الفضائيات الدينية.. طريق عائلة الشيرازي للنفوذ والمرجعية

تركيزها على الخطاب الشعائري القائم على البكاء والنواح وبث مراسم العزاء الحسيني في صورتها الأكثر دموية: التطبير الضرب بالسلاسل المشي على الجمر وهي ممارسات ترفضها الكثير من المرجعيات الدينية لدى المسلمين الشيعة بل تفتي بأنها محرمة دينيا في حين الفضائيات الشيرازية تتفاخر بنقلها وبثها على الهواء مباشرة.

بقلم: حسن مصطفى

تناولت الحلقة السابقة بالرصد الفضائيات الدينية الموالية لمرجعية آية الله السيد صادق الشيرازي، والتي بات التنافس على إطلاقها أمرا يفتح شهية الكثيرين، لما تجلبه لهم من نفوذ وقوة، أو ما يرجونه من مثوبة ربانية! هذا السباق بين الأتباع لفت انتباه الباحث السعودي د.توفيق السيف، والذي كتب في صفحته الخاصة بموقع "فيسبوك" في 20 مايو 2014، حول سعي أحد رجال الدين المحليين لإطلاق فضائية باسم "الإمام الحسن"، كتب مستفهماً "هل هناك حاجة إلى نسخة جديدة هي تكرار عن النسخ القائمة المتشابهة في كل شيء تقريبا، أليس هذا مشابه لبناء حسينية إلى جانب حسينية قائمة؟"، مضيفا "هل سينفق على هذه القناة من الحقوق الشرعية؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل هذا هو المصرف الأولى للحقوق الشرعية، مع وجود حاجات أكثر إلحاحا، ومن بينها حالات فقر شديد، حتى في مدينة السيد صاحب القناة".

النقاط التي أثارها السيف هي محلُ نقاش لدى الكثير من المثقفين الشيعة، خصوصا أنهم يرون أن هنالك أموالا تهدر في غير محلها، بل أن هذه الفضائيات تأتي بنتائج عكسية، وترسم للشيعة صورة نمطية سوداوية، هي خلاف واقعهم، وعلى العكس من المستقبل الذي تريد أن تعيشه الأجيال الجديدة.

التمويل ومصادر الدخل

وجود هذا العدد الكبير من القنوات لدى مرجعية واحدة، أثار الكثير من التساؤلات عن التمويل ومصادر الدخل، فخصوم التيار الشيرازي يتهمونهم بتلقي أموالٍ من أجهزة استخبارات أجنبية وعربية، مستغربين من استمرار قنوات مثل "فدك" تبث من المملكة المتحدة، دون أن يتخذ ضدها إجراء تأديبي واحد من الهيئة المشرفة على البث الفضائي Ofcom، رغم ما تتضمنه برامج القناة من خطاب يحرض على الطائفية والكراهية ونبذ الآخر!

الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، الشيخ محسن الأراكي، وفي حديث لوكالة "مهر" الإيرانية، يرى أن "التيار الشيرازي فرقة منظمة وحزب سياسي يستتبع غايات سياسية خاصة، وهو يدعم من قبل الأجانب بشكل كامل. وأملك وثائق دامغة لما أقول".

هذا التمويل الأجنبي تنفي وجوده مصادر من داخل "مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث"، والتي قالت: إن "أغلب القنوات الشيعية التي تأسست بتشجيع من المرجعيات الدينية، تعتمد في الأساس على المتبرعين، وجمع التبرعات والاشتراكات". وأضافت: "هذه المرجعية دفعت أثمانا باهظة لأنها حافظت على استقلاليتها، ورفضها التبعية لمختلف الأنظمة".

متابعون لملف تأسيس الفضائيات الدينية، يشيرون إلى أن هذه القنوات لا تكلف مشغليها كثيرا، وتعتمد على ما يأتيها من حقوق شرعية وبعض أموال "الخمس" من البيت المرجعي، إضافة إلى التبرعات من رجال أعمال شيعة في الخليج والعراق وباكستان.

المشاهد للقنوات يلحظ أنها بين فترة وأخرى تنشر إعلانات تحث الجمهور العام على التبرع، مرغبة إياهم بأن مثل هذه الأعمال تساهم في نشر فكر التشيع حول العالم، وهو ما يجعل الأموال تتدفق عليها من المؤمنين، وإن كانت بشكل محدود وغير كبير، لا يلبي احتياجاتها كاملة. ولذا نجد أن عدة قنوات لم تستطع الاستمرار في البث، وتوقفت عن العمل.

أجور الموظفين المتواضعة، والعاملون المتطوعون، والإنتاج رخيص الكلفة، والاعتماد على بث المحاضرات المسجلة من المساجد والحسينيات، أمورٌ تشترك فيها هذه الفضائيات. وينعكس ذلك على حِلتها المتواضعة فنيا، الأمر الذي يشي إلى محدودية الميزانية، والتي تعتمد على الجهد الشخصي للملاك والمشرفين، ومدى قدرتهم على تحصيل مداخيل مالية جديدة. مع ملاحظة قلة الإعلانات التجارية، وضعف إيراداتها.

قناة العائلة الواحدة!

يحتلُ آل الشيرازي مكانة واسعة ضمن البرامج التي تبثها القنوات التابعة لهم. حيث تعرض محاضرات ودروس المرجع الحالي آية الله السيد صادق الشيرازي، إضافة إلى نجليه حسين وأحمد. فضلا عن محاضرات السادة: محمد رضا، مرتضى، جعفر، مهدي، محمدعلي، أنجال المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي.

طغيان حضور بيت "الشيرازي" والترويج لهم في هذه القنوات، حولها إلى محطات دعائية لمرجعية وعائلة بعينها، وكأنها حكر على تيار فكري وسياسي معين، وهو الأمر الذي ينفيه الباحث باسم الزيدي، مبينا أن "هذه القنوات لا تقتصر على الشيعة، فضلا عن مقلدي السيد الشيرازي، بل هي عامة، وتهدف إلى نقل رسالة الإسلام السمحاء إلى الإنسانية جمعاء".

إلا أن مشاهد هذه القنوات يجد أن المحاضرين وعلماء الدين الذين تستضيفهم هم في أغلبيتهم الساحقة ينتمون إلى التيار الشيرازي. خلا بعض الاستثناءات كما في قناة "فورتين" التي تبث محاضرات لشخصيات دينية سعودية غير شيرازية، مثل: السيد منير الخباز، والسيد حسن النمر.. وربما يعود ذلك إلى أن جزء من القائمين على القناة ينتمون إلى التيار الشيرازي في السعودية، ويتحلون بقدر مع "الاعتدال النسبي" مقارنة بباقي القنوات.

تأكيد الأهلية

لم يكن من باب الصدفة تأسيس التيار الشيرازي لقناة باسم "الحوزة العلمية"، وهو الذي عانى منذ ستينيات القرن الماضي من تشكيك في أهليته الفقهية، حينما عارض كثير من علماء الحوزة العلمية في العراق، مرجعية السيد محمد الشيرازي، مرتابين في قدرته على الافتاء!

عدة آراء صدرت تنفي الاجتهاد، فضلا عن المرجعية، ومع هذا استمر السيد الشيرازي في استقطاب الجيل الجديد من الشباب المؤمن حينها. إلا أن هذه المرجعية رغم توسعها ونفوذها بقيت توصف بـ"الضحالة العلمية" و"عدم العمق الفقهي". وهو الأمر الذي دفع أتابعها إلى تأسيس فضائية "الحوزة العلمية" وكأنهم بذلك يريدون إثبات كونهم أبناء شرعيين للحوزة، وأنهم جزء منها، ويمارسون فيها التعليم وإلقاء محاضرات "البحث الخارج". وهي الدروس التي يقدمها غالباً من يحصلون على مرتبة الاجتهاد من علماء الدين الشيعة.

هذه الخطوة الهدف منها تهيئة الجيل الثاني من آل الشيرازي لتولي منصب المرجعية الدينية، بُعيد السيد صادق. خصوصا أن شخصية مثل الراحل السيد محمد رضا الشيرازي، نجل السيد محمد، كان هو المرشح صاحب الحظ الأوفر خلفاً لعمه، إلا أنه توفي العام 2008.

الخطاب الغرائبي

لا موسيقى، ولا ظهور لنساء غير محجبات، فضلا عن الحضور الخجول للمرأة، وغياب تام لأي فكر آخر علماني أو ليبرالي، هو ما يميز هذه القنوات الدينية. إضافة لتركيزها على الخطاب الشعائري القائم على البكاء والنواح، وبث مراسم العزاء الحسيني في صورتها الأكثر دموية: التطبير، الضرب بالسلاسل، المشي على الجمر، وهي ممارسات ترفضها الكثير من المرجعيات الدينية لدى المسلمين الشيعة، بل تفتي بأنها "محرمة دينيا". في حين الفضائيات الشيرازية تتفاخر بنقلها وبثها على الهواء مباشرة.

الخطاب العجائبي القائم على المنامات والأحلام، والنبرة المذهبية كما في محاضرات السيد محمد باقر الفالي، أو الشيخ عبد الحميد المهاجر، وسواهما من أصحاب النهج "الغرائبي"، تجده يتصدر هذه القنوات، الأمر الذي ساهم في خلق "ثقافة شعبوية رثة، لم تكن موجودة من قبل في الفكر الشيعي القائم على الاجتهاد وتحكيم العقل والمعرفة. كما حرفت سيرة وتاريخ الإمام الحسين ، وأخرجتها عن غاياتها الكبرى، التي تتمثل في العدالة ونبذ الظلم".

خطاب "الخرافة" الذي تتهمُ القنوات الشيرازية بترويجه، يعلقُ عليه الباحث باسم الزيدي قائلا "يكفي أن تراجع ما كتبه الإمام الشيرازي من بحوث توسعت لتشمل القانون والسياسة والاقتصاد، إضافة إلى المؤسسات الثقافية، ومراكز الدراسات والبحوث"، لتعرف –برأيه- حقيقة نهج المرجعية، والذي يؤكد على"أهمية العمل والسعي والاجتهاد، وبذل ما في الوسع لنشر الثقافة السلمية والتفكير الحر، وبناء المؤسسات التنموية".

الزيدي من جهته، ينفي أي علاقة بين مرجعية السيد صادق الشيرازي، والخطاب الطائفي لبعض أتباعه، موضحا أن "هذه المرجعية نأت بنفسها عن أي صراع طائفي أو سياسي أو ديني عبر تاريخها، بل كان لها دور كبير في ترسيخ السلم الاجتماعي"

رئيس تحرير مجلة "الساحل" الشيخ حبيب آل جميع، يرى أن حديث الزيدي على أهميته ينطبق على التيار الشيرازي في نسخته "النهضوية" السابقة، وليس على النسخة التي تقدمها الفضائيات حاليا، مبينا أن "السيد محمد الشيرازي اهتم فعلا بتطوير الثقافة الإسلامية، وتبنى خطابا يؤمن بالتعددية والتسامح والبعد عن ما يثير الفتنة بين المسلمين. إلا أن هذه القنوات تبنت خطابا مغايرا له، يغيبُ العقل والتفكير، ويعتمد على الأحلام"، معتقدا أنه هنالك "حالة من الجمود داخل التيار عن نقد هذه القنوات، وعن مراجعة أثرها السلبي على الناس. فالمطلوب أن يتطور الخطاب الإسلامي وينفتح على الآخر، ويكون قادرا على ولوج المستقبل، لا العيش في الخرافات والتاريخ السحيق"!.

الخطاب الغرائبي هو نتاج "الفكر القشوري" بنظر الباحث أحمد الكاتب. مبينا أن "غياب العمق الفكري، وعدم وجود قضية جوهرية لدى التيار الشيرازي، والتركيز على السطحيات والشعائرية، هو ما أفرز الخطاب الحالي في هذه القنوات".

حدود التأثير

بالرغم من أن مرجعية السيد صادق الشيرازي، ليست هي الأكثر انتشارا بين المسلمين الشيعة في العالم، فهنالك مرجعيات أكثر نفوذا، مثل آية الله السيد علي السيستاني. إلا أن النشاط الإعلامي للتيار الشيرازي كان له تأثير على شريحة من الجمهور العام، وتحديدا المتدين منه، أو من لديه نزعة وشعور عميق بالتهميش والاضطهاد المذهبي!.

هنالك فضائيات دينية أكثر اعتدالا، مثل "الإيمان" التابعة لمرجعية الراحل السيد محمد حسين فضل الله. أو "المعارف" التي يشرف عليها الشيخ حبيب الكاظمي. إلا أن هذه القنوات بسبب عدم استخدامها لخطاب "شعبوي" كما هو الحال لدى مثيلاتها الشيرازية، لم تنل متابعة كبيرة من الجمهور الذي يعتقد أنه يحضرُ مبارزة مذهبية مع قنوات سلفية طائفية مثل "وصال" و"صفا". ولذا لن تلامس وجدانه القنوات الشيعية القائمة على الخطاب المعتدل، وإنما يبحث عن قنوات يتصور أنها تتحلى بقدر من الشجاعة والقوة والمقدرة على هزيمة الخصوم!

"هذه القنوات تثير الفتنة بين السنة والشيعة"، قد تكون هذه الجملة التي علقت بها إحدى القارئات على الحلقة السابقة، تعبر عن وجهة نظر شريحة كبيرة من شيعة الخليج الذين يعيشون في مجتمعات متنوعة، يتعدد فيها الطيف الشيعي، بين التيارات الإسلامية والمدنية والليبرالية واليسارية.. وجميعها تتبنى فكرا مختلفا عما تقدمه هذه الفضائيات.

حتى داخل "البيت الإسلامي ستجد هنالك نقاش حيوي ونقد واسع لهذه القنوات، التي لا يستطيع خطابها مواكبة أسئلة الجيل الجديد، والذي بات لا يعترف بوجود خطوط حمر أو محرمات، بل كل شيء لديه قابل للسؤال والنقاش العلمي، ويبحث عن البرهان. فيما نهج هذه القنوات يقوم على التلقين"، بحسب الشيخ حبيب آل جميع

أزمة فكر

التفكير السطحي الذي يظهر في كثير من برامج الفضائيات الشيرازية ليس إلا جزء من أزمة معرفية أكبر تعيشها القنوات الدينية الإسلاموية بشقيها السني والشيعي. وهي انعكاس لعدم قدرة الحركات الإسلامية على فهم متغيرات العصر الحديث، وإعمال العقل بشكل أكبر جرأة في الاجتهاد، وتطوير خطاب تنويري يلبي الاحتياجات الحالية للمؤمنين.

هذا الترهل الفكري دفع بعدد من طلائع الشيرازيين الأوائل إلى الانشقاق عن التيار والخروج من عباءته، وهو ما ستستعرضه الحلقة القادمة عن آل الشيرازي.