'الفسيفسائي' تبرز أصالة الهوية الثقافية والفنية للحضارة المغربية

الأديب المغربي عيسى ناصري يحكي في هذا الحوار أسرار السرد الجمالي حول فضاءات مكانية غنية تحمل ذاكرة خصبة وثقلا حضاريا وتاريخيا يشكل خيوط أحداث روايته الأولى المرشحة لجائزة البوكر.

الرباط - "الفسيفسائي" رواية من تأليف القاص المغربي عيسى ناصري، تنقسم إلى ثلاثة أقسام، يروي قسمها الأول فترة الاحتلال الروماني للمغرب وصناعة الفسيفساء بأيدي الموريّين المقاومين، ويحكي قسمها الثاني عن بحث الكاتبة الأميركية أريادنا عن لوحة فسيفساء مفقودة، وتورطها في قصة حب مع "جواد"، أما القسم الثالث منها، فيشمل مذكرات طبيبة نفسية حول مرضاها وحياتهم في سياق تاريخي وثقافي معقد، إذ أن الرواية تقدم نظرة متشعبة حول الماضي والحاضر، وتثير أسئلة حول الهوية والحرية والحب والذاكرة.

وترشح الروائي المغربي عيسى ناصري بالقائمة القصيرة لجائزة البوكر العالمية للرواية العربية لعام 2024، من خلال روايته الأولى في مساره الأدبي "الفسيفسائي"، وفي هذا السياق أجرى موقع "ميدل إيست أونلاين" حوارا مع المؤلف حول هذا العمل الأدبي.

وفيما يلي نص الحوار:

ما الذي دفعك لاختيار مواقع محددة مثل وليلي ومكناس ومولاي إدريس زرهون مسرحا لأحداث روايتك؟

اخترتها أولا لتقاربها جغرافيا، وثانيا لما تحمله من غنى حضاري، فمدينة وليلي بموقعها الأثري الأشهر وأطلالها وفسيفساءاتها وبقايا أبنيتها، تقف شاهدة على تاريخ غزو الرومان لموريتانيا الطنجية في القرن الأول الميلادي، ومولاي إدريس زرهون كانت مقرّ حُكم أول دولة إسلامية بالمغرب، ومكناس عاصمة المملكة المغربية في عهد السلطان مولاي إسماعيل، فهذه كلها شكلت فضاءاتٍ مكانية غنية تحمل ذاكرةً خصيبة وثقلا حضاريا وتاريخيا أستفَادَتْ منهما الرواية كثيرا.

كيف يمثل فن الفسيفساء محورًا أساسيًا في الرواية؟، وما دواعي استحضارك لهذا الفن القديم؟

الفسيفساء من أقدم الفنون التصويرية التي عرفها السومريون والرومان ثم البيزنطيون، إذ يقوم على ترصيف حصيّات أو مكعبات على أسطح مستوية لتشكيل مشاهد ولوحات تُزيَّن بها الأرضيات والجدران، وقد استلهمت الفسيفساء الرومانية القديمة في روايتي، لدواعٍ ثلاثة، أوّلا، بالنظر لما يحمله هذا الفن من جمالية وإبداع أصيل ناطقٍ برهافة ذوق القدامى وعمق إحساسهم بالتناسق والجمال، وثانيا باعتبار اللوحات الفسيفسائية القديمة حمّالة تاريخ وحضارة بائدة، وثالثا، باعتبار التشكيل الفسيفسائي يمكن محاكاته في فن السرد والكتابة الروائية، إذ جعلت معمار الرواية يقوم على أساس بنية سردية فسيفسائية دالة وموحية.

ثنائية الأنا والآخر كان لها حضور وازن في روايتك، كيف قاربتَها؟ وماذا تعني لك الصراعات القديمة بين الموريين المغاربة والرومان الغزاة؟

"الأنا" في الرواية يمثله مغاربة تسعينات القرن العشرين من جهة، والموريون في القرن الأول من جهة ثانية، بينما "الآخر" يمثله المستعمر الفرنسي في القرن العشرين، والرومان في القرن الأول، ورغم الفجوة الزمنية العريضة الممتدة بين الحقبتين نجد أن علاقةَ الطرفين واحدة لا تكاد تتغير، هي علاقة يغلب عليها الصراع، صراع اتّخذ تمظهراتٍ وأبعادا عرقية وثقافية وهوياتيّة فامتدَّ بتبعاتِه إلى حاضرنا.

وهو ما كرّس نوعا من النظرة الدّونية عند الآخر الذي استعمرنا ولا يزال يستعمرنا بثقافته ولغته واقتصادياته، فنظرة دونية ارتبطت بتفوّق استعماري وتقدّم حضاريّ كاسح، إذ أرى هذا التفوّق التاريخي والحضاري إن لم يَكن عُقدة تفوُّق، فلا يمنع أبدا من إقامة حوار حضاريٍّ وتحقيق اندماج بين ثقاقة الأنا والآخر، وهو ما انتَصرتُ له في الرواية، إذ عقدت لقاءً بين الأنا والآخر وأعليتُ من صوت التسامح والتعايش والانفتاح.

كيف تعاملت في روايتك مع مسألة الحرية والاضطهاد؟ وكيف تمثّلت هاتين الثيمتين في أحداث الرواية؟

اللوحة الفسيفسائية النواة التي صنعها الفتى الموري "ايدمون"، هي اللوحة الجسر التي أتاحت لي أن أربط الماضي البعيد بالحاضر القريب، حمّلتُها شيئا من أحلام الموريين بالحرية، إذ أن اللوحة تترجم فكرة التوق إلى الحرية، تعبّر عن رفض الموريين لكل أشكال الاستبداد والقهر اللذين أكلا من أجسادهم ومن وأرواحهم.

وهكذا توسلت بفن الفسيفساء للتعبير عن تمجيد الحرية وإدانة الاضطهاد، وبين الاثنين أعليتُ صوتَ المقاومة، ذلك أن الموريين لم يكونوا لقمة سائغة في متناول المستعمر الدخيل، حيث قاوموه بجسارة وشكلوا تحالفات قبلية فألحقوا به هزائم وكبّدوه خسائر، فلجا لتدعيم صفوفه بفيالق إضافية كما نرى في بداية مخطوطة "الفتى الموري".

وتمثّل الاضطهاد في أشكال الردع والعقاب والإدانة والإهانة التي حرص المحتل على إلحاقها بالأسرى والمساجين والسكان الأصليين، ومن أشكال هذا الردع كما صورته الرواية، عروض الإدانة بالوحوش التي كانت بمثابة دروس في إخضاع الثوار وتركيعهم.

ما هو التوازن الذي حاولت تحقيقه بين الثقافة المحلية والثقافة الأجنبية في روايتك؟

حاولت أن أصحح تلك الصورة النمطية التي يسوّق لها الإعلام الغربي في ربورتاجاته وأفلامه وآدابه عن المغرب باعتباره بلدا غارقا في بداوته، بلدا لا ينتج سوى التزمّت والفولكلور مع خشونة مقيمةٍ في طِباع أهاليه.

وبالمقابل روّجتُ لمغربٍ مثقّف يقرأ، مغرب المثقفين والفنانين ومتذوّقي الفنون، بلد المواهب والكتّاب المُجيدين، بلد منفتح على الثقافات الأخرى، بلد التعدد الثقافي والحضاري الذي انصهرت فيه روافد ثقافاتٍ متعددة، عربية صحراوية أمازيغية أندلسية متوسطية وأفريقية.

كيف رسمت صورة للعلاقات الإنسانية بين الشخصيات المغربية الموريّة والرومانية والأميركية في قصتك؟

نسجت بين هؤلاء الأطراف علاقات يغلب عليها الطابع الإنساني، إذ أقمتُ علاقة حب بينَ موريٍّ ورومانية، ومتّنتُ صداقات ندّية بين أميركيين ومثقفين مغاربة، وجّهتُ العدالة بقلم السارد الأعلى للقبض على مغربيٍّ أجرم في حقّ كاتبة أميركية، ورفعتُ من قيمة الكتابة والفنّ باعتبارهما أداتين مُثليَتيْن لتعميق هذه العلاقات الإنسانية وإعلاء صوت التسامح والتعايش بين أطراف هذه العلاقات.

ما هو التأثير الذي ترغب في أن تتركه روايتك على القارئ بخصوص قضايا الحضارة والجمال وفن الكتابة؟

بخصوص الحضارة، أريد من القارئ أن يعرف أن في المغرب تعددا حضاريا وتنوعا ثقافيا تمتد جذوره إلى القرن الأول وقبله، وأن في هذا البلد أنواعا متعددة من التراث المعترف به والمدرج ضمن قوائم التراث الإنساني العالمي.

وبخصوص قضايا الجمال، أروم أن أجعل هذا القارئ يتذوق الفسيفسائيات القديمة، ويَنظرَ إليها برؤية فنية جديدة، في محاولة للقبض على أبعاد الجمال النائم بين حصيّاتها، أما بخصوص قضايا الكتابة الروائية، فأريد من القارئ أن يختبرَ قراءة الأعمال الروائية المتوسِلة بجماليات التفكيك والتشظي في السرد، ليتساءل عن مغزى تفكيك الوحدات النصية وتنافرها وتجاورها، وعلاقة ذلك بظواهر العالم التي تتّصف بالغموض والفوضى.

كيف تناولت قضية نهب الآثار المغربية وكيف كنت تأمل في تسليط الضوء على هذا الجانب من التاريخ؟

سرقة الآثار موضوع قديم حاضر بقوة في الآداب العالمية، إذ تحدثتُ في الرواية عن سرقة ألواح فسيفسائية وتحفٍ وتماثيل في عهد الاستعمار الفرنسي وبُعيدَه، فأبرز السرقات نهْبُ تمثال باخوس الذي أقام الدنيا ولم يقعدها، كما توقفت عند ملابسات هذه السرقة للتساؤل عما تحمله من أبعاد ودلالات، وقد وجدت فكرة "سرقة الأثر" تعطي الروائي إمكانات التحري والبحث والتقصي، ما يفتح الرواية على غموضٍ ملتبِسٍ واحتمالات وأسرار وألغاز تولّد التشويق، وجعلت موضوع سرقة الأثار في نص الرواية يسير جنبا إلى جنب مع سرقة أخرى هي السرقة الأدبية، فكما سُرقت قِطع اللوحة الفسيفساىية النواة، ستُسرق المخطوات الثلاثة المشكّلة للرواية الجامعة.

حدثنا عن الجوانب الفنية والجمالية في روايتك، وكيف تعزز هذه العناصر تفسيرك الفني للعالم؟

فيما يخص قضايا الكتابة، أنني توسّلت بجماليات التفكيك والتشظي في السرد بدلا عن جماليات الوحدة والتماسك، وهذا التفكيك ملمحّ من السرد الفسيفسائي الذي يعتَبر من أنماط السرد الذي قامت عليه الرواية الجديدة، وهذا النمط من السرد من مواصفاته أيضا تداخل الأزمنة والأمكنة وتعدد الذات وتحولاتها، وكذا تعدد مستويات اللغة وتنوع نسيجها، مع هيمنة الوصف.

وهناك تقنية أخرى في "الفسيفسائي"، تم اعتمادها في الروايات التي تمثّلت وعْيَ ما بعد الحداثة، هي تقنية الميتاسرد أو السرد الواعي بذاته الذي يتخذ من الكتابة وكشْفِ ألاعيبها موضوعا له، إضافة إلى تقنية الكولاج الروائي أي إلصاق نصوص وتقارير صحفية وقصائد وأغانٍ وإقحامها في متن المحكي.

فالاعتماد على التفكيك والتشظي والتمرد على الوحدة والتماسك، وتحطيم مبدأ الإيهام بالواقعية، معناه أن العالم يتّصف بالارتباك والغموض والفوضى، وأن ظواهره الغامضة والمتعددة والفوضوية عصية على الفهم والتحليل، لذلك فمهمّة الرواية عندي ليست تقديم حقائق ومُسلّمات ودفْع القارئ لتوهّم الحقيقة، بل مهمتها تكمن في تجسيد رؤية لا يقينية للعالم، تجسيد رؤية فنية تعكس التشظي والشتات والحيرة والتيه والغموض الذي لفّ هذا العالم ودمَغَ ظواهره المتنافرة والمبعثرة والفوضوية.