العجز الإيراني يفسّر التصلّب...

تفعل إيران الكثير في المنطقة بمنطق التخريب وأبعد ما تكون عن البناء.
ما الذي فعلته إيران في العراق غير استغلال ثرواته وإقامة ميليشيات مذهبيّة
العالم بات يدرك ان ليس مسموحا لإيران متابعة لعبة الهرب من مشاكلها الداخليّة الى خارج حدودها

ثمّة حاجة دائمة الى العودة الى السؤال الاوّل: هل "الجمهوريّة الاسلاميّة" في ايران دولة طبيعيّة ام لا؟ الجواب عن السؤال لا كبيرة تعكس حاجة دائمة لدى النظام، الذي قام في العام 1979 بعد سقوط الشاه، الى الهرب المستمرّ الى خارج حدوده.

ليس معروفا بعد ما الذي تفعله ايران في لبنان، باستثناء تدمير البلد مؤسسة وراء أخرى. ليس معروفا تماما ما الذي تريده ايران من سوريا باستثناء فرض نظام اقلّوي مرفوض من شعبه. كذلك، ليس معروفا ماذا تريد ايران من اليمن غير السعي الى تطويق دول الخليج العربي انطلاقا من بلد هو جزء لا يتجزّأ من شبه الجزيرة العربيّة.

الاهمّ من ذلك كلّه، ما الذي تريده ايران من العراق الذي خاضت معه حربا استمرّت ثماني سنوات (1980 – 1988). لعبت هذه الحرب دورها في استنزاف ثروات دول المنطقة كلّها، بما ذلك ايران نفسها. بغض النظر عن مسؤولية صدّام حسين في اندلاع الحرب، يبقى ان إصرار "الجمهوريّة الاسلاميّة" على استمرارها كلّ هذه السنوات عكس رغبة في تحقيق اهداف غير واقعية. في مقدّم هذه الأهداف اعتراف العالم ودول المنطقة بانّ "الجمهوريّة الاسلاميّة" قوة إقليمية تستأهل ان تكون لديها هيمنة على محيطها وما هو ابعد من محيطها وتصدير ثورتها.

حسنا، قدمت اميركا العراق لإيران على صحن من فضّة في العام 2003. اجتاحت إدارة جورج بوش الابن العراق عسكريا واسقطت نظام صدّام حسين، البعثي الريفي الذي لم يتعلّم شيئا من المدينة وقيمها. لم يدرك صدّام يوما ما هي موازين القوى في العالم وفي المنطقة ولماذا استطاع تحقيق شبه انتصار على ايران في العام 1988 عندما اضطر آية الله الخميني الى القول انّ عليه تجرّع كأس السمّ ووقف الحرب.

ما الذي فعلته ايران في العراق طوال سنوات غير استغلال ثروات العراق وإقامة ميليشيات مذهبيّة لتحل مكان مؤسسات الدولة العراقيّة؟ ليس في ايران من يسأل نفسه حاليا لماذا هذا الرفض العراقي للوجود الإيراني في البلد، بما في ذلك في النجف وكربلاء والبصرة وبغداد والناصريّة؟ يشمل هذا الرفض الشيعة العرب الذين لم يتوقفوا في السنوات القليلة الماضية عن تأكيد ان العراق هو العراق وايران هي ايران.

توصّلت ايران الى اتفاق مع اميركا في شأن العودة الى الاتفاق في شأن ملفّها النووي، وهو اتفاق موقّع في العام 2015 وقد مزّقته إدارة ترامب في العام 2018... ام لم تتوصّل. المسألة تتجاوز الملف النووي الإيراني. إنّها مسألة سلوك ايران خارج حدودها. إنّها أيضا مسألة الصواريخ الإيرانية والطائرات المسيّرة التي تطلق يوميا من اليمن في اتجاه الأراضي السعوديّة.

ليست الحرب التي شنتها الإدارة الأميركية، عبر وزارة العدل، والتي أوقفت مواقع إخبارية إيرانية او لأدوات تابعة لإيران، بما في ذلك قناة "المسيرة" الحوثيّة، سوى مثل عمّا ينتظر ايران في المستقبل. ما ينتظرها يختلف جذريا عمّا يتوقعه رئيسها الجديد إبراهيم رئيسي الذي يطلب من اميركا العودة الى الاتفاق النووي ورفع كلّ العقوبات المفروضة على ايران من دون أيّ شروط من أيّ نوع.

يُفترض في ايّ مسؤول ايران الاقتناع بان السنة 2021 مختلفة عن السنة 2015 وانّ العالم بات يدرك ان ليس مسموحا لايران متابعة لعبة الهرب من مشاكلها الداخليّة الى خارج حدودها. سلوك ايران خارج حدودها وصواريخها اهمّ بكثير من برنامجها النووي. تلك هي المشكلة التي لم يعد في استطاعة إدارة جو بايدن تجاهلها بايّ شكل. هذه المشكلة تفسّر الحلقة المقفلة التي تدور فيها مفاوضات فيينا بين ايران والدول التي وقعت معها الاتفاق في شأن برنامجها النووي قبل ست سنوات.

هل تريد ايران الخروج من هذه الحلقة المقفلة وتقديم نفسها الى العالم بطريقة مختلفة ام انّها مصرّة على تجاهل ان العالم يعرف تماما انّها في ازمة عميقة. هذه الازمة عميقة الى درجة لم يجد "المرشد" علي خامنئي من يعيّنه رئيسا للجمهورية، عن طريق انتخابات مضحكة، غير إبراهيم رئيسي. اضطر خامنئي الى استبعاد أي مرشّح آخر يمتلك أي حيثيّة من أي نوع لضمان فوز رئيسي في الانتخابات الرئاسيّة!

لا يبشّر الاتيان برئيسي، بتاريخه العروف، بالخير. ستأخذ ايران المنطقة الى مزيد من الازمات من منطلق ان لديها اوراقها الكثيرة في لبنان وسوريا والعراق واليمن. ما قيمة هذه الأوراق باستثناء انّها تدمير لكلّ من البلدان الأربعة المذكورة. بعد كلّ ما فعلته ايران في لبنان عن طريق "حزب الله"، سيكون من الصعب ان تقوم للبنان قيامة. كذلك الامر بالنسبة الى سوريا حيث النظام الاقلّوي مستعد للقول انّه انتصر العالم لمجرّد ان بشّار الأسد لا يزال موجودا في دمشق...

كلّ ما يمكن قوله، ان اميركا لا يمكن ان تقبل بالشروط التي يسعى إبراهيم رئيسي الى فرضها عليها. لا يمكن للصواريخ الإيرانية البقاء خارج أي اتفاق يعقد بين "الجمهوريّة الاسلاميّة" وإدارة بايدن وذلك بغض النظر عمّا تروّجه طهران هذه الايّام. تستطيع ايران فرض انتخابات رئاسيّة في سوريا وتحقيق فوز لبشّار في تلك الانتخابات المهزلة. ما لا تستطيعه هو الاعتراف بانّ لا نموذج لديها تقدّمه الى محيطها والى العالم. هذا يعود قبل ايّ شيء الى ان النظام في ايران فشل في تحقيق ايّ نجاح من ايّ نوع على الصعيد الاقتصادي.

بعد سقوط الشاه، راح المسؤولون الإيرانيون، بمن فيهم الخميني مؤسّس الجمهوريّة الاسلاميّة" ونظام الوليّ الفقيه، ينادون بضرورة استغناء ايران عن الدخل من النفط والغاز وبناء اقتصاد منتج من نوع جديد. هذا صحيح نظريا. تمتلك ايران ثروات كبيرة. ولكن ما تبيّن مع مرور السنوات انّها في الوقت الحاضر اكثر اتكالا على النفط والغاز من أي وقت.

بعض الشجاعة تبدو اكثر من ضرورية لمواجهة الواقع المتمثّل في ان ما يزيد على نصف الشعب الإيراني واقع تحت خطّ الفقر... وان النظام القائم لا مستقبل له. لا مستقبل له لسبب في غاية البساطة يعود الى عجزه عن الانفتاح داخليا وخارجيا. هذا العجز يفسّر كلّ التصلب الذي يظهره النظام، وهو تصلب سيعود بالكوارث على ايران نفسها وعلى المنطقة للأسف الشديد!