العشق الذي ذاقه كبار العابدين والزاهدين

سطور كتاب عمار علي حسن تفيض بعشق لا يُدانى، كبير وعريض على اتساع الكون، عميق وراسخ كالجبال الرواسي. 
سطور عشق صنعتها أقوال وأفعال الأقطاب والأبدال والأنجاب
سطور أوجدتها معالم الشريعة وأنوار الحقيقة

تفيض سطور هذا الكتاب بعشق لا يُدانى، كبير وعريض على اتساع الكون، عميق وراسخ كالجبال الرواسي، لا يخبو نوره، ولا ينتهي عطاؤه، ولا تنضب مواجيده وأذواقه، ولا تتراخى مقاماته وأحواله. إنه العشق الذي ذاقه كبار العابدين والزاهدين، وهبت نسماته على كل من اقتربوا منهم، وحاولوا أن يتشبهوا بهم، وخلّوا وراء ظهورهم منافع الدنيا الزائلة، وأطلقوا أرواحهم لتبحث عن الحب العظيم، الذي لا يتهادى إلا لأصحاب القلوب الرقيقة، والنفوس الطيبة، والعقول المتوقدة، والبصائر النيرة. 
هذا ما يستهل به الكاتب والروائي المصري د. عمار علي حسن كتابه الممتع والجميل "فرسان العشق الإلهي" الذي صدرت منه عدة طبعات عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة.    
بداية يُعتبر هذا الكتاب مرجعًا غايةً في الأهمية، لكل من أراد أن يبحث في عالم المتصوفة وحياة أقطابهم الكبار وسيرتهم التي تركوها خلفهم، وعلى قمتها عشقهم الإلهي. 
هنا يصف الكاتب ما يحتويه هذا الكتاب قائلا إنها سطور عشق صنعتها أقوال وأفعال مَن وصفهم مريدوهم بالأقطاب والأبدال والأنجاب. سكنات وحركات، همسات وصرخات. تفكير وتعبير وتدبير، شكّل جانبًا لا يمكن إهماله من الحضارة الإسلامية على امتداد تاريخها. وهي سطور أوجدتها معالم الشريعة وأنوار الحقيقة، اللتان تقاربتا وتباعدتا وتماهتا في تصنيف عجيب، أثار جدلًا لا ينتهي، لكنه أنتج معرفة لا يمكن إنكار فضل حضورها.

الكاتب طاف بنا في جنبات حياة عدد من مشاهير المتصوفة، وسلط الضوء على أفعالهم وأفكارهم، حتى أنه جعل القاريء يشعر وكأنه كان يعيش معهم ويتلقى عنهم ما يُلقونه إليه من علم ومعرفة ودروس في الدنيا والدين

محاريب العشق الإلهي
عمار يكتب هنا عن رحلات المتصوفة المسلمين الكبار، من المنشأ والمسار إلى المآل. إنها رحلات صانعها ودافعها ورافعها هو العشق الإلهي، الذي لن يبور ما دام للبشر قلوب تنبض، ونفوس تطيب. فرسان العشق الإلهي الذي يقع في خمسمائة وخمسين صفحة تقريبًا، يأخذنا فيه عمار علي حسن في رحلة شيقة وممتعة نتعرف فيها إلى أقطاب المتصوفة الكبار، ومحاريب العشق الإلهي الذين صاروا قدوة للآخرين، على هذا الدرب الواصل ما بين الأرض والسماء.
عمار يكتب هنا كذلك عن رموز التصوف وشيوخه الكبار، راسمًا لهم صورة قلمية أو ملامح ذاتية يرسمها لفرسان المحبة، والتسامح والزهد والولاية، والمعرفة الحدسية على مدار التاريخ الإسلامي. لم يرتب عمار مَن كتب عنهم ترتيبًا زمنيًا، بل رتبهم أبجديًّا، إذ إن نصوصهم تتجاوز زمن كتابتها، وأحوالهم تتجدد مع العارفين والواصلين من أولياء الله الصالحين. 
عمار، من خلال كتابه هذا، يوجّه رسالة إلى من لا يعرفون، أو يجحدون، أو من يحاولون أن يهتدوا إلى دروب السالكين، طالبًا منهم أن يأتوا إلى صفحات كتابه ليروا، وأن يقفوا ليتعلموا، أن يصغوا ليتدبروا، وأن يعلموا أن الكون الفسيح مفعم بأسرار لا تنتهي، ومكنون على خبايا سيحاول الإنسان اكتشافها تباعًا حتى ينقضي أجله، بل حتى يطوي الله السماء، ويكوّر الأرض، ويجعل الجبال كالعِهْن المنفوش. عمار وهو يسرد شخصياته هنا حاول أن يتبع منهجًا واحدًا، ساعيًا إلى تدقيق النظر، ووزن المعنى، حتى يحيط خبرًا بكل الآراء والمواقف حول الشخصية التي يعرضها، ذاكرًا آراء المادحين والقادحين، إذ ليس هناك إجماع على أحد، ولا كرامة لنبي في وطنه، والتاريخ اختيار، وما يُكتب عن إنسان، سواء أَصَغُر أمْ كبُر، فلا يخلو من هوى، ولا ينجو أحيانًا من ضعف.
كتاب بانورامي
كان عمار قد نشر كتابته هذه عن هذه الشخصيات في صحيفتيْ المصري اليوم والوطن اللتين تصدران بالقاهرة، قبل أن يجمعها هنا في هذا الكتاب، وقد وجدتْ، على حد قوله، صدًى واسعًا بين القراء. عمار يكتب عن هذه الشخصيات لحاجة الناس إليها، ولكي يعرفوا أن تاريخ الإسلام غني بشخصيات أعظم بكثير من هؤلاء الحفظة المنغلقين، الذين يركزون على المنظر لا المخبر، والمظهر لا الجوهر، إنهم الذين حبسوا الإسلام العظيم في مجموعة من الأمور الشكلية العابرة، ووظفوه في قضية الصراع على السلطة والثروة، وهنا يضعهم عمار في حجمهم الطبيعي، دون أن يذكر ذلك صراحة.   

التصوف الإسلامي
عمار علي حسن

فرسان العشق الإلهي كتاب بانورامي بالفعل يكشف لنا، عبر سرد ممتع، حياة اثنتين وأربعين شخصية من أشهر شخصيات التصوف على مدار التاريخ الإسلامي، منهم من زادت شهرته حتى عرف به العامة قبل الخاصة، ومنهم من لا يعرفهم إلا من دخل محراب التصوف، أو وقع في يده هذا الكتاب. 
هنا نقرأ عن كثيرين منهم إبراهيم بن أدهم، ابن عطاء الله السكندري، أبي الحسن الشاذلي، أبي حامد الغزالي، الحلاج، أبي يزيد البسطامي، جلال الدين الرومي، الجنيد، رابعة العدوية، السهرورديّ، عمر بن الفارض، محيي الدين بن عربي، النفري، مالك بن دينار وغيرهم. 
لم يكن إبراهيم بن أدهم، كما يقول عمار، متواكلًا يميل إلى العبادة على حساب العمل، بل كان يأكل من عمل يده، حتى أنه عمل أجيرًا لدى أصحاب المزارع، يحصد لهم الزروع ويقطف لهم الثمار ويطحن لهم الغلال.
أما إبراهيم الخوّاص فقد كان أحد كبار شعراء الصوفية، أبدع قصائد تتهادى إلى الجميع دون عنت وعناء، يخاطب الوجدان فيها، وتنطوي على أفكار مقبولة عقليًّا، رغم أن غالبيتها تدور حول الزهد في الدنيا، وقد بلغ الخواص شأنًا كبيرًا في التصوف، حتى أن كثيرين كانوا يعتبرونه أحد أقران الجنيد والنوريّ، لما كان له في التوكل والرياضة الروحية من حظ كبير. 
وفي حضرة شيخ إقليم فارس ورأس الصوفية في زمانه ابن خفيف الشيرازي، يكتب عمار أنه كان يوصف بالشيخ الذي جمع بين العلم والعمل وعلو السند والتمسك بالسنن، ومُتّع بطول العمر في الطاعة. وقد كان الشيرازي يرعى السنة ويكره شطحات المتصوفة، وقد روى أحاديث كثيرة وتفاسير منسوبة إلى الرعيل الأول من الإسلام.
قنطرة صوفية وفلسفية
بعد ذلك يطير بنا عمار علي حسن لنحط أمام ابن سبعين الذي يوصف بأنه قنطرة صوفية وفلسفية بين الشرق والغرب. إنه أحد أعمدة الفلسفة الإسلامية، وجسر واصل ما بين الشرق والغرب، اختلف أرباب القلم على فكره، واتفق كثير من الناس على زهده، ورصد المؤرخون معاركه مع الفقهاء، وتتبعوا رحلات هروبه منهم فانضم إلى قافلة المُطارَدين في تاريخ المسلمين، لكنه ظل حتى الرمق الأخير مصرًّا على ما جادت به قريحته، وما أهداه إليه وجدانه، وعاشت سيرته وبقي لنا ما خطّه بنانه.
أما أبو بكر الشبلي تاج الصوفية الذي شغلته العناية عن الرواية، فقد كان يرى في التصوف ترويحًا للقلوب بمراوح الصفاء، وتجليلا للخواطر بأردية الوفاء، والتخلق بالسخاء، والبِشْر في اللقاء. كما كان يرى أن المتصوفة لا يثبتون على حال، بل يسعون دومًا إلى التقدم في الحب الإلهي والترقي في الزهد والتعبد، والبحث الذي لا ينتهي عن تحصيل رضاء المحبوب.        
وهكذا في فرسان العشق الإلهي، ومن قطب إلى قطب، يتنقل بنا عمار علي حسن، قاطفًا مع قرائه أزاهير بساتينهم العاطرة، مستريحًا في محاريبهم قليلا من هجير الحياة القاسية، مُروّحًا عن القلوب، للحظاتٍ، حتى تتطهر مما ران عليها من هموم وكروب. لقد طاف بنا في جنبات حياة عدد من مشاهير المتصوفة، وسلط الضوء على أفعالهم وأفكارهم، حتى أنه جعل القاريء يشعر وكأنه كان يعيش معهم ويتلقى عنهم ما يُلقونه إليه من علم ومعرفة ودروس في الدنيا والدين.