الضعف الإنساني حين يكون هدفا في "ظلال التيه"

الكاتب الأردني د. ثمين شقوري يوظف في روايته الجديدة مهاراته الطبية لرصد التفاصيل والانتباه للمعطيات ومراقبة النتائج وتوقعها، بغية تشخيص الواقع العربي المريض.
سرد شائق بلغة سلسة وجاذبة ومقتصدة لا تشتت المتلقي
قصة تروي اصطياد الجماعات الإرهابية أشخاصا تائهين ومشتتين

عمان -  رواية "ظلال التيه" التي صدرت مؤخرًا عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عمان للكاتب الأردني ثمين شقوري تمثل باكورة نتاج الروائي الذي يعمل طبيبًا في عيادته الخاصة لما يزيد عن العقدين من الزمان.
 والقارئ للرواية يجد أنّ المؤلِّف قد وظّف معلوماته الطبية ومهاراته في رصد التفاصيل والانتباه للمعطيات ومراقبة النتائج وتوقعها بغية تشخيص المرض؛ فكأنه سعى في عمله الروائي لتقديم تشخيص للواقع العربي المريض؛ فالرواية تحمل رسالةً في غاية الأهمية، وتسلّط الضوء على الواقع المعيش اقتصادياً وأخلاقيا واجتماعيا وأسرياً، والأهم من ذلك إسلاميًّا، و"جهاديًا"، ومخابراتيًّا.
وتُظهر "ظلال التيه" موسوعية صاحبها المعرفية في شؤون البلاد، وخاصّة في ما يتعلّق بالمقاتلين في سوريا وطريقة استقطابهم، وعناية تنظيماتهم بهم لتسخيرهم لتحقيق أهداف وغايات غير واضحة لديهم.. كما تبين معرفته الدقيقة في شؤون المخابرات وحرفيتها باختراق هذه التنظيمات، والأهم من هذا كلّه مهارته في تطويع ثقافته بل علمه الدقيق بشؤون الطب والفحوصات والتحاليل.

ظلال التيه
رواية الأسئلة الصعبة

ما يميّز الرواية، أنَّ بعض الروايات تفتر جذوتُها مع اقتراب نهايتها.. بينما في "ظلال التيه" يشتدّ التوتر، ويزداد اشتعال جذوتها وجاذبيتها.. فتنتهي والقارئ يتمنى لو استمرّت لأنَّ قابليته لتلقي المزيد تزداد.
 أن تكتب رواية يعني أن تبني عوالم من الخيال، وبيوتا من الكلمات وترسم بريشة الحرف شخصيات تنبض وتحلم وتكابد ثقل الوجود المعاصر، وتمثل رواية "ظلال التيه"محاولة جادة  للصعود على درج فن يتصدر المشهد الثقافي العربي ويحتل الجزء الأكبر من المتلقين والقراء والنقاد وهي مسؤولية كبيرة وتحتاج لجهد فكري ومعرفي غير يسير.
 تسير الرواية في خطين متوازيين يلتقيان - رغم  قوانين الرياضيات - في نقطة تتلخص في التقاط الانسان التائه والذي فقد البوصلة من قبل جهات تستطيع بحكم الخبرة والتوجه الإفادة من طاقات بشرية لخدمة أهدافها؛ فالإنسان الذي يستشعر في داخله الضياع ووصل لنقطة لا يستطيع معها السيطرة على توجهاته وحياته وأولوياته والذي استسلم لحالة الضعف الإنساني وتدرَّج في السقوط يصل لنقطة اللاعودة ويصبح سهل الانقياد مثل فريسة كثر المفترسون المتربصون بها.
 فشخصية سعاد التي اصطدمت بحالة الإهمال والنذالة من زوج لا يقدّر أنوثتها وحاجاتها المشروعة في مسكن ومأكل وملبس وحياة كريمة فأهملها وتفنن في تعذيبها، وتمادى في تركها كأنها قطعة أثاث تجد نفسها مجبرة على العمل في خدمة البيوت، وتقودها الظروف وصدمة سفره وزواجه بأخرى وانقطاع اخباره وتخليه عن إعالتها وهي التي لا تملك شهادة علمية أو وظيفة ثابتة، تقودها الظروف والاستسلام للوقوع والسقوط في فخ المتصيدين لمن هن في مثل وضعها ممن يمتلكن الجمال الجسدي ودرجة الضعف وإمكانية الانقياد فتتحول بمسميات مختلفة للمتاجرة بجسدها وتصطدم بحقيقة أنّ تحسن وضعها المادي بشكل ملحوظ لم يجلب لها راحة البال وهدأة العيش فترجع الى رشدها وتتوب.

قصة الإنسان الذي يستشعر في داخله الضياع ويصل لنقطة لا يستطيع معها السيطرة على توجهاته وحياته وأولوياته والذي يستسلم لحالة الضعف الإنساني ويتدرَّج في السقوط 

  وسعيد وهو بطل الرواية  يُبدي تعاطفه ودعمه لشقيقته سعاد وتفهمه لوضعها وقسوة ونذالة زوجها لكن ظروفه الشخصية من فشله بزواجه الأول واصطدامه بعقمه والإحساس بالنقص والتعاسة واستقالته من الوظيفة وتردي أوضاعه المادية والمعنوية التي توقعه فريسة لاستغلال منظمات وحركات تجرّه  ليصبح "مجاهدًا" في حركات إرهابية وليصبح بعدها عميلاً مستغَلا من طرفيّ الحركة الجهادية والمخابرات، ويقرر الهرب خاصة بعد معرفته بالوضع المشين الذي وصلت له أخته سعاد فيقبل الخروج في مهمة أخيرة خطيرة إلى سوريا على أمل أن يسافر بعدها ويترك كلّ شيء وراءه ولا يصطحب معه غير زوجته الجديدة وابنه المُتبنى الذي يمثل له الأمل في الحياة، لكن الظروف والأحداث تنقلب ضده فيتم اختطافه والتحقيق معه تحت التعذيب والحكم عليه بالموت، وتختلط حبات المطر مع دموعه عندما يمرّ شريط حياته أمام عينيه.
 لغة الرواية سلسة وجاذبة في آن ومقتصدة لا تشتت المتلقي ولا تجعل الحدث يبدو مُضببا، تعتمد على تقنيات سردية موجهة قدمت الرواية ضمن فصول معنونة، وكسرت جمود السرد بمونولوج داخي وخارجي، وتحمل بين طيات السرد السهل الممتنع رسالة خفية لإنسان عصر التغيرات الجذرية والتطور المتسارع في جوانب الحياة، بألا يستسلم للضعف وألا يركن للتيار، وأن يستمد قوته من بذرة تسكنه بذرة التفرد وعدم الانصياع لمن يسعى لاستغلال ضعفه وتزيين الأمور القبيحة بريشة الكلام المنمق والوعود المزيفة واستغلال حلمه المشروع بحياة كريمة برسم طريق لموته المعنوي كما حدث مع سعاد أو لموته الحقيقي كما حدث مع سعيد. 
ونقرأ من جو الرواية:
عمري الآن عشرون عاما! يجب أن أعيش حياتي، يكفي ما ضاع من عمري بين جدران متهالكة من أجل إرضاء زوجي العتيد، مرت ستة أشهر لم يسأل عني ولا حتى بمكالمة حتى أخي سعيد لم يعد يتصل بي إلا مرة كل شهر ومعظم مكالماته لا تتجاوز الدقيقتين وكلها مجاملات، لم يعد يهتم إن كنت بحاجة لشيء وحتى صديقاتي لم يعدن قريبات مني، فكل واحدة منشغلة بنفسها... نعم كل يعيش حياته، أنا أيضا سأجدد حياتي وأعيشها، سأنطلق، لم يعد يهمني شيء.