'الشيطان' بطل حرب ظن أنه الملاك المخلص

الروائي الكولومبي ماريو ميندوزا: استغرق الأمر مني خمسة عشر عامًا في محاولة تأليف هذا الكتاب، لأن جميع النسخ الأولى كانت بصيغة المتكلم، أي إنني كنت القاتل. كنت داخل الشخصية متورطًا في حياته، وقد تركتني تلك الأحاسيس منهكًا إلى درجة أنني لم أستطع المضي قدمًا. شيئًا فشيئًا، بدأت أفهم أن بطل الرواية لم يكن القاتل، بل المدينة.

تستوحي هذه الرواية للروائي الكولومبي ماريو ميندوزا والتي عنونها بـ "الشيطان" أحداثها من واقعة حقيقية وقعت في في 4 ديسمبر/كانون الثاني بمطعم "بوزيتو" في بوغوتا عاصمة كولومبيا عام 1986 حيث أطلق "كامبو إلياس ديلجادو"وهو من قدامى المحاربين في حرب فيتنام والذي التقى به الروائي في الحياة الحقيقية، النار على 32 شخصًا وقتلهم جميعا، من بينهم والدته وجارتها في المنزل، وأخيراً الضيوف في مطعم بوزيتو الفاخر في وسط المدينة.

يفتتح ميندوزا روايته بـ "تحذير"، يقول "مع أن العديد من الأحداث التي تظهر في هذا الكتاب يمكن التحقق منها بسهولة في الواقع، وتشكل أحد الفصول الأكثر مرارة في تاريخ بوغوتا في العقود الأخيرة، فإن كلًّا من الشخصيات وحبكة الرواية دروب من الخيال. لا يقصد المؤلف الإساءة إلى أي شخص يرتبط- بشكل مباشر أو غير مباشر- بهذه القصة أو إلحاق الضرر به".

كما يقدم ميندوزا لروايته حيث يشير إلى أنه "منذ مذبحة "بوتسيتّو"عام 1986، حاولت سرد هذه القصة ولم أتمكن من ذلك. أعطتني ميزة دراستي في الجامعة نفسها مع القاتل "كامبو إلياس ديلجادو"، وكوني شريكًا في أطروحته الفرصة لفهم تصرفاته وأفكاره. فالعنف في كولومبيا هو من نوع آخر: تجارة المخدرات وحرب العصابات والجماعات شبه العسكرية. لكن القاتل المتسلسل المتعلم والمتطور ذا الاهتمامات الإبداعية ليس هو القاعدة، بل الاستثناء. منذ ذلك العام، عرفت أننا ندخل حقبة أخرى، عصر الفوضى والجنون. وأدركت أيضًا أن تاريخ المدينة قد انقسم إلى قسمين. منذ ذلك الحين فصاعدًا، سنصبح شخصيات مشلولة عقليًّا وفاقدة الذاكرة؛ عبارة عن تماثيل محشوة بالمهدئات ومضادات الاكتئاب.

ويضيف "كمعلومة مثيرة للفضول، استغرق الأمر مني خمسة عشر عامًا في محاولة تأليف هذا الكتاب، لأن جميع النسخ الأولى كانت بصيغة المتكلم، أي إنني كنت القاتل. كنت داخل الشخصية متورطًا في حياته، وأعبر عن استيائه، وفي حزنه اللامتناهي. وقد تركتني تلك الأحاسيس منهكًا إلى درجة أنني لم أستطع المضي قدمًا. شيئًا فشيئًا، بدأت أفهم أن بطل الرواية لم يكن القاتل، بل المدينة. سمح لي هذا الاكتشاف بالخروج من الشخصية والبدء في السرد بضمير الغائب من الخارج.

ويلفت إلى أن الرواية بشدة تأثرت بالميلودراما التليفزيونية، والكوميديا، و"الهيب هوب"، والأفلام القوطية القصيرة. كنت مهتمًّا ببعض الموضوعات الشائعة التي تهم العامة، وهي مسألة وجود الشر وتأثير الشيطان في أفعال الناس، والتي لم تستكشفها الرواية التقليدية. ربما كان هذا هو السبب في أنها لقيت استحسانًا من قبل جمهور الشباب، ورفضتها الأوساط الفكرية والأكاديمية".

في الرواية التي ترجمها محمد أحمد وصدرت عن دار العربي يخرج ميندوزا عن تقليد الواقعية السحرية ويتجنب الإشارات الصريحة إلى الصراع في كولومبيا من خلال التركيز على الطريقة التي أثرت بها حرب فيتنام على المجتمع، وقد استخدم استعارة الشيطان لتصوير مشهد مطعم بوزيتو المشؤوم. أثناء تبديل القصص، يستخدم ميندوزا أصواتًا وأشكالًا سردية مختلفة، ويجمع بين الروايات المثيرة والحوار العنيف ومدخلات مذكرات كامبو إلياس المريرة. لسوء الحظ، هذه الأخيرة وصفية بحتة وتفتقر إلى أي بيانات للنقد الذاتي. تبدو العناصر الأخرى في الرواية (مثل العلاقة المثلية) غير ضرورية في الحبكة، مما يشير إلى نوايا مندوزا التجارية وميله إلى إضفاء طابع رومانسي على ما يجري.

حول حياة كامبو إلياس، البطل من حرب فيتنام، الذي يبدأ نزوله إلى الجحيم، مهووسًا بالازدواجية بين الخير والشر، بين جيكل وهايد، وسيصبح ملاكًا، حيث يقرر في لحظة أنه أفضل منالجميع وعليه أن يقوم بدور المخلص  ليطهر العالم لكن على طريقته الخاصة. حول هذه الحياة المضطربة هناك "ماريا" امرأة جميلة وساذجة تسرق بمهارة من كبار المسؤولين التنفيذيينالأثرياء الساذجين، تسكنها قوى غامضة وراءها ماض صعب، وكاهن قس طيب القلب يوشك على فقدان إيمانه يجد نفسه في مواجهة فتاة ممسوسة بقوى شيطانية طاغية وذلكبالحي الاستعماري في بوجوتا، و"أندريس" رسام يتمتع بقوى خارقة مذهلة ومرعبة تقلب حياته رأسًا على عقب.

يتحدث كامبو إلياس في مذكراته، عن نفسه ليترك وراءه القليل من الخير الموجود فيه، حيث يشير إلى تجاربه في فيتنام، وانتحار والده، ويعتقد أنه ملاك متمرد، بل إنه ملاك مبيد وظيفته تخليص العالم من غير المستحقين. تظهر كراهيته للنساء لأول مرة في إساءة معاملة والدته وميوله المثلية تظهر أيضًا من قبل طالب مراهق ذكي. ضحاياه الأوائل هم من النساء، لكنه يتحول إلى العنف العشوائي في النهاية. وتختتم الرواية بخاتمة تظهر أن الشر لا يزال يتربص في شوارع المدينة على شكل فتاة ممسوسة.

يدمج مندوزا ببراعة العديد من التعليقات الأخرى حول الشر في العمل، دون الخوض فيها، بدءًا من قصاصات بادري إرنستو عن وكالة المخابرات المركزية إلى العزلة والجوع والإيدز في العصر الحديث، جنبًا إلى جنب مع أنواع مختلفة من السلوك المدمر للذات والفساد السياسي. أولئك الذين يناضلون ضد هذه التيارات يمنحون الحياة والاتساع للحكاية.

يذكر أن ماريو ميندوزا ولد في بوغوتا عام 1964، هو واحد من أكثر المؤلفين انتشارًا في أميركا اللاتينية اليوم. بعد دراسته الأدب، وتخصصه في الأدب الإسباني الأميركي عمل في التدريس، بدأ مسيرته الأدبية في عام 1980، بالجمع بين الكتابة وتعليم الأدب والعمل الإعلامي. نُشرت روايته الأولى، مدينة العتبات، في عام 1992. وبعد عامين فقط حصل على جائزة الأدب الوطني الكولومبي عن فيلم La travesía del vidente. وحصل عن رواية "الشيطان"، على جائزة BibliotecaBreve من دار نشر SeixBarral في عام 2002.

مقتطف من الرواية

يتسلل ضوء الشمس القوي في الصباح من جوانب السقف الشفافة والفتحات العالية في الجدران، وينتشر في جميع أنحاء السوق. وعند الساعة السابعة صباحًا، يعلن البائعون عن أسعار بضائعهم وخصوماتها وعروضها بأصواتهم القوية، التي أصقلتها الممارسة وأحدثت ضجيجًا يخترق السياج حتى وصل إلى الشوارع المحيطة على الجانب الخارجي لساحة السوق.  واينما يوجه المرء ﺑصره، ﻳﺠﺪ  وفرة في ﻛﻞ شيء ﻋﻠﻰ امتداد ﺗﻠﻚ ﺍﻷﺯﻗﺔ ﺍﻟﺘﻲ تتراص ﻓﻮﻗﻬﺎ ﺍﻟﺒﻀﺎﺋﻊ متوازية ﻣﻦ ﺍﻟﺠنوب إلى الشمال وﻣﻦ الشرقإلى الغرب، ﻓﺘﺮﻯ أكوام البرتقال، واليوسفي، ﻭ"المارايوكا" والمانجو، والقشطة الشائكة، والليمون، والجزر، والبصل، والفلفل، والطماطم، والفجل، وقائمة ﻻ ﺣﺼﺮ ﻟﻬﺎ ﻣﻦ الفواكة والخضراوات ﻓﻲ حزم وأقفاص ﺧﺸﺒية أو بلاستيكية أو حتى علب ﻛﺮﺗﻮﻧﻴﺔ في متناول اليد. وعلى الجانب الآخر تشق روائح الأعشاب ﻃﺮﻳﻘﻬﺎ إلى أنوف المارين ﻓﺘﺨﺘﺮﻗها اختراقًا ﻓﻴﺨﺘﻠﻂ ﻓﻴﻬﺎ روائح الريحان والليمون والكزبرة والبقدونس وأوراق اللويزة. ﻓﻴﻤﺎ اكتظت جنبات إحدى زوايا السوق ﻣﻦ أرضه إلى ﺴﻤﺎﺋﻪ ﺑﻤﺘﺎﺟﺮ الحرف اليدوية ونباتات الزينة ﻣﻦ ﺍﻟﺴﺮﺧﺲ والصبار وأشجار ﺍﻟﺼﻨﻮﺑﺮ الصغيرة، وعلى ﺟﺎﻧﺒﻪ ﺍﻵﺧﺮ انتشرت السلال والأواني والملاعق الخشبية والمشغولات المصنوعة من ألياف وأحبال السيزال. أما الجانب المقابل، ﻓﻘﺪ سيطرت ﻋﻠﻴﻪ محلات الجزارة ومتاجر بيع الطيور الحية التي تبيع الدجاج والبط والأرانب والهامستر وديوك المصارعة. وهنا وهناك، ﺗﻨﺎﺛﺮ ﻓﻲ أرجاء السوق رجال ونساء ﻳﺤﻤﻠﻮﻥ ﻣﺸﺘﺮﻳﺎﺗﻬﻢ ﻓﻲ عربات ﻣﻌﺪﻧﻴﺔ ﺻﻐﻴرة ﺃﻭ ﻳﺤﻤﻠﻮﻥ أقفاصًا ﺧﺸﺒﻴﺔ تكاد ﺗﻨشق ﻣﻦ فرط ﺣﻤﻮﻟﺘﻬﺎ ﻣن الطماطم أو البنجر أو ﻳﺤﻤﻠﻮﻥ ﺑﻌﺾ البطاطس أو البازلاء. فإذا نظرت إليهم ﻓﻜﺄﻧﻬﻢ ﻧﻤﻞ ﺻﻐﻴﺮ يؤدون واجباتهم المفروضة ﻓﻲ العش.

فجأة، ﻳﻨﻄﻠق صوت أنثوي ﻳﺸﻖ عباب ﺻﺨﺐ الجموع:

- الطازج! الفوَّاح!

ﻫﺬﻩ ﻫﻲ "ماريا"، بائعة المشروبات الساخنة التي تمر في أزقة السوق لتعرض على الزبائن القهوة السادة أو مشروب النعناع أو القرفة أو مشروب "أغوابانيلا السادة" أو المخلوط بقطع الزنجبيل وعصير الليمون. 

وهي فتاة بيضاء ذات خصر عريض وفخذين قويتين وعينين سوداوين وتلك الخصلات السوداء الطويلة المسترسلة على جانبي وجهها وجدائلها الغزيرة الجامحة التي تتناقض مع دقة قسمات وجهها وثغرها الرقيق وأنفها المعقوف كأنه منقار نسر. يباغ طول "ماريا" مترًا وسبعين سنتيمترًا، وهذا يجعلها أطول من معظم النساء ـ على غير رغبة منها ـ ويجعل كثيرًا من الرجال الذين يقفون إلى جانبها يتسرب إلى نفوسهم شعور بالتفوق الجسدي لتلك الحميراء الغضة التي لم تتجاوز تسعة عشر ربيعًا.

الطازج! الفوَّاح!

هكذا ينطلق صوتها قويًا غير أنك لا تجد فيه أثرًا من غلظة ولا حدة. فإذ بالصوت يفرض نفسه على مستمعيه بغير صراخ ودون أن تحتاج إلى رفع صوتها. وقد جعلتها هذه الصفة وكأنها حورية تعبر السوق متبخترة وهي تغري المارة بألحانها، فتستأثر نفوس العطسى والراغبين.

تقترب "ماريا" من بائع أربعيني سمين يحتفظ ببعض النقود المطوية في الجيب الأيمن من معطف عمله البالي والقذر وتقول له:

- أنت مدين لي بثمن مشروبين ومشروب "بانيلا" بالليمون، يا سيد "لويس".

- إلى متى ستستمرين في التعامل مع بهذه الصرامة، يا "ماريا"؟

- ادفع لي ما عليك يا سيد "لويس"، من فضلك.

- تعالي، فلنتحدث قليلًا.

- عليّ أن أعمل.

- لو تواعدنا لن تضطري إلى العمل هكذا.

- ادفع لي ما عليك، فعليّ الذهاب.

- يا لك من امرأة عنيدة.

يُخرج الرجل بضع قطع نقدية، ويعطيها الفتاة باستياء شديد كما لو كان يمنّ بصدقة على متسول بالي الثياب وكريه الرائحة.

- سأعطيكِ الباقي لاحقًا، ولنرَ إذا كانت ستتغير معاملتك معي، يا "ماريا"، إذ عليكِ أن تكوني أكثر لطفًا معي.

أخذت النقود دون أن تقول شيئًا، واستمرت في طريقها ببطء وانتظام. توقفت بعد ممرين أمام أحد دكاكين الجزارة، وقالت للرجل الذي يعمل خلف المنضدة وبيده سكين ضخم:

- أتيت من أجل الثلاثمائة بيزو، يا سيد "كارلوس".

- تفضلي بالدخول، يا "ماريا".

- أنا في عجلة من أمري.

- دائمًا على عجالة من أمرك.

- لأنني أعمل.

انحنى الجزار على مرفقيه فوق المنضدة، وقال لها بصوت منخفض وهو قريب جدًّا منها:

- بهذه المؤخرة الدائرية ستعيشين كالملكة، يا جميلتي.

- احفظ حدود تعاملك معي، يا دون "كارلوس".

- لكني أقول الحقيقة، فكل يوم تزدادين جمالًا.

- من فضلك، أعطني الثلاثمائة بيزو. 

- أتدرين ما خطبك؟

ظلت هي صامتة، وتابع الرجل قائلًا:

- تظنين أنك من عائلة كبيرة.

- أنا لا أظن شيئًا.

- أنتِ مغرورة، وتظنين أنك أفضل من الجميع هنا.

- من فضلك، ادفع لي، فعلي الذهاب.

- أترين؟ تحتقريننا لأنك تطمحين في العثور على شخص غني يصطحبك إلى أماكن باهظة وأنيقة.

- كفى، يا دون "كارلوس"، إذا كنت لا تريد أن تدفع لي فسآتي لاحقًا.

- أريد أن أدفع لك مقابل هذا الجسد الجميل، يا جميلتي، دعينا نتواعد تلك الليلة ونذهب إلى فندق معًا، ولن تندمي أبدًا. سأعطيكِ مقابلًا جيدًا.

- سآتي لاحقًا من أجل الثلاثمائة بيزو.

- سأنتظرك هنا متى شئت، يا حبيبتي.

ابتعدت "ماريا"، وخرجت من السوق بحثًا عن مكان لا يمكن لأحد رؤيتها فيه. جلست على الرصيف وعيناها مليئتان بالدموع، وتركت الترامس على الأرض وأمسكت برأسها. اندفعت موجة من الغضب داخل جسدها، وتجمعت على وجهها مسببة احمرار خديها وجبينها. وأخذت تفكر إلى متى ستتحمل بذاءات عمال السوق ووقاحاتهم وتلميحاتهم القذرة ودفعهم المتأخر المهين ونظراتهم الشهوانية. فهي تعمل من الثالثة صباحًا وحتى الرابعة عصرًا وكل يوم تتعرض للانتهاكات والمعاملة السيئة نفسها. إلى متى؟ لماذا لا تستطيع الدراسة مثل الفتيات الأخريات في مثل سنها والحصول على وظيفة لائقة تسمح لها بالدفع لدراسة التمويل أو الكمبيوتر؟ لماذا لا يؤمن بها أحد؟ لماذا لا يعدّونها إنسانة طيبة؟ لماذا يسخرون من طموحاتها؟ لماذا يعاملونها كعاهرة قذرة حقيرة؟ في ذلك الوقت، كان يراقبها رجلان على بُعد عدة أمتار دون أن تلاحظ. رجلان يرتديان الجينز الضيق والسترات الجلدية اللامعة التي تعكس أشعة الشمس. يبلغ طولهما قرابة ست أقدام وبنيتهما رياضية ذات مظهر جيد. ويتراوح عمرهما بين 25 و28 عامًا، ويتميزان بقصة شعرهما القصير. استأثرت صورة البائعة الجميلة التي تبكي في صمت الرجلين.