الصحافة لم تعد تثير شهية القراء حتى الأوفياء منهم


مشكلة الصحافة التي تعيش زمنا ليس عادلا بحقها، تكمن في محتواها الذي لم يتغير وليست في انقطاع الإعلانات التي كانت تنهمر عليها.
الصحافة الورقية ترقد في السوق المرضية

في احتدام الجدل المتصاعد منذ أكثر من عقد بشأن سوق الصحافة المريضة، يتم التركيز على انهيار إيرادات الصحف من الإعلانات وضعف التوزيع، وتلاشي رغبة الجمهور في قراءة الصحف!

وهكذا تغيب المشكلة الحقيقية، فما تقدمه الصحف من محتوى لم يعد يثير شهية القراء، حتى الأوفياء منهم، ولا تقتصر المشكلة على ابتعاد المعلنين وقلة الإيرادات.

مشكلة الصحافة اليوم كيف تقنع القراء بأنها قادرة على تقديم محتوى يستحق أن يُدفع من أجله مال، هناك قناعة تترسخ يوما بعد آخر عند جيل الهواتف الذكية بأن أخبار العالم تصله من دون أن يدفع فلسا واحدا، بينما عجزت الصحافة منذ دخولها السوق المريضة عن كسر تلك القناعة، لذلك ترقد بين فريق من المعالجين الذين يدورون حول أفكار سبق وأن قيلت، ومقترحات لا يمكن أن تجد طريقها إلى التنفيذ، لسبب بسيط يتمثل في أن المشكلة نفسها تكمن في محتوى الصحف الذي لم يعد مشوقا للقراء لاقتناء الصحيفة، وليس في البحث عن موارد خارجية من الإعلانات أو الضرائب المالية على الشركات الرقمية الكبرى.

عندما يركز الحل على المحتوى الصحافي أكثر من أي سبب خارجي آخر، عندها يمكن أن  يتم الحديث عن خروج الصحافة من السوق المريضة!

آخر الحلول البريطانية المقترحة عزت مشاكل الصحافة المطبوعة، إلى أن الحلول المقترحة تدور في الأساس حول انهيار الإيرادات بدلا من انهيار الشهية لمحتوى موادها، قائلة إن شعبية هيئة الإذاعة البريطانية “بي.بي.سي” تكمن في مجانية مواقعها على الإنترنت، هذا يعني أن معظم البريطانيين يتوقعون الحصول على الأخبار مجانا.

بينما طالبت هيئة تجارة صناعة الصحف البريطانية، الحكومة بفرض ضريبة مالية سنوية على مواقع التواصل الاجتماعي والشركات الرقمية الكبرى مثل فيسبوك وغوغل، لتمويل الصحافة وإنشاء هيئة تنظيمية من شأنها أن تجبر هذه المواقع والشركات على تحمل المسؤولية القانونية عن جميع محتويات منصاتها.

وطالبت الهيئة -وهي مجموعة شاملة تمثل جميع الصحف البريطانية بما فيها المحلية- شركة فيسبوك مشاركة الأرباح التي تجنيها مع الصحف عندما تظهر قصصها على الموقع، حتى إذا لم يشاهد المستخدمون العناوين الرئيسية ولا ينقرون عليها!!

كما دعت الحكومة إلى إدخال نظام ائتمان ضريبي، شبيه بذلك المستخدم لتشجيع الاستثمار في صناعة السينما البريطانية، الأمر الذي سيسمح للصحف بالمطالبة بخصم نقدي للاستثمار في مجالات مثل الصحافة الاستقصائية.

وتشمل الأفكار الأخرى إجبار شركات الإعلام الاجتماعي على الترويج لمصادر الأخبار “النبيلة” التي تستوفي معايير جودة معينة، مثل “الجودة المتسقة” مع حساسية الصحافة، والتي من المحتمل أن تعطي الأولوية للمواد من مصادر الأخبار الأكثر رسوخا على حساب المواقع الإلكترونية.

قدمت المنظمة المقترحات في ردها على مراجعة مدعومة من الحكومة لمستقبل صناعة الإعلام البريطاني، برئاسة الخبيرة الاقتصادية فرانسيس كيرنكروس، التي تحاول إيجاد مستقبل لصحافة عالية الجودة ومستدامة في المملكة المتحدة.

وكما يبدو ينصب كل تركيز الحلول لوضع الصحافة المتردي، على فقدان عائدات الإعلانات التي كانت تحافظ على جودة الصحافة المطبوعة، بينما تغير مسار الإعلانات منذ سنوات إلى محركات البحث الكبرى ومواقع التواصل الاجتماعي التي لا تقدم أي مساهمة ذات قيمة لتكلفة إنتاج المحتوى الإخباري الأصلي. بل كل ما تقوم به التقاط وتجميع القصص من الصحف.

عندما نتحدث عن صحافة تسيّر نفسها في بريطانيا من أجل هدف متفق عليه لربط المجتمع بديمقراطية حرة من الأفكار والمعلومات، فإن هذه الصحف قد شهدت انخفاض إيراداتها خلال العقد الماضي من 7 مليارات دولار في عام 2007 إلى 4 مليارات دولار في عام 2017، الأمر الذي يهدد ديمقراطية البلاد باعتبار الصحافة صاحبة الدور المؤتمن عليها.

فهل تنقذ الصحافة البريطانية نفسها بالحصول على إيرادات من غوغل وفيسبوك لمجرد أنهما شركتان رقميتان نجحتا على إعادة تدوير القصص الإخبارية وتقديمها في طبق مغر للمستخدمين وحظيتا بالأموال، أم أنها مطالبة بإعادة التفكير في محتواها والاستفادة من نماذج الأعمال الجديدة وإعادة صناعة صحافة منافسة في العصر الرقمي؟

عندما حاولت إسبانيا قبل سنوات إرغام شركة غوغل على دفع أموال للناشرين تحت مسوغ أن أخبار الصحف تنشر في منصة “غوغل نيوز” ويتلقفها المستخدمون قبل القراء، ردت عليها غوغل بإغلاق تلك المنصة في إسبانيا! إلا أن شركة غوغل نفسها عقدت اتفاقية مع فرنسا من أجل دعم وسائل الإعلام التقليدية عبر حلول عمل مشتركة، وهذا ما يدفع الهيئات الباحثة عن حلول لأزمة الصحافة الورقية، إلى مطالبة الصحف بتقديم إشعار معقول بأي تغييرات في شروط العمل أو الخوارزميات التي تؤثر على أعمالها.

هكذا أصبحت الأفكار الراديكالية في اتهام الشركات التكنولوجية الكبرى، سائدة وعدم الالتفات لأي سبب آخر يخص محتوى الصحافة نفسها. بينما تتلخص الفكرة البسيطة بأن الأموال وحدها ليست كافية لإنقاذ الصحافة من وضعها المتراجع، من دون صناعة أفكار جديدة تعيد ابتكار صناعة الصحافة.

أن تتحول الصحف إلى مؤسسات خيرية تتلقى التبرعات من الشركات الرقمية الثرية من أجل إعادة تدوير القصص الإخبارية المتاحة على المواقع الالكترونية، لا يعني غير أن الصحف تستمر بالطباعة لكنها لا تستعيد تأثيرها على مزاج الجمهور.

مشكلة الصحافة التي تعيش زمنا ليس عادلا بحقها، تكمن في محتواها الذي لم يتغير وليست في انقطاع الإعلانات التي كانت تنهمر عليها.