القاهرة الساحرة.. حيث يسترد المكان مكانته!

في كتابه 'القاهرة سحر المكان' للدكتور السيد بهنسي تجلس الأيام تتبدل الوجوه والأعوام، تركض الأحلام، وتصنع الذكريات على مهل.

يعلم الدكتور السيد بهنسي أستاذ الإعلام بجامعة عين شمس، أنني مقيم خارج مصر، وقد أهداني كتابه الأخير "القاهرة سحر المكان" عن عالم الكتب في 350 صفحة من القطع المتوسط، وبصفحته الغلاف الداخلي هذا الإهداء:

"يشرفني أن أهديك كتابي، لعله يؤنس أيامك حتى تعود بإذن الله.

منحني الإهداء طاقة غريبة، ومدخلا أراه مناسبا للقراءة ثم الكتابة عن المؤلف والكتاب".

السيد بهنسي أحد أساتذة الإعلام الكبار في العالم العربي، وهو أكاديمي بدرجة فنان عاشق للفن والجمال، مفتون باللوحات الفنية، يؤمن بقدرتها على الارتقاء بالذوق وصناعة البهجة وبث التفاؤل، بالقدر نفسه يؤمن بسحر الصور وعمق تأثيرها وله في هذا كتاب مهم مشترك مع صديقي الغالي الراحل محمد عبد الحميد بعنوان "تأثيرات الصورة الصحفية".

لم التق المؤلف في حياتي ولا مرة، ولكنني قرأت وتابعت كل إنتاجه الفكري، وحين وصلني كتابه "القاهرة سحر المكان" اكتملت صورة وملامح واهتمامات السيد بهنسي بداخلي، نحن أمام نموذج إنساني نادر لباحث جاد جدًا حد الصرامة، وإنسان مرهف الحس عاشق للجمال محب للحياة، يحيا بالأمل ويبث جرعات من التفاؤل على المحيطين به في صورة كتابات وتعليقات هنا وهناك في فضاءات منصات التواصل الاجتماعي، ينأى بنفسه عن أي جدل عقيم لا يضيف، لكنه ليس سلبيا، بل يتكلم حينما يحب الكلام، ويجد من يسمعه وبالمثل يصمت حين يجد صمته أبلغ من كل الكلام.

أراد السيد بهنسي أن يعينني على غربتي بكتاب ضخم يؤنس أيامي، وحين شرعت في القراءة انكشف السر والسحر الذي يغلف القاهرة منذ أكثر من ألف عام وحتى الآن، وقد تحقق لي شخصيًا الدفء والاقناع والمؤانسة، ولذا أجدني مدينا للرجل بالشكر على الحنين الذي يبوح بسر المكان وسيرته، وأنا عاتب عليه أيضا، فقد وصلت للصفحة الأخيرة من الكتاب فجأة، وفي جلسة واحدة من عدة ساعات، في وقت انتظرته يؤنسني لأيام!!

في كتابه "القاهرة سحر المكان"، تجلس الأيام تتبدل الوجوه والأعوام، تركض الأحلام، وتصنع الذكريات على مهل.

ولا أظن أن مدينة في العالم، حظيت بكل هذا الاهتمام وهذا الكم الهائل من المؤلفات والكتب والدراسات مثل القاهرة، التي وضع جوهر الصقلي حجر أساسها في عام 969م، يتجاوز عمرها اليوم 1055 سنة!

مدبح الإنكليز!

تنفرد القاهرة بين عواصم ومدن العالم الإسلامي بثراء مساجدها وسحر مآذنها، التي عرفتها مصر للمرة الأولى عند توسعة جامع عمرو بن العاص عام 678 حيث أقيمت أربع مآذن بأركان المسجد ، كما ارتفعت في سماء مصر مئذنة أخرى لمسجد مدينة "العسكر" التي أقيمت عام 785 في العصر العباسي، ومن بين عدة أماكن ومحطات أتوقف عند مسجد الظاهر بيبرس حيث تتجلى دراما المكان والحكام، ففي عهد محمد على تحول هذا المسجد إلى معسكر لإحدى الفرق العسكرية الوافدة، ثم تحول إلى مخبر، ثم استعمل بعد ذلك مصنعاً للصابون، وبعد ذلك أخذت بعض أعمدة المسجد الرخامية لبناء رواق الشراقوة بالجامع الأزهر بناء على طلب شيخ الأزهر الشيخ عبد الله الشرقاوي، كما نقلت بعض أعمدته لاستخدامها في بناء قصر النيل، ولما دخلت القوات البريطانية القاهرة بعد إخماد الثورة العرابية عام ۱۸۸۳ اتخذوا من المسجد مخبزاً ، ثم حولوه إلى سلخانة لذبح الماشية اللازمة لإمداد قوات الاحتلال، ومنذ ذلك الحين أطلق الناس على مسجد الظاهر اسم "مدبح الإنكليز"، ورغم أن عملية الذبح توقفت منذ عام 1915، إلا أن هذا الاسم استمر سارياً على الألسنة لعقود عديدة بعد هذا التاريخ ، وفى عام 1918 عاد أخيراً اهتمام الدولة المسجد الظاهر، فتسلمته لجنة حفظ الآثار المصرية فأصلحت بعض أجزائه ورممتها وخاصة الجزء المحيط بالمحراب وجعلت منه مصلى ، أما باقي المسجد فقد حولته إلى متنزه عام، وفى عام 2007 بدأت الدولة مشروع ترميم كبير لإعادة جميع العناصر المعمارية للمسجد إلى ما كانت عليه وفقاً للتصميم الأصلي له.

وكأنما سيرة الظاهر بيبرس فهي كمسجده شهدت الكثير من سيرة وملك الظاهر بيبرس وأبنائه، من أمن ومكر.. ووعد وسوء ظن... وطموح وندم ظلا ملازمين له حتى النهاية.


مسجد السلطان حسن؟!

يواصل السيد بهنسي العزف بالكلمات فيرسم لوحة بديعة لذروة العمارة الإسلامية ودرة التاج بين مساجد مصر مسجد ومدرسة السلطان حسن اللذان يشكلان كياناً واحداً اصطلح على تسميته مسجد السلطان حسن إلى أسرة قلاوون التي حكمت مصر أكثر من مائة عام، وقد بويع السلطان حسن عام 1347، يقول المؤلف: تتطلع إليه من بعيد وهو ساكن في خشوع، ثم تسعى إليه صاعداً درجاته حين لتعبر بابه المهيب، ماراً بممراته المنحنية في هدوء والسامقة في صمت لتسلمك إلى أمان ساحته الفسيحة، تنطلق روحك من أعماقها فجأة إلى اللانهائية.

 وبينما كان السلطان حسن يعطى مزيداً من الاهتمام لبناء مدرسته ومسجده سقطت إحدى مآذن المسجد عام 1361، وتسبب الحادث في مقتل عدد كبير من الاطفال الأيتام الذين كانوا يدرسون فى كتاب المسجد.. وتشاءم الناس واعتبروا سقوط المئذنة نذيراً بزوال دولة السلطان حسن، والغريب أن حكم السلطان حسن انتهى بالفعل بعد سقوط المئذنة بثلاثة وثلاثين يوماً.

القاهرة الباريسية!

مهما قيل في شأن تاريخ الخديوي إسماعيل إيجاباً وسلباً، ومهما اختلف الناس والمؤرخون بشأن سياساته وطموحه الذى كان بلا حدود، ومهما قيل بأن القاهرة كانت قبله تحمل تاريخاً طويلاً وعريقاً، فإنه لا خلاف على أنها كانت ولا تزال مدينة تحتاج إلى من يقدر تاريخها ، ويزيل ما فعل الزمان بها، ويتخطى كل الحواجز والمستحيلات ليقدمها للعصر الحديث كأهم عواصم الشرق ، وكواحدة من أرقى عواصم العالم، وهو ما لم يستطع حاكم قبله أن يحلم به وأن يفعله في زمن قياسي ، ولذلك لم يكن غريباً أن تعد «قاهرة الخديوي إسماعيل » في نظر علماء تخطيط المدن واحدة من معجزات المدن العالمية التي تمت في ذلك العصر.

فحين تسلم إسماعيل باشا حكم مصر، لم يرض للقاهرة إلا أن تكون باريس الشرق، وعلى الرغم مما أصابه من ألم حين علقت الصحافة الأوربية على حلمه بأن يرى مصر قطعة من أوربا، حيث كتب أحد الصحفيين الأوربيين قائلاً: "خير لك أن تسمع عن القاهرة من أن تراها" ، إلا أنه أراد وأصر على تحقيق ما يريد، ولجأ إسماعيل باشا إلى صديقه نابليون الثالث امبراطور فرنسا  ليعاونه في إعادة تخطيط القاهرة، من خلال تكليف مهندس تخطيط المدن الكبيرة "يوجين هاوسمان" الذي بلغت شهرته الآفاق، عندما قام بإعادة تخطيط باريس التي صارت عاصمة النور والجمال في العالم بأسره، وعلى ذلك طلب إسماعيل باشا من هاوسمان أن يعيد تخطيط القاهرة لتعكس صورة باريس بمختلف معالمها ومبانيها وغاباتها ومسارحها، لتصبح مركز السحر والتحضر في الشرق كله.

وشمل تخطيط القاهرة الجديدة إقامة العديد من القصور التي لا تقل بأية حال عن قصور ملوك أوربا فخامة وثراء، فإلى جانب قصور عابدين والجزيرة والإسماعيلية التي سبق ذكرها، أقيمت قصور القبة والدوبارة والزعفران وغيرها، كما تم إقامة عدد من المباني العامة التي عكست بوضوح النهضة العمرانية والثقافية لذلك العصر من أهمها دار الآثار المصرية  الأنتكخانة أسوة بمتحف اللوفر بباريس، كما أقيمت دار الكتب أسوة بمكتبة باريس  الشهيرة، وإلى جانب ذلك تم إقامة دار الآثار العربية، ودار الجغرافيا الجمعية االجغرافية، ودار القضاء العالي، ودار الرصد "المرصد خانة"، والمدرسة الحربية، وتم ترميم العديد من الآثار الإسلامية مثل أسوار قلعة صلاح الدين، وأعيد بناء مسجد الإمام الحسين بالكامل ما عدا القبة والضريح، وتم ترميم مسجد السيدة زينب.

مصر الجديدة

وفى عام 1906 صدر مرسوم تأسيس ضاحية مصر الجديدة - والتي ظلت تحمل اسم هليوبوليس حتى الستينيات – وبناها المهندس البلجيكي "أرنست جاسبار"، واعتمد تصميمه على شق شوارع عرضها بين (30 - 40 متراً). الفكرة تعود إلى البارون والمستثمر البلجيكي "إدوارد إمبان"- والذي شاركه مشروعه أرمني مصري هو بوغوص نوبار ابن أول رئيس وزراء المصر - حين بحث عن أرض شاسعة تصلح كضاحية جديدة للقاهرة، على نمط ضواحي العواصم الأوروبية التي تستهدف استيعاب زيادة السكان مع تلافي حدوث اختناقات في المدن القديمة، واعترافاً بحسن اختيار المكان والإيمان بفكرته أبدع منشئ مصر الجديدة البارون "إمبان" قصره الذي خلد اسمه ومصر الجديدة في آن واحد، حيث يعد واحداً من أجمل المباني المعمارية في العالم، وكان البارون قد شاهد تصميم القصر عام 1905 في معرض هندسي بباريس، وهو للمهندس الفرنسي "الكسندر مارسيل".

أفخم مقهى للشاي في العالم

إن أردت أن تسترد لحظات من زمن جميل مضى، وألا تكتفي بالذكريات، وأن تمسك ببعض من سنوات غادرت، فأنت تبحث بالتأكيد عن مقهى "جروبي سليمان باشا " - بميدان طلعت حرب الآن - الذي تدرك بمجرد مرورك من مدخله البديع أن به أياماً باقية منذ ما يقارب مائة عام، وأن لقطات سينما الأبيض والأسود بعشرات الأفلام التي صورت به مازالت تحيا بين جنباته.

لم يكن "جروبى" بقلب القاهرة هو المطعم والمقهى الوحيد الذي أنشأه السويسري جياكومو جروبى (1863 - 1947) بمصر، فقد افتتح المحل الأول في شارع شريف بالإسكندرية عام 1902، وفي يوم الخميس 12 مارس 1925 وفى حفل أنيق افتتح جياكومو وابنه «كيلي مطعم جروبي الأشهر وقاعة الشاي "جروبي سليمان باشا"، أسفل واحدة من أشهر عمارات القاهرة الخديوية على طراز الباروك الأوربي، ولم يكونا يدريان أن المطعم والمقهى سيتحولان إلى قطعة من تاريخ القاهرة، فمن خارج المكان تستقبلك كلمة "جروبي" بحروف عربية ولاتينية وعام التأسيس -1924 - وتصميم يرجع للقرن التاسع عشر يجعلك تدرك منذ اللحظة الأولى أنك أمام موقع قاهري قادم من زمن جميل، لم يكن "جروبي" مجرد موقع يضاهي الأماكن الباريسية المماثلة، وإنما كان مشروعاً أسس ليرسي فكراً عصرياً جديداً في الترفيه، حيث كان يستقدم الفرق الموسيقية من كل أنحاء العالم، ويقيم الحفلات الراقصة ، ويعرض في حديقته الخلفية الأفلام السينمائية على شاشة كبيرة ليكون بذلك أول من أدخل السينما الصيفية بمصر، كما كان "جروبي سليمان باشا" نجماً في عدد لا يحصى من الأعمال السينمائية والأدبية.


حارة نجيب محفوظ

يواصل الكتاب إدهاشنا بسحر الأماكن، ليصل بنا إلى محطة حارة عُمدة الرواية العربية نجيب محفوظ، والحقيقة أن عالم أديب نوبل قد خلد نفسه بنفسه، وأضفى على الراوية العربية خصوصية أطلقتها إلى الساحة العالمية، ومن خلال ترجمة أعماله إلى كل اللغات عــرف العالم جامع الحسين، وقهوة الفيشاوي، وقرمز، وميدان بيت القاضي والتكية، والغورية، والحمزاوى، وبوابة الفتوح، والموسكى، وفندق الكلوب المصري، والأزهر، كما ترددت في رواياته كلمات المشربية والزقاق، والدرب، والعطفة، وغيرها من المواقع والدروب التي دارت بها الأحداث. وكانت المقاهي من أبرز المواقع التي تركت على شخصيته وإنتاجه أثراً ظاهراً، حيث لم تكن مجرد مكان لقضاء الوقت، بل كانت موطناً لتأمل الناس وتفاصيل الحياة وشاهداً على ميلاد كل أعماله ورسم شخصياتها، بل ووضع العبارات الملائمة على ألسنتها وفي ذلك يقول نجيب محفوظ: «لقد لعب المقهى دوراً كبيراً في رواياتي حيث لم يكن هناك نواد، فكان المقهى هو محور الصداقة، وفي طفولتي كنت أذهب للاستماع إلى شاعر الربابة، وأقف على باب المقهى أستمع إلى حكايات لا أدرك معناها بسبب صغر سنى في ذلك الوقت، لكنني تأثرت بها، وظهر هذا التأثر في أعمالي التي تناولت الحارة الشعبية مثل "زقاق المدق" وبعد ذلك كنت أجلس في المقاهي أتابع تفاصيل الحياة اليومية وحكايات الناس، لأن الواقعية تقتضى الاهتمام بالتفاصيل مهما كانت صغيرة، لقد جلست في مقاهي عديدة مثل "مقهى عرابي" ومقهى زقاق المدق، ولكن كان "مقهى الفيشاوي" الذي تأسس عام 1771 أقربهم إلي، وكثيراً ما ترددت عليه بانتظام نهاراً، حيث المقهى شبه خال، أدخن النرجيلة، وأفكر وأتأمل، كان جلوسي بهذا المقهى يوحى لي بالتفكير، كان خيالي يصبح نشيطاً جداً أثناء تدخين الشيشة فالمقهى عالم من الأنس وملتقى الأصحاب" .

برج القاهرة خديعة ناصر للأميركان

نواصل رحلتنا في عبقرية المكان وسحر القاهرة الذي لا يقاوم، حتى نصل إلى قلب نيل مصر العظيم، حيث برج القاهرة، هذا المكان يتجاوز حدوده المجردة، كبقعة من أرض أو كبناء يعلو، حاملاً رقماً أو مدوناً لتاريخ، قد يتجاوز ذلك إلى حيث الرمز والدلالة الأعمق، في أحيان كثيرة يصير للمكان قيمة معنوية تجسد لحظة من كبرياء أو احتجاج أو غضب أو مواجهة، هنا يذوب المكان في اللحظة الأبقى والزمن الذي لا ينتهي، وتزهو القاهرة بمواقع عدة تموج بمثل هذا السحر حين يحتوي المعنى أن تستوقف البصر من الأرض والبناء، ويشكل حالة تستدعى التأمل وترصد لحظة تستحضرها مواقف تالية وأعوام قادمة، وبين هذه المواقع ذات الخصوصية والرمزية يأتي "برج القاهرة" الذي حمل منذ تشييده معنى تجاوز قيمته المعمارية إلى مدى أبعد وأخلد.

في البداية لم يكن مقرراً لبرج القاهرة أن يكون على هذا القدر من البهاء والفخامة، فغاية ما كان ينشده جمال عبد الناصر ومجلس قيادة ثورة يوليو هـو بناء برج لاسلكي للاتصالات العالمية التي تقوم بها وزارة الخارجية وأجهزة الأمن القومي، ولم تكن الأموال اللازمة لذلك متوافرة حينذاك، ولكن عند مناقشة حلول أزمة التمويل وقعت المفاجأة وحدث غير المتوقع، فقد وصل إلى جمال عبد الناصر وبشكل سرى ثلاثة ملايين دولار من الولايات المتحدة الأميركية، ولم يفكر عبد الناصر كثيراً فقد أدرك أن المبلغ "رشوة مالية" تسعى إلى شراء ولائه وتحويل مساره، فقرر أن يكون الرد عملياً، وأمر بتخصيص المبلغ لتنفيذ مشروع يجسد رفضه واستنكاره للسلوك الأمريكي، وتحول مشروع برج الاتصالات إلى واحد من أجمل المعالم المصرية وأبرزها وأغلاها، ليس السياحي منها فحسب بل والسياسي أيضاً ... وفى 11 أبريل 1971 تم افتتاح برج القاهرة بعد خمس سنوات من العمل الشاق، وقد وضع تصميمه المهندس نعوم شبيب - الذي صمم مبنى مؤسسة الأهرام بشارع الجلاء - على شكل زهرة اللوتس الفرعونية بارتفاع ۱۸۷ متراً أي أعلى من الهرم الأكبر بثلاثة وأربعين متراً، ويتكون من ستة عشر طابقاً، وصممت قاعدته من الجرانيت الذي بنيت به المعابد الفرعونية تأكيداً للهوية المصرية العريقة، وتم تخصيص قطار لجلب الجرانيت من أسوان ومصنع أسمنت يورد إنتاجه بالكامل للمشروع، واشترك في بنائه نحو خمسمائة مهندس، وقد رفض المهندس نعوم شبيب  مصمم البرج والمشرف على تنفيذه رفض تقاضي أي مقابل مالي نظير عمله تقديراً للفكرة الكبرى والمشروع القومي.

ومن قصيدة سِيرَةُ الْعَلَامَاتِ وَالنُّجُوم لعلامة اللغة العربية الدكتور محمد جمال صقر، أستاذ النحو والصرف والعروض بكلية دار العلوم جامعة القاهرة أستعير هذه الأبيات:

سُلَّمٌ

أَمْ نَفَقٌ

أَمْ أُفُقُ

أَعْجَزَتْنِي الطُّرُقُ

يَا مَنَارَاتُ اسْطَعِي لِي أَرْسُمِ الْمَخْبُوءَ فِي أَشْجَانِهِ

مِنْ قَبْلِ أَنْ يُدْرِكَ عَيْنِي الْغَرَقُ

وَارْسُمِي آيَتَكِ الْعُظْمَى عَلَى الْأَطْلَالِ تَسْطَعْ

إِنَّ قَلْبِي صَعِقُ

وَإِذَا الْقَاهِرَةُ الْبَاهِرَةُ ارْتَاحَتْ لِقَلْبِي

أَزْهَرَتْ رُوْحِي

وَدَوَّى صَوْتِيَ

اسْتَنْبَطْتُ سِرَّ الْفَنِّ وَالْعِلْمِ

وَأَطْلَقْتُ سَبَايَا الْحُلْمِ

وِاخْتَلْتُ عَلَى الْخَيْلِ

وَلَمْ يَكْبَحْ هَوَايَ الْقَلَقُ
 

ينقلنا كتاب القاهرة سحر المكان بذكاء شديد للحظة الراهنة حيث ميدان التحرير، أبرز شاهد على أيام مصر ومواعيدها الكبرى في صناعة التاريخ، فلم يحظ ميدان في الشرق بالمكانة التي حظي بها ميدان التحرير، ولـم يـنـل مـيـدان آخر فرصته التي جعلته صانعاً للأحداث، ميادين كثيرة في العالم مرقت إلى التاريخ بحدث وقع بها، وميادين قليلة تلك التي كانت ساحات من خلالها عبر التاريخ وفيها دارت أحداثه ، ومن هذه الميادين القليلة ميدان التحرير الذي تشعر حين تتأمله وكأن أيام مصر الكبرى لا تسجل إلا إذا قصدته أو دنت منه أو عبرته. ويظل ميدان التحرير مقصداً لمصر حين تنازعها الأيام، وحين يعتقد الطغاة أنهم سادوا وأنها سكنت، وفى كل مرة تنتفض إرادتها يدرك الجميع أن الحياة قررت ألا تغادرها للأبد.

وهكذا لا يقدم كتاب السيد بهنسي تاريخًا أو تأريخًا، وإنما هو يقبض على اللحظة التاريخية الهاربة والرواية التاريخية المراوغة، يخضعها لصدق المعالم والملامح التي توشي بها الحوائط والجدران والممرات، ليطرح سؤال الضرورة والمخاوف المماثلة لقلق الشاعر اليونانى قسطنطين كفافيس عن مدينته الإسكندرية التي (يفقدها الآن): هل يصمد السحر والجمال وتبقى الأسرار والذكريات التي تبوح بها المساجد والقصور والشوارع والبيوت والمقاهي في القاهرة أمام تمدد السكان وتغول العمران؟!

يجيب كفافيس:

هذه المدينة ستطاردك. سوف تمشي

في الشوارع نفسها، تشيخ في الأحياء نفسها،

ستُصْبَغ رماديًا في هذه المنازل نفسها.

سينتهي بك المآل دائما إلى هذه المدينة.د. سمير محمود