الفوضوي والميت والمومس تجليات بيسوا وباتاي وبازوليني

 كتاب "الرقص مع المهرج" للشاعر والمترجم الراحل محمد عيد إبراهيم يضم ثلاث قصص طويلة لكتاب أثرت كتاباتهم الإبداع الإنساني ويلقي الضوء على افكارهم ورؤى الشخصيات الأدبية.
بيسوا واحد من أعظم شعراء اللغة البرتغالية
جورج ارتبط اسمه بالمؤلفات الجنسانية والايمان والالحاد
أعمال باولو الروائي والمخرج الإيطالي اهتمت بالطبقات العمالية الكادحة  

ثلاث قصص طويلة ـ نوفيلات ـ لثلاثة كتاب يعدون من أبرز المبدعين الذين أثرت كتاباتهم الإبداع الإنساني، ضمها كتاب "الرقص مع المهرج" بترجمة الشاعر والمترجم الراحل محمد عيد إبراهيم، الكتاب هم فرناندو بيسوا الشاعر والناقد والمترجم والفيلسوف البرتغالي الذي يوصف بأنه واحد من أهم الشخصيات الأدبية في القرن العشرين وواحد من أعظم شعراء اللغة البرتغالية، والثاني جورج باتاي الذي ارتبط اسمه بالمؤلفات الجنسانية والايمان والالحاد، والثالث بيير باولو بازوليني الروائي والمخرج السينمائي الإيطالي والذي احتلت الطبقات العمالية الكادحة جزءا مهما من أعماله، والقصص هي "المصرفي الفوضوي"، و"الميت"، و"المومس".
قدم المترجم للقصص الثلاثة حيث ألقى الضوء على كتابها وشخصياتها الأدبية أفكارها ورؤاها وأعمالهم.

كتاب متنوع
كتاب متنوع

 قال عن فرناندو بيسوا أنه يعد المثال الأكثر تطرفا على طبيعة وتحديات الحداثة، مثال انطوائي لكنه موضوعي. لم يسع أحد للعثور على ما هو غير شخصي فيما يبدع، فقد تقبل انقسام ذاته حتى أنه سمح بفعل غريب: كان يكتب بأكثر من اسم، لم يكونوا زائفين بل متخيلين، لكل كتابة واقعية مميزة باسمه، بدأ بيسوا شخصاً انبساطياً ثم انتهى انطوائياً. بدأ مصمماً أن يحس بكل منحى فيه إحساس، وانتهى استحواذياً مرضياً يتساءل إن كان هو نفسه حقيقياً أم لا، لكن لا مهرب عموماً من العودة لاستكشاف الحقيقة. في الشعر، كتب بيسوا بأربعة أسماء في شاعر واحد: ألبرتو كاييرو، ريكاردو رييس، ألفارو دو كامبوس، فرناندو بيسوا.
يكتب كلٌ منهم بصورة مختلفة عن الآخر: يكتب كاييرو الشعر الحر، وتختلف قصائد كامبوس عن سابقه في نبرتها، ويكتب رييس شعراً موزوناً لكن دون إيقاع، أما بيسوا نفسه "عدا قصائده المبكرة" فيكتب شعراً موزوناً وإيقاعياً بشكل كامل.يبدو كأنه يكتب من اللاوعي، لكن الواقع لم يكن مصادفة.
تدور قصة بيسوا "المصرفي الفوضوي" حول فكرة الفوضوية، ورأيه في فلسفتها التي شاعت أثناء وما بعد الحرب العاملية الأولى، مع أن أصولها تعود إلى بداية الثورة الفرنسية 1798، ثم تطورت نتيجة إفلاس صغار الرأسماليين وعجزهم أمام الاحتكار وسيطرة رأس المال. ومع الشائع بأن الفوضوية فلسفة تخريبية تهدف لاستخدام العنف ضد النظم الاجتماعية، إلا أن الصحيح أنها تستهدف بناء مجتمع خال من تشوهات الحروب، وتمثل إجراء دفاعيا ضد ما يرى من عنف الدولة.
قصة "الميت" لجورج باتاي سبقتها ثلاث مقدمات الأولى لـ "أوسترين وينهاوس" والثانية لجورج باتاي، والثالثة للمترجم. 
في مقدمته يلفت جورج باتاي إلى أن تاريخ مخطوط "الميت" الأصلية يعود إلى ما قبل عام 1944 على الأقل، في ربيع 1944 كنت أقيم وحدي، في ساموا، وهي منطقة تقع قرب فونتنبلو. 
وكان المال أجري عن الخدمة المدنية يأتي من باريس، كنت ساعتها في إجازة مرضية، مصابا بالسل الرئوي، وكل أسبوعين كان عليّ أن أستروح صدري في منتجع فونتنبلو، وهو يبعد ثلاثة أو أربعة كيلو مترات عن ساموا وقبل أن يوصل الأمريكيون البلدتين بخدمة باص. كانت لدي دراجة ورحلاتي ذاهبا وآيبا طيلة هذه الفترة مع تقدم الأميركيين كانت تجبر الألمان على العودة مما نتج عنه أخيرا، بعد وقت قصير من تحرر فونتنبلو وساموا ذهبت حين انهارت رئتي، أدخل الطبيب إبرة بين ضلوعي مرة تلو مرة، ولم تجد نفعا محاولاته السبع أو الثماني، ثم راح جيب الهواء، فرغ كليا، قضي عليه.
 هكذا اكتشفت أني شفيت، اختفى جيب الهواء، تبعه انقطاع النشاط الميكروبي، موحيا أني صرت على ما يرام من جديد، ومنذ ئذ لم تعد تضايقني أي متاعب عن السل. عدت إلى باريس في أكتوبر. لكن قبل وصول الأميركيين، لم أكن أعلم إلى متى سيصلني موردي المالي في ظلّ هذه الظروف العصيبة، فبعت بعض مخطوطاتي، كان من بينها "الميت"، مخطوط "الميت" إلى بائع كتب في باريس.
ويضيف باتاي كاشفا عن أجواء كتابته لقصته أن "هناك رابطة أضيق بين "الميت" وإقامتي في نورماندي، حيث كنت عرضة للسل، لأن نورماندي لم تكن تبعد عن قرية تُدعى تيلي "وهي التي أدعوها في "الميت" كيلي" كان فندق كيلي على غرار الفندق الفعلي في تيلي؛ صاحبة الفندق في الكتاب هي نفسها صاحبة الفندق في تيلي. واخترعت التفاصيل الأخرى عدا المطر، وهو ما لم يكد يتوقف سقوطه في أكتوبر أو نوفمبر من 1942. عدا أيضا الليل الأسود القاري حين طرقت جولي باب الحانة؟ فهل نمت أم لم أنم في ذلك الفندق؟ لا أتذكر، لكن يبدو أنني نمت فيه. كما أومن أنه في بار الفندق كان ثمة أجراء مزرعة يلبسون أحذية مطاطية. وربما عازف بيانو. عموماً، كان المكان مشؤوماً، قد يحدث فيه أي شيء. باختصار، أنا متأكّد أن الجو في فندق تيلي كان يوحي بجو الفندق في "الميت". كما أني متأكّد أخيراً، أو شبه متأكد، أني نمتوحديفي ذلك المكان، مما بث فيّ الرعب. الباقي يتعلق باستثارة جنسية كثيفة هيمنت عليّ خلالنوفمبر المجنون، في عزلة كاملة تقريباً، كنت وقتها أعيش ليس بعيداً عن تيلي بل وعلى بعد كيلومتر حيث تعيش الفتاة التي كانت عشيقتي. كنت عليلا، في حالة غامضة تدمج تعباً جسدياً مع فزع وبهجة. 
ويصعب أن أتخيل على أي وجه كانت الطرق الموحلة، المحفرة، الوعرة، وأنا أدور فيها بحذائي المهلهل. كما تناولت معظم وجباتي، لكن لوحدي، في منازل الفلاحين.
الكاتب صاحب القصة الثالثة "المومس"بيير باولو بازوليني شاعر وقاص وناقد وروائي وكاتب سيناريو وممثل ومخرج سينمائي. 
قتله عشيقه الشاب في شاطئ بعيد. اشتهر بأفلامه عن أعمال أدبية: الإنجيل وفقا لرواية متى، الديكاميرون، حكايات كانتربري، أوديب، ألف ليلة وليلة. غير: أوديب الأسود "مع مورافيا"، حياة عنيفة "عن الشذوذ الجنسي، ماما روما "سيرة عاهرة"، ثلاثية عمر "سيرته"، سدوم وعمورة "الفاشية سادية". قال عن نفسه "أنا ماركسي كاثوليكي ملحد، أستخدم المجاز المتقارب لأكشف ابتذال مجتمع الحداثة". 
وكان مورافيا يعتبره "شاعر إيطاليا الأوحد في النصف الثاني من القرن العشرين". يستخدم في أدبه وأفلامه تيمة الواقعية الجديدة بدفء إنساني ممتزج بالسخرية آخر رواياته بترول، وقد كتبت قصته الطويلة، أو روايته القصرة المومس عام 1954 لكنها نشرت في 1965، وتمثل سرد المؤلف على النمط الواقعي واهتمامه باللغة المحكية.
مقتطف من قصة المصرفي الفوضوي
"أنت على حق... لم أزل لا أفهم... أتمنى منك أن تخبرني، سيدي، أنه لا فارق بين نظرياتك الفوضوية الحقة والطريقة التي تعيش بها ـ طريقة حياتك الآن؟ تريد مني أن أصدق أنك تعيش بالضبط كما يعيش الرفاق الذين تدعوهم عموماً فوضويين؟"
"لا، لا، ليس هذا ما أقصد. ما أعنيه أنه لا اختلاف يذكر بين نظرياتي والطريقة التي أعيش بها؛ ثمة مطابقة حاسمة. لأني لا أعيش حياتي كما يتبعها الزملاء النقابيون مع القنابل ـ هذا صحيح. لكنهم يعيشون حياتهم بعيداً عن الفوضوية، بعيدا عن مثالياتهم. ولست أنا. بالنسبة لي أنا ـ نعم، أنا، المصرفي، الرأسمالي، المحتكر، كما ترغب ـ بالنسبة لي فالفوضوي نظرياً وعملياً مندمجان حرفياً. وقد قارنت بيني وبين النقابين الحمقى مع القنابل كي تشير إلى اختلافي عنهم. إنني، وهنا الفارق: إنهم "نعم، هم، وليس أنا" فوضويون نظرياً فقط، أما أنا ففوضوي نظرياً وعملياً معاً. إنهم فوضويون وحمقى أغبياء، أما أنا ففوضوي مستنير. ما يعني، صديقي، أني أنا الفوضوي الحقيقي. وهم ـ النقابيون مع القنابل "كنت هناك لكني أسقطت ذلك كله على نحو دقيق لأن فوضويتي هي الأصلية" ـ هم رواسب الفوضوية، هم بغايا المذهب الليبرالي العظيم".
"الشيطان لن يصدق أذنيه! هذا أمر مثير! لكن كيف تتوافق حياتك ـ أقصد، كمصرفي ورجل أعمال ـ مع نظريات الفوضوية؟كيف تعلل قولك إنك تفهم نظريات الفوضويةبالضبط كما يفهمها أي امرئ بالطريقة المألوفة؟ ومع أنك أعلاهم، تخبرني أنك مختلف عنهم كونك أكثر فوضوية منهم ـ هذا هو؟"
مقتطف من قصة الميت
ماري تلبث وحيدة مع إدوارد وهو ميت
حين ارتد إدوارد للوراء ميتا فتح داخلها خواء، تخللتها رجفة مطولة، حملتها أعلى كملاكة. نهض ثدياها العاريان في كنيسة مرئية في حلم يستنزفها شعور لايمكن إصلاحه. وهي واقفة جنب الميت، غابت، تنقلت، غلبتها نشوة بطيئة، مسحورة. عرفت أنها يائسة، لكنها تلقي بيأسها إلى الريح بينما كان إدوارد يموت، راح يتضرع إليها أن تخلع ملابسها.
عجرت أن تفعل ذلك في وقته، هنالك وقفت، شعثاء؛ تنزع ملبسها، فقط صدرها كان يقفز في المنظر.
ماري تخرج عارية من المنزل
لم يكن الوقت جاهزا لقوانين يخضعنا بها الخوف. خلعت ملبسها وعلقت معطفها على ذراع. راح عقلها وصارت عارية. فاندفعت تخرج راكضة في الليل تحت وابل المطر. حذاؤها يخشخش في الطين، والمطرينقعها. أحست بحاجة تحرك أمعاءها، فانتصبت تعوق ذلك، وصلت إلى غابة، فرقدت وسط رفقة الشجر المهدئة. تبولَت على الأرض، وبلل البول رجليها. على الأرض بهدوء، وصوت عبثي في هوس، راحت تغني،
"عريي مجرد عري
إيجابي بوحشية...".
من ثم نهضت، لبست معطفها تركض عبر كيلي حتى وصلت إلى باب الفندق.
مقتطف من قصة المومس
لو أبلغ أحد ماريو وقتها أو بعد أيام قلائل أنه سينالها كشاعر متواضع منذ زمن طويل، لابتسم وجهه. ولو علم النابوليون الثلاثة أنهم سيعقدون صفقة لا خسارة فيها لأن الوقت في صالحهم، لفعلوا ما فعل. لم يكن ماريو معوزاً. كان يسكن شقة صغيرة في سنتوسلي، على رغم مشاركته أمه وأخواته اللاتي يخرجن للعمل. أما النابوليون الثلاثة فليس لهم عنوان محدد بروما، فهم يسكنون كوخاً ولايمنحهم خالهم بنساً. وبالتجارة مع ماريو وعائلته التي لا تعلم شيئا. بنوا لأنفسهم سطوحا، وبمرور الوقت آمن ماريو بالصورة أكثر، بعد أن افتضحت بكلّ مكان. والنتيجة الأخيرة مفاجئة، تسارعت الأشياء فانتهت الصفقة: بداية مع تمرير الصورة من جيوب الأخوة الثلاثة إلى جيب ماريو؛ ثم بتصريحهم الكتابة إلى نانينا، وهي أمية نوعا فكانت تكلف شخصا من قريتها الرد على كتابته؛ والانشغال أخيرا بالبريد:
حبيبة قلبي تسكن سنتوسلي، 
وتراسلني مع النجوم، فيحمل السنونو
كلمة مني إلى غرامي.
وصلت نانينا روما ذات صباح ربيعي، وكان ينتظرها بالمحطة إخوتها الثلاثة وخطيبها، يمعنون في الصورة. نزلت عابسة متوترة من القطار حن أبطأ، تتبعها أمها محملة بسلال فتميلها صرتها، كانت أجمل مما تصور خطيبها. قدّموها إلى ماريو الذي شد نفسه لتقع في غرامه فوراً. لكن نانينا كانت منزعجة وعرقانة فراقبته سرا، حيث استغرقها لمّ شمل العائلة الكبيرة؛ أمها وإخوتها وهي نفسها يصرخون كما يفعلون في سوق بنفيتو. كأن حياتهم بدأت معاً. غادروا المحطة مع ماريو وهو يحاول إعلان ملكيته لها، آخذاً إياها بمهابة في ذراعه فتسعى خجلة للهرب منه. وعبر أصحاب ماريو بطلاقة عما يحس بداخله، قالوا "يا الله، فلاح!" ثم استدركوا "لكنها تستحق النظر"!.
استعجلوا بداية المعركة، بالترام وكان مزدحماً. شباب من تربيناتارا يرون هذا الجمال مع أمها المذهولة ولا يلحظون وسط الحشد أنها محروسة، أسمعوها تعليقات استعراضية ثم انتهوا بالاعتذار. فلخص أصحاب ماريو الموقف هكذا "تستطيع أن تتزوج عشرين منهم!".