العراق سفينة بلا مرفأ

ان يتحول العراق من الاضطراب الى الاستقرار والبناء أمر صعب، ولكنه ليس مستحيلا.

شكل غزو العراق تحولا جوهريا في مستقبله ودوره الحيوي كمحور جيوسياسي فاعل، معني بمهام الامن والسلم الدوليين، وحفظ التوازنات العربية الإقليمية ضمن رباعية التوازن العربي الإقليمي، والحفاظ على استقرار المنطقة، فضلا عن دوره في تنمية الدول الناشئة وامدادها بالخبرات المهنية والأكاديمية والعسكرية، وقد لعب ادوارا حيوية في مسارح التأثير الاقتصادي والمالي بما يؤمن توازنات السوق، ولم يكن مسرحا للإرهاب او التنظيمات المسلحة باي شكل كان. ولعل المقارنة الرقمية لواقع الشرق الأوسط وتحديدا العالم العربي سابقا مع واقعه اليوم المخضب بالرقع الحمراء، يؤكد ان خطيئة غزو العراق وتفكيك دولته قواته المسلحة وترسيخ النموذج اللبناني فيه، قد اسهم في تفكيك التوازنات الجيوستراتيجية كمرتكز أساسي لأمن المنطقة واستقرارها، كما وسع من ظاهرة الدول الفاشلة، وبروز الكيانات المسلحة الموازية غير النظامية كفاعل بديل للدولة، بالرغم وجود سلطاتها الثلاث، ونظامها السياسي غير القادر على رسم التوجهات السياسية التنموية لتلبي حاجيات ومتطلبات الشعب العراقي، الذي يرزح تحت مطارق المحسوبية العائلة والحزبية، وتمدد الإرهاب الوافد، وتعاظم منظومة الفساد المتوغلة، فضلا عن الفشل الإداري، وغياب المعايير والمؤهلات في توسيد المناصب والمهام، مع غياب واضح للمسائلة والشفافية والعدالة والرقابة والمتابعة والتقييمـ وتلك عناصر الحوكمة.

السفينة وغياب الربان

تبحر سفينة العراق منذ 2003 على احداثيات خارطة الأمم المتحدة الخاطئة والتي قسمت النظام السياسي العراقي الى قسمة الغرماء، وبنسب سنية وشيعية وكردية، بما يلغي مفاهيم السياسة الوطنية، ويرسخ النموذج اللبناني ما بعد الحرب الاهلية، والفرق واضح ومختلف، فان الوضوح ان هناك إرادة دولية ورغبات إقليمية بتكرار النموذج اللبناني في العراق، بالرغم من المخاطر الاستراتيجية والتهديدات الواضحة لمن يفهم البيئة العراقية، وتنوع مكوناتها، واهمية موقع العراق الجيوسياسي بما له علاقة بالدور والمهام

والمختلف ان العراق لم يخض حرب أهلية من قبل عبر تاريخه، نظرا لتماسك ونسب ومصاهرة المجتمع العراقي، وتمسكه بالقيم الوطنية والمجتمعية، ولم يشهد حرب محاور كما حصل في لبنان، ذهب ضحيتها المجتمع اللبناني. ولم يغفل صناع القرار الدولي خطورة ذلك ولكن هوس القوة، وتجارة الحرب، جعلتهم يخاطرون بالقيم الاستراتيجية، ويبحثون عن فوضى خلاقة في منطقة حيوية تمثل قلب العالم، وبلا شك عندما يتم تفكيك الدولة والمجتمع في أي محور جيوسياسي موصف ضمن النسق الدولي، ومعترف به رسميا كدولة عضو في الأمم المتحدة، فان احتمالات الفوضى والانهيار والصراع السياسي متوقعة، لاسيما في ظل دعم وتبني سياسة دولة المكونات وقسمة الغرماء السياسية (المحاصصة السياسية) بما يخالف نظرية الدولة والعقد الاجتماعي اللذين يسعان للوحدة الوطنية المجتمعية وحوكمة الدولة، وصنع سياسات حكومية عامة يكون هدفها الأول المواطن والاستدامة وسلامة الوطن، وعندما يغيب ربان السفينة او يكون القبطان مرهون بسياسة الأحزاب وفسادها، فان السفينة لم تصل الى وجهتها، وستدمرها الأمواج والعواصف والاعاصير وهذا ما حصل للعراق بالفعل.

البحث عن مرفأ

عرفت السياسة بانها "علم السلطة أين وجدت وحيثما كانت وعلى أي مستوى" وفي تعريف اخر "علم حكم الدولة أو دراسي المبادئ التي تقوم عليها الحكومات والتي تحدد علاقاتها بالمواطنين وبالدول الأخرى"، ومع الأسف الغالبية السياسية في العراق لا تملك مهارات فنون السياسة، وبعيدا جدا عن تحقيق المصلحة العامة للعراق وشعبه، ويفكر الغالبية بجزئية المنافع الشخصية ضمن اطار منظومة الفساد، دون الاكتراث بمطالب الكتلة الحيوية البشرية التي تعد عامل الاستقرار والتنمية والعمل السياسي، فضلا عن ادامة عناصر الجيوبلتيك التي تشكل سبب وجود الدولة، اذا تشكل السياسة الداخلية الرصينة مدخل حيويا للعلاقات الدولية، المبنية الى التكافؤ في الفرص والمصالح المشتركة، والحفاظ على السيادة الوطنية، وتعزيز السمعة والمكانة الدولية، بما يؤسس للتوازن في العلاقات الدولية والإقليمية.

اذن يفتقر العراق لمرفأ يشكل وجهة الوصول الامن له، ويعيد تنظيم قدراته ويصنع سياسته ويقومها بما يوائم مصلحة العراق العليا، ان وصول العراق الى وجهته، يتطلب ان يقيم أداء النظام السياسي، ويعمل على تقويمه، ويرسخ ثقافة الحوكمة السياسية والمؤسساتية، ومحاربة منظومة الفساد المتوغلة في جسد الدولة، وحصر السلاح بيد الدولة، وإزالة المظاهر المسلحة، وإعادة السلم المجتمعي، ومنع عودة الارهاب وعسكرة المجتمع مرة أخرى، وان العراق في مرحلة حرجة وحساسة، اذ يتطلب ان يجدد دمائه السياسية وتأهيل شريحة الشباب، واحتوائها لتكون عناصر فاعلة في الاستدامة، وضمان مستقبل العراق، فضلا عن إعادة تأهيل عناصر المجتمع المرأة والطفل اللذان كانوا ضحايا حماقة السياسة واثارها المختلفة، ليس مستحيلا ان يتحول العراق من الاضطراب الى الاستقرار والبناء، وقد يكون صعبا ولكنه اصبح مطلبا ضروريا لا يقبل التأخير، ولا بد من تفعيل منظومة نهضة العراق بدماء جديدة شابة.