الصعود إلى حافة الهاوية والنزول منها

ليس بالضرورة أن تؤدي السخونة المتعاظمة في ملفات المنطقة إلى اشعال فتيل حرب كبيرة.

ضع خريطة الشرق الأوسط أمامك، بمعناها الواسع الذي يقودك إلى باكستان، أو التقليدي الذي يقتصر على المنطقة العربية والدول المجاورة لها. دقق النظر فيها ستجدها مشتعلة بالحروب والصراعات والتوترات والخلافات الخارجية والداخلية. ثم دقق مرة أخرى لترى أن غالبية دول الجوار العربي منخرطة في كل ذلك بدرجات متفاوتة، مثل إيران وإسرائيل وتركيا.

بعد أن تطوي الخريطة أو تضعها على الرف، تابع الأخبار لحظة بلحظة في وسائل الإعلام المختلفة، ستكتشف أنها تتحدث عن تفجيرات مدوية وقصف من خلال طائرات مسيرة وضربات صاروخية مؤثرة وعمليات إرهابية، واحتكاكات ومناوشات تؤكد أن الأوضاع قد تتجاوز لعبة عض الأصابع التي أدمنها البعض لتحقيق أهداف سياسية معينة.

إزدادت التطورات سخونة من المحيط إلى الخليج، ومن سوريا شمالا إلى السودان جنوبا. تمادت الولايات المتحدة في حربها السياسية والاقتصادية مع طهران، واحتجزت الحكومة المحلية في جبل طارق التابعة لبريطانيا سفينة إيرانية فجأة، تم الرد عليها باحتجاز أخرى ترفع العلم البريطاني في مضيق هرمز.

اشتعلت منطقة الخليج بحرب صريحة من التهديد والوعيد. ترتفع وتنخفض حسب أوراق الضغط التي تملكها أطرافها الرئيسية. كلما صعد الجميع إلى قمة الجبل تعمد أحدهم الإنحاء ويوارب الباب تمهيدا للنزول.

يبدأ النزول التدريجي من على حافة الهاوية أو قمة الجبل أو أعلى الشجرة، لأن الجميع لا يريدون الدخول في حرب مكلفة، الرابح فيها مهزوم أيضا، وربما يتكبد خسائر باهظة ولو بدا الانتصار عظيما. فالأسلحة التي تكدست في المنطقة خلال السنوات الماضية منحت قوى مختلفة، دولا وتنظيمات عسكرية، قدرة عالية على رد الفعل وانهاك الآخرين.

يبدو التصعيد الذي تقوم به الولايات المتحدة وإسرائيل، وإيران والحشد الشعبي وحزب الله، فضلا عن تركيا وروسيا والمقاومة الفلسطينية، في المناطق التي ينشطون فيها، يحافظ على قدر من الانضباط حتى الآن.

وإذا انفلت عقال أحدهم وأوشك أن يفضي إلى حرب، ظهرت عوامل كثيرة تكبح ميل الدفة نحو غرق السفينة، ويبدأ أصحابها عملية تبريد منظمة لتجنب الوصول إلى نقطة تفجير الأوضاع وعدم السيطرة عليها.

عندما بالغ الرئيس الأميركي في التصعيد مع إيران وجد تحديا سافرا منها، فاضطر إلى التراجع أكثر من خطوة. وبعد إعلانه تشكيل أسطول بحري دولي لتأمين عبور السفن لم يجد استجابة وافية، ووجد عزوفا لافتا، حتى توارت الفكرة وبقيت دلالاتها المخيفة.

كما أن بريطانيا التي اشتبكت سياسيا مع إيران بعد احتجاز سفينتها تقمصتها مرونة نادرة أوحت لحكومة جبل طارق بالإفراج عنها ولم ترضخ للضغوط الأميركية، بعدما وجدت حكومة لندن الجديدة برئاسة بوريس جونسون صعوبة في مجاراة السباق المحموم في المنطقة.

لم يقتصر الهروب من التمادي في التصعيد على هذه المشاهد، فقد قذفت إسرائيل بثقلها في أزمات المنطقة، لتأكيد أنها عضو طبيعي في تحالفات لم تتبلور بعد ضد إيران، وأقدمت أكثر من مرة على قصف مراكز تابعة لقوات الحشد الشعبي في العراق، في رسالة موجهة أصلا إلى إيران، تقول إن يدها طويلة وتستطيع تجاوز المحرمات للضغط على الحكومة العراقية وحضها على وقف اندفاعها نحو طهران. فاليوم العراق وغدا إيران.

أرادت طهران أن تجهض رسالة إسرائيل وتثبت أنها لا تبالي بمعانيها الضمنية ولن تنحني أمام تحذيرات الولايات المتحدة، فكشفت عن تطور نوعي في قدرات صواريخها البالستية، بما يعني أن إنسحاب واشنطن من الاتفاق النووي وتوسيع نطاق العقوبات الاقتصادية والتحريض عليها، عوامل غير كافية لكبح جماحها النووي.

وصل التصعيد لهذه الدرجة وتقدم الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون لفرملته. لم تفلح جهوده في تقريب المسافات بين واشنطن وطهران، لكنها أوحت برغبة أوروبية في التهدئة وعدم مسايرة الرئيس دونالد ترامب للانسحاب من الاتفاق النووي، بل فتح طاقة أمل للتفاهم مع إيران.

بعد أن لاحت بوادر لالتقاط الأنفاس، نفخت إسرائيل في الأزمة مع إيران مرة أخرى، عبر استهداف مقرات لحزب الله في جنوب دمشق، والضاحية الجنوبية في بيروت، بغرض لفت الانتباه إلى حليف طهران القوي الذي امتص الضربات دون أن يفصح عن رد محدد كي لا يقع في مصيدة الحرب.

كانت ضربات إسرائيل لها أهداف واضحة ليس من بينها اشعال فتيل حرب قبيل انتخاباتها الشهر المقبل، في منطقة تتداخل فيها الأوراق بكثافة، ويصعب تبين الخطوط الخضراء من الحمراء فيها.

قلبت الأزمة بين الحكومة الشرعية والمجلس الانتقالي في اليمن الترتيبات الهادفة إلى تقويض الحوثيين. وفتحت المجال للحديث عن خلافات عميقة في مؤسسة الرئاسة التي يتولاها عبدربه منصور هادي عطلت حسم المعركة مبكرا. وكشفت أن هناك تطورات خطيرة تحت السطح، تسعى قوى متباينة إلى احتوائها، كي لا تدخل الأزمة طريقا أشد قتامة يصعب الرجوع عنه.

تلعب تركيا بوسائل عسكرية وسياسية ملتوية في كل من سوريا والعراق وليبيا. وأدت تصرفاتها المقيتة إلى تأليب قوى إقليمية ودولية عديدة عليها. لكنها لن تمانع من عقد تفاهمات مع خصومها، إذا وجدت أن خط التصعيد الذي تتبناه سيؤدي بها إلى خسارة جزء كبير من مصالحها، لأنها تخوض معارك سياسية وعرة على جبهتها الداخلية.

يعاني حزب العدالة والتنمية الحاكم من خلل فاضح يقود إلى زيادة الفجوة بين قياداته. وتعمقت الهوة مع الجماعة الكردية بعد ارتفاع خطاب الحرب على السلام، وعقب عزل ثلاثة من رؤساء بلديات من الأكراد. وأدى إعلان خمسة جنرالات كبار استقالتهم من الجيش إلى حرج بالغ لأنقرة. وكلها عوامل كفيلة بالضغط على الرئيس التركي لوقف التصعيد العسكري في الدول التي تصور أنها مفتوحة للتلاعب بمقاديرها السياسية والأمنية.

ليس بالضرورة أن تؤدي السخونة المتعاظمة في ملفات المنطقة إلى اشعال فتيل حرب كبيرة. وقد يكون التلويح بها لعدم الدخول فيها، لأن القوى المرشح انخراطها بسهولة لن تخرج منها كما دخلتها، بما يعني أن المنطقة ستظل بعيدة عن شبح المعارك النظامية، وتدور في فلك الضربات الخاطفة. من هنا أصبح الصعود والنزول مخرجا مناسبا حتى تنضج الأجواء للحديث عن تسوية سياسية أو حرب شاملة.