عبدالسميع يحتفي بالشعر على طريقته

الشاعر فتحي عبدالسميع يضعنا في كتابه "الشاعر والطفل والحجر" أمام جوانب من سيرته الذاتية، طفلًا وشاعرًا وإنسانًا.
الشعر ظُلِم جداً في حياتنا، وحياتنا مظلومة جداً لأنها لا تعرف الشعر جيدًا
انطلقْ يا شعر وخلصنا من تشوهاتنا ومن وعينا القاصر والمحدود بالعالم

مرّت سنوات وصرتُ الآن واحدًا من عشّاق الشِّعر الحديث، زادت مساحة الوعي بالشعر، فاتّسع ثقب الإبرة، صار فضاءً واسعًا، صار الثقب واحة، وكان من السهل على الجَمَل أن يمرح فيه. 
هذا ما يقوله الشاعر فتحي عبدالسميع في كتابه الجميل والقيّم والأكثر من ممتع "الشاعر والطفل والحجر" الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وفيه يضعنا أمام جوانب من سيرته الذاتية، طفلًا وشاعرًا وإنسانًا، بل ومفكرًا لديه رؤيته الخاصة لمفردات الكون، والعوالم التي يدور في أفلاكها عقلاً ووجدانًا، ذاكرًا أن الشاعر طفل في المقام الأول، يُقدّر الخيال ويحتفي باللَّعِب، يعيد ترتيب الأمور وفْق رؤيته لا وفق شكلها السائد، يحطم لعبة الحياة ليبحث عن أسرارها، متحدثًا عن إعجابه بشاعر الربابة، وعن فتور علاقته بالشعر الشعبي بعد أن فُتِنَ بالنصوص الشعرية الجديدة، وعن الشاعر الذي يسبق الثورة، وعن القصيدة الناجحة التي يجب أن تحمل مناخ الأوقات الذهبية، وأن تذكّرنا ببؤس أوقاتنا الفقيرة، وأن نشعر معها بأننا أكثر انتباهًا وحيويةً، وإقبالاً على الحياة، وعن القصيدة الجسر التي تربطنا بأنفسنا وتصلنا بالعالم وصلاً عميقًا، وعن الشعر الذي عليه أن يجعلنا أكبر مما نحن عليه لأنه قيمة في حد ذاته، حتى وإن لم يكن هناك جمهور. 

هيا يا نار الشعر احرقي تعوُّدنا على القبح وتصالحُنا معه، هيا يا جرس الشعر أنقذنا من ألفة السبات العميق الذي يكفننا، انطلقْ يا شعر وخلصنا من تشوهاتنا ومن وعينا القاصر والمحدود بالعالم

هذا وقت الشعر
عبدالسميع، المحظوظ جدًّا لأنه أدرك ثراء الشعر وقيمته، والذي يحب قواعد الشعر ويحترمها جدًّا، خاصة تلك القاعدة التي تُحرّضنا على هدْم قواعد الشعر، يقسّم كتابه إلى تسعة أقسام يتحدث في جُلّها عن علاقته بالشعر ورؤيته له، متنزهًا بين أروقة القصائد ووجدان الشاعر وعوالم الشعر، دون أن ينسى أن يغوص في نفسه إنسانيًّا، جاعلاً إيانا تابعين له ذهابًا وإيابًا ما بين طفولته وشبابه وحتى لحظة تأليفه لكتابه هذا.
هنا يكتب عبدالسميع عن القصيدة بنت الحُلم، عن الشاعر والطفل وتوسيع العالم، وعن الشاعر والعقلانية الرشيدة وعن طفولة العالم. في القسم الذي عنونه بـ "هذا وقت الشعر" يكتب عبدالسميع عن الشعر والحضور الأعمق في العالم، عن الشعر مهندس الحرية، عن الشعر والحكمة والمستقبل الإنساني وعن الشعر والعلْم والشعر وكينونتنا الإنسانية، وكذلك عن بؤس المشهد الشعري الذي يشهد كمًّا هائلاً من الشعراء ولا نجد لذلك مردودًا شعريًّا موازيًا لهذا الكم.
أما في القسم الذي سمّاه "مرآة الصياد: الشعر والحياة" فيكتب عبدالسميع عن تعريف الشعر وتعليب الإنسان، عن لغز الحياة ولغز الشعر وعن خصوصية الشاعر ومصباح الشعر المترجَم.
هنا، وفي كتابه الممتع بحق، يستدرج عبدالسميع قارئه ليُدْخله معه جنة الشعر، داعيًا إياه إلى تناول ما لذ وطاب من ثمارها، مانحًا إيّاه فرصة ذهبية لقضاء وقت أكثر من ممتع بصحبته شاعرًا وإنسانًا، يكتب عن تجربته الشعرية وكيف يرى الشعر ومدى تأثيره فيه وتأثّره به. عبدالسميع الذي يرى هنا أن الإنسان شاعر في المقام الأول، وبفضل هذا البعد الشعري بدأ ينسج أساطيره الشعرية ويَخرج من العالم البدائي، ليحقق ذاته ويصنع عالمًا مختلفًا على نحو مذهل قياسًا بعالمه الأول، يرى كذلك أن البشر هم صُنّاع الهمجية بينما الإنسان هو صانع الحضارة، كما يرى أن في كل واحد منا بشريّ يدفعه إلى الهمجية، وإنسان يدفعه إلى الرقي.
الشعر يناويء المسخ
أمّا شعريًّا وإضافة إلى أن عبدالسميع يرى أن الشعر مربح جدًّا في الحقيقة، يرى كذلك أن الشعر واحد من أكبر مناصري الإنسان، يخوض معركة شرسة من أجل بقائنا، لكننا لا نشعر بأهمية الشعر، لا نصدق أنه يخوض معركة من أجل بقائنا. في صباه لم يكن فتحي عبدالسميع يحب الشعر وخاصة الشعر الحديث، غير أنه كان كلما لمح قصيدة في مطبوعة انجذب إليها أحيانًا بشكل غامض، متسائلاً لماذا ينجذب المرء للشعر على هذا النحو الغامض؟ مؤكدًا أننا جميعًا ننجذب في فترة الصبا إلى الشعر بشكل غامض، يدفعنا شعور عميق نحوه، قد نتحرك خطوة أو لا نتحرك. بعد ذلك تقدَّمَ عبدالسميع، في صباه، نحو قراءة الشعر الحديث مثلما تراجع من قبل، ما إن قرأ عدة أسطر وشعر بثقل رأسه، وهكذا كان ينصرف عن الشعر وهو مقتنع تمامًا بلا جدوى الصبر على مشقته. غير أن القصائد التي تركها عبدالسميع صبيًّا وكانت ثقيلة جداً عليه، عاد إليها في وقت لاحق ووجدها خفيفة جدا وضَحِكَ. 

عن اشعر
أثناء مناقشة الكتاب في إحدى التدوات

عبدالسميع الذي يرى مسيرة الإنسان على الأرض مذهلة فعلاً، كان كثيرًا ما يتقمص روح الحيوانات، ويتخيل كيف تنظر إلى المنجزات الإنسانية الكبيرة، وكيف تتعجب من الوحشية التي تظهر في صورة حروب أو مذابح، أو أعمال عنف فردية يجفل عن فعل مثلها الحيوان الضاري. من هنا يرى عبدالسميع، مقتنعًا تمامًا، أن الشعر عملاق يناويء المسخ، جمال يصارع القبح على الدوام. عبدالسميع يقرأ القصيدة وينشغل بإيقاعها، أو صورها، وتدور في أعماقه معركة لا يدري عنها شيئًا، مواصلاً قراءة القصيدة محلّقًا في أجوائها، لا بعقله فقط، بل بوجدانه وكل كيانه، ولا تعجبه الصورة التي يرضى عنها عقله فقط، بل الصورة التي يتناغم معها الوجدان، حتى لو لم يفهمها بشكل عقلاني.
عبدالسميع الذي بات عاشقًا للشعر، يرى أن الشعر ظُلِم جداً في حياتنا، وحياتنا مظلومة جداً لأنها لا تعرف الشعر جيدًا، لقد برمجتنا الظروف وكان الشعر مهملاً جداً في ذلك البرنامج، لا البيت يعلمنا عنه شيئًا ولا المدارس ولا الإعلام، بل تلعب كل المؤسسات دورًا كبيرًا في تشويهه وتجريده من قيمته وتحويله إلى مسخ، أو تحويله عدوًّا للشعر: نعم يصبح الشعر عدوًّا للشعر، كما يصبح الإنسان عدوًّا للإنسان. لقد جعل الإعلام الشعر ضربًا من ضروب التسلية، وتقديم الشعر كفقرة مسلية يقتل الشعر، كذلك تقتل المؤسسات التعليمية الشعر حين تختار نماذج توافق قدرات التلميذ، أو نماذج تعبر عن وجدان وعالم الإنسان في عصور بعيدة، ومع الوضع الحالي لتلك المؤسسات يولد لدينا شعورا أن من بين أهدافها قتل الشعر، بوعي أو بلا وعي، وما أكثر الدببة التي تقتل أصحابها! 
الشعر أمر ثقافي وغريزي
فتحي عبدالسميع الذي يمتعه الشعر جدًّا، وكلما قرأ قصيدة جيدة وجد حلاوة وطلاوة، يرى أن الشعر مثله مثل كرة القدم يمنحنا قدرًا من التسلية والمتعة، غير أنه أكبر بكثير من اعتباره نشاطًا يهدف إلى التسلية أو المتعة فقط. كذلك يرى عبدالسميع الشعر أمرًا ثقافيًّا كما هو أمر غريزي، والدليل على ذلك وجوده في كل الثقافات المعروفة، وقدرته على تجاوز الطبقات والإيديولوجيات والعصور. غير أن عبدالسميع، ورغم ما يتعرض له الشعر من حروب وأزمات، نراه على يقين من أن الشعر لن ينقرض، وإن كانت المظاهر تشير إلى هذا، فالإنسان لغز كبير، وما يهجره في وقت ما كثيرًا ما يعود إليه في وقت لاحق بشكل محموم.
فتحي عبدالسميع الشاعر يرى أن الشاعر طفل في المقام الأول، لكنه ليس طفلاً فقط، إنه مراهق وشاب وكهل وشيخ في الوقت نفسه، فالإنسان كل هؤلاء والطفل الذي ملأ حياتنا صخبًا لم يمت، لقد حملناه معنا، إلى شبابنا وكهولتنا وشيخوختنا. وواجب الشعر هو حراسة ذلك الطفل وإطعامه على الدوام، إذ لو مات الطفل فسنحمل داخلنا جثة، سنحمل رائحة كريهة ولا نشعر بها. غير أن عبدالسميع الشاعر والإنسان يتجلى حين يكتب هنا قائلاً: "كل إنسان في الحقيقة يمشي حاملاً في داخله مقبرة، كل إنسان يدفن قسمًا كبيرًا من كيانه في قبر بين جنبيه، والشعر يفتح طاقة في تلك القبور المظلمة، يُنقّيها ويزرعها من جديد، ونحن لا نشعر في الغالب بتلك القبور، فكيف نشعر بالشعر وهو يهدم جدرانها ويحرثها ويزرعها من جديد؟"
انطلق يا شعر
عبدالسميع العاشق للشعر، والذي يعتبر الشاعر الحقيقي هو من يمتلك القدرة على ترويض الضغوط التي تواجهه كافةً، ويحرص على هوية الشعر نفسه في المقام الأول، قبل هويته الفردية أو الجماعية أو الإنسانية، يرى أن هذا هو وقت الشعر، وأن الشعر ضرورة وسيبقى كذلك في كل وقت، ورغم أن بعضهم تحدث عن موت الشعر إلا إن هناك شواهد كثيرة تدل على أن مستقبله أفضل من حاضره، فهو ليس رفاهية ولا استرخاءً بل ضرورة ويقظة وبناء داخلي متين ومهيب، ليس غيابًا عن الواقع بل هو الحضور الأعمق في قلب العالم، والتفاعل مع الشعر هو تفاعل عميق مع كل قضايانا ومشكلاتنا ما ظهر منها وما بطن. من هنا نحتفي بالشعر، على حد قول عبدالسميع، لأننا نريد أن نحتفي بكينونتنا الحقيقية، بالمعجزة التي يحملها كل منا، نريد أن نغرف من مائه ونغسل أعيننا حتى ترى، وأنوفنا حتى تشم وأرواحنا حتى ترقص رقصتها الخلاقة. 
وبعد.. هذا كتاب ولا أروع لا يمكن أن يُكتفى بقراءة هذه السطور عنه، بل يجب أن يُقرأ كاملا من بدايته لنهايته، وقبل أن أضع نقطة الختام أقرأ معك أيها القاريء هذا المقطع الذي يُلخص دور الشعر في حياة الشعوب والثقافات: 
"هيا يا سكّين الشعر، مزّقي تلك الحبال الخفية التي كبلتنا، هيا يا معول الشعر اثقبْ تلك البلادة التي تحجرت حول أرواحنا، هيا يا نار الشعر احرقي تعوُّدنا على القبح وتصالحُنا معه، هيا يا جرس الشعر أنقذنا من ألفة السبات العميق الذي يكفننا، انطلقْ يا شعر وخلصنا من تشوهاتنا ومن وعينا القاصر والمحدود بالعالم، وافتح السراديب المسدودة في أعماقنا، نظف عروقنا من النفايات التي تحرمنا من إمكانياتنا الهائلة، وتفصلنا عن جوهرنا الإنساني الفذ".