير مدرك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة يشهد به شخص واقعي لإثبات حقائق أو رد دعاوى تتعلق بالمسار الأدبي "الشخص أديب، أو موضوع أدبي أو قضية أدبية" منتقيا من مراحل الحياة الماضية أبرز الوقائع والمعلومات والتجارب والذكريات، التي شكلت تجربته الأدبية وسلكتها في مسارها ومستواها الأدبي الراهن، مستدلا بها على ما يريد أن يشهد به في زمن الشهادة، ومستدعيا ما أمكن من البيانات والوثائق والأسانيد ما يؤكد صدق شهادته وموظفا من فنيات السرد ما ينقل النص الشهادي من حيز التقريرية إلى آفاق الأدبية.
وأكد أن الشهادة الأدبية وفقا لهذا المفهوم تعد شكلا أدبيا مستحدثا في الأدب العربي الحديث، وقال "إذا دققنا النظر في المدونة الإبداعية للشهادات الأدبية في الأدب العربي، نجد قسمين من الشهادات الأدبية: القسم الأول شهادة أدباء على أدباء آخرين، والقسم الآخر: شهادة أدباء على أنفسهم والمدونة الأدبية في نظرتها إلى الشهادات الأدبية لا تفرق بين القسمين في التسمية، فهي تطلق عليها اسما واحدا هو: "الشهادات الأدبية".
كما عرّف الشهادة الأدبية الغيرية وهي تتفق مع الشهادة الذاتية باسثنا كونها شهادة على الغير، قال أنها "سرد نثري تذكري قصير مدرك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة يشهد به شخص واقعي على غيره لإثبات حقائق أو رد دعاوى تتعلق بمسار حياة غيره الأدبية والعلمية والفكرية ، منتقيا من مراحل حياته الماضية أبرز الوقائع والمعلومات والتجارب والذكريات، التي شكلت تجربته الأدبية وسلكتها في مسارها ومستواها الأدبي الراهن،مستدلا بها على ما يريد أن يشهد به في زمن الشهادة، ومستدعيا ما أمكن من البيانات والوثائق والأسانيد ما يؤكد صدق شهادته وموظفا من فنيات السرد ما ينقل النص الشهادي من حيز التقريرية إلى آفاق الأدبية".
وتابع يعود الصفراني راصدا لبعض المحددات الأدبية للمتن الشهادي بوصفه هيكلا مستقلا في النقاط التالية: أولا هيمنة بنية الشهادة على المتن الشهادي، وإن كانت الشهادة حاضرة بقوة في معظم الأجناس الأدبية بصور متعددة، غير أن حضورها في الأجناس الأدبية الأخرى يكون ثانويا قياسا بمركزية حضورها في الشهادة الأدبية. ثانيا مقصدية الشهادة، فالمقصدية مدعاة لحضور الخصائص النوعية للشهادة في المتن الشهادي، وتمكننا من تلمس خصائص الكتابة الشهادية وتقدم لنا قواعد إنتاج النص وتلقيه. ثالثا لا تقتصر الشهادة على فعل الشهادة فحسب، بل إن الوقائع يعاد إنتاجها على مستوى السرد، فيظهر السارد الذي يتجول في ذاكرته مستعيدا أقوالا وأفعالا ومواقف بانيا استعادتها على الوصف والسرد، فالوصف والسرد هما جواز دخول الشهادة في الأدبية، والشهادة هي التي تنتج السرد والوصف. رابعا تقدم الشهاد الأدبية صيغا وخلفيات متعددة تتعلق بأركان الشهادة القانونية.
خامسا السارد في الشهادة الأدبية شخصية مركزية فهو من ينتج القول وينظم الوقائع في مسارات معينة ويؤولها، مراعيا في كل أدواره قول الحقيقة المنطلقة من رؤيته والعائدة إلى كيفية الرؤية لدى المسرود له. سادسا السارد في الشهادة الأدبية هو الذي ينتج السرد فهو الذي يصمم خطة سرده الخاصة لشهادته، ولأن خطة بالسارد فإنها تختلف من سارد لآخر، لذا فإن شهادة عدد من الشهود على شخص واحد لا تنتج خطابا واحدا أو سردا واحدا. سابعا تتبدى الضمائر في الشهادة الأدبية غالبا في صورتي "المفرد والجمع" وطبيعة الضمائر تتحدد في تحديد ملكية النص من خلال الضمير المفرد من خلال ذكر اسمه في بداية النص، أما ضمير الجمع فيستعمل بهدف استشهاد غير الشاهد على المرويات من باب تقوية صحة الشهادة.
وخلص الصفراني من هذه المحددات إلى أن أدب الشهادة نمط خاص من أنماط الكتابة والقول الأدبيين وهو جماع انفتاحها على مجموعة من الفنون السردية مثل القصة القصيرة والرواية والخبر والسيرة الذاتية، فاجتمعت فيها أساليب مجمموعة من الفنون وموضوعاتها، لكنها لم تخضع لمعايير أو مقاييس أو خصائص أي من الفنون التي شكلتها، فلا نقاء لجنس أدبي، فوفقا للدكتور سعيد يقطين فإن "تداخل الأنواع والأجناس من الأمور الطبيعية ويستدعي ذلك التطور الذي يعرفه الإنتاج الكلامي، والتعقيد الذي يعرفه بتطور وتعقد أنماط الحياة وأشكالها".