الصحافة العربية لم تستوعب الصدمة

وضعت صحيفة بوسطن غلوب تحت افتتاحيتها التاريخية "الصحافة ليست عدوا لأحد" قائمة بالصحف من شتى بقاع العالم التي تضامنت مع فكرتها، لكن ويا للخيبة لا توجد في هذه القائمة الطويلة أي صحيفة عربية.
الصحافة ليست عدوا لترامب

أي درس تمنحنا إياه حزمة المقالات التي اجتمعت في نقطة واحدة تسمى “الرئيس دونالد ترامب والصحافة”؟ عندما اتفقت مئات الصحف في مختلف دول العالم على إطلاق وسم (هاشتاغ) “لسنا أعداء أحد” من أجل تفنيد الفكرة التي غرسها ترامب في عقول الجمهور ونجح إلى حد كبير في جعل الصحافة بذرة شيطانية، وليست الوسيلة المثلى لربط المجتمع بديمقراطية حرة من الأفكار والمعلومات.

ليس مهما أن نعرف من الذي وضع نقودا في صناديق شراء الصحف الأميركية في يوم السادس عشر من أغسطس عندما توحدت غالبية الصحف في كتابة مقال افتتاحي رافض لمبدأ العداء الذي وضعه الرئيس الأميركي مع وسائل الإعلام، لكن المهم بالنسبة إلينا الدرس السياسي الذي قدمته الصحافة الأميركية للعالم في ذلك اليوم.

المقالات الافتتاحية المنسقة المنشورة يوم السادس عشر من أغسطس في أكثر من مئتي صحيفة هي مثال معبر عن الآراء وليست الحقائق وفق الكاتب الأميركي نوح فليدمان، فمن خلال بث تلك الآراء بين الناس خلقت الصحف دورة إخبارية ذاتية، تلك التي ركزت على الصحافة في حد ذاتها، بدلاً من التركيز على انتقاد الرئيس ترامب لها.

إن هذا النوع من المعارضة الصحية هو ما يُبقي الديمقراطية في البلاد على قيد الحياة، ويشكل في فحواه واحدة من المسؤوليات الجوهرية للصحافة الحرة، وفق تعبير فليدمان.

هل نجرؤ في العالم العربي بعد هذا الدرس على إعادة ترتيب علاقة الصحافة بالحكومات، أو بمفهوم الدولة لدينا؟ ذلك السؤال القديم الذي غالبا ما يصاب بالوهن مع اختلاف سطوة الحكومات العربية وجبروتها.

يبدو هذا السؤال اليوم أكثر يقظة مع تلاشي فكرة الزعيم الأوحد الذي كان مستحوذا على المساحة الأكبر في صحافتنا العربية، بل إن وسائل الإعلام العربية لم تتساءل آنذاك “هل تغيرت اليوم؟” بالسوق والقراء إذا كان سوقها مفتوحا على طاولة الزعيم صباح كل يوم لإشباع غروره، وعدم إزعاجه بالأخبار السيئة.

 ثمة بديل اليوم للزعيم الأوحد في صحافتنا العربية يسمى رجل الدين، يا للخيبة! مهما يكن من أمر فالحال تغير، والصحافة العربية اليوم قادرة على إعادة اختراع نفسها بعد مقتل الرقيب حارس البوابة وبوجود المواطن الصحافي المتحدي لسطوة الحكومات، الدرس الأميركي كان فرصة لإعادة الفكرة التاريخية عن علاقة الصحافة بالرئيس والحكومات.

وثمة درس مثالي ما زال ماثلا منذ أن اتفق الرجال الأقوياء على كتابة الدستور الأميركي، يكمن في تفضيل دولة من دون حكومة على دولة بلا صحافة، ومع أن مثل هذا المبدأ لم يتحقق وبقي فكرة أفلاطونية، لكنه بقي حيا وتتم استعادته كلما مست حرية الصحافة.

لم يتم اختراع الحرية في الولايات المتحدة ، بل هناك عدد قليل من الدول التي كانت فيها أهمية الصحافة المستقلة منسجمة بشكل وثيق مع تاريخها الطويل. هذا التقليد الأميركي العظيم من الاحترام المدني للحقيقة وقول الحقيقة هو الآن تحت التهديد. دونالد ترامب ليس أول رئيس أميركي يهاجم الصحافة أو يعاملها بشكل غير عادل، لكنه أول من يبدو أن لديه سياسة محسوبة ومتسقة تقوض الشرعية بل وتعرّض عمل الصحافة للخطر.

ليس من مهمة الصحافة إنقاذ الولايات المتحدة من ترامب؛ إن مهمة الصحافة هي أن تقوم بالإبلاغ والتعمق والتحليل والتدقيق بأفضل ما تستطيع ودون خوف وفق تعبير صحيفة الغارديان البريطانية.

وهذا لا يعني أن الصحافة الأميركية ليست لديها الكثير الأخطاء والانحياز والغرور وتلفيق القصص، بل إن بعض وسائل الإعلام هي منافذ حزبية تظهر استهتارا عارماً بالحقيقة وانقيادا أعمى لخطط الإدارة الأميركية، “هل ننسى أكاذيب جورج بوش عن أسلحة الدمار الشامل لدى العراق والتبني الأعمى لها من قبل نيويورك تايمز مثلا؟”.

لقد تبنى ترامب هذه الأمور في مهاجمته الصحافة لإقناع الناس بعدم جدواها، فمن لديه عشرون مليون متابع على حسابه في تويتر قادر على إيصال ما يود من دون حاجة إلى أي وسيلة إعلام أخرى؟ لكن الصحافة الحرة يجب عليها أن تفعل ما في وسعها للحفاظ على احترام الحقائق والأحكام المتوازنة، الصحافة يجب أن تقوم بعملها دون خوف أو تهديد أو ترهيب، مثل هذا الكلام نادت به صحيفة الغارديان البريطانية في دعم الصحف الأميركية في مساعيها للحفاظ على الموضوعية والحدود الأخلاقية التي يمارسها الرئيس ترامب -مثل كثيرين آخرين في أجزاء من العالم أكثر خطورة- لتدمير الصحافة.

إذا كانت استطلاعات الرأي تشير في زمن ترامب إلى أن نصف الناخبين الأميركيين يعتبرون أن الصحافة صارت عدوة الشعب، فلسوء الحظ لا توجد لدينا استطلاعات رأي يعتد بها في العالم العربي كي تثبت أن الصحافة العربية خادمة الحكومات! لكن من السهل أن يتحسس الجمهور العربي ذلك.

بعد أيام على مرور درس أخلاقي كبير للصحافة في مواجهة تقويضها انطلق بمبادرة من صحيفة بوسطن غلوب الأميركية، بدت الصحافة العربية وبتشجيع من الحكومات، أنها لم تستوعب الصدمة التي وصلت إلى أغلب صحف العالم، وما زالت تدور حول قصور الزعماء وتمر خجولة على أسوار الفساد الوزاري، وتغمض عيونها عن تغطرس ولصوصية رجال الدين.

لقد وضعت صحيفة بوسطن غلوب تحت افتتاحيتها التاريخية “الصحافة ليست عدوا لأحد” قائمة بالصحف من شتى بقاع العالم التي تضامنت مع فكرتها وكتبت معبرة عن رأيها، لكن ويا للخيبة لا توجد في هذه القائمة الطويلة أي صحيفة عربية! ليس من أجل الصحافة الأميركية وعلاقتها مع ترامب، بل من أجل إعلامنا العربي الذي يسير وهو نائم خلف الحكومات والممولين.