القصة الأردية والصوت المفقود

رشيد أمجد صاحب طريقة نوعية في الكتابة حيث تتميز كتاباته بالكثافة والحيوية والتدفق، والتركيز على اللحظة ذات الكثافة الشعورية.
الكاتب أصدر ثلاث عشرة مجموعة قصصية، منها: المدينة التي يستيقظ أهلها ظهرا، موسم الزهور، موت ببغاء، خمار العشق، لذة الشوق وغيرها
الدخول في دهاليز الذاكرة الإنسانية بالاستدعاء المباشر للأقوال والأفعال والبحث عن الذات ومعنى الحياة

ترجمة د. هند عبدالحليم محفوظ

رشيد أمجد: كاتب وأكاديمي باكستاني ولد في 5 مارس/آذار 1940 بمدينة سرنجار بإقليم كشمير، وقد هاجر مع أسرته في سبتمبر/أيلول 1947 إلى مدينة روالبندي الباكستانية، حصل على الدكتوراه في الأدب الأردي، كما شغل منصب عميد كلية اللغات والآداب بالجامعة الإسلامية العالمية في العاصمة إسلام آباد، بدأ مشواره مع الكتابة بالقصة القصيرة عام 1960، حيث أصدر ثلاث عشرة مجموعة قصصية، منها: المدينة التي يستيقظ أهلها ظهرا، موسم الزهور، موت ببغاء، خمار العشق، لذة الشوق، ألم طائر، حلم إنسان، أغصان جافة في الربيع، والدخول في دهاليز الذاكرة الإنسانية بالاستدعاء المباشر للأقوال والأفعال والبحث عن الذات ومعنى الحياة.
ولديه ستة كتب نقدية منها الرمزية في القصة الأردية القصيرة، وهو صاحب طريقة نوعية في الكتابة حيث تتميز كتاباته بالكثافة والحيوية والتدفق، والتركيز على اللحظة ذات الكثافة الشعورية، حصل على جائزة الدولة التقديرية في باكستان عام 2006  عن مجمل أعماله.
ونلتقي هنا مع قصته "الصوت المفقود" لنتعرف على نموذج من كتاباته القصصية.
الصوت المفقود
في هذه المدينة الغارقة في الظلام، يعاني هذا الشاب القلق في الليل، يتقلب في فراشه يمنة ويسرة، يحلم بشراء قطعة أرض مدعياً أن الهدف من شرائها بناء منزل عليها، لكن الحقيقة أنه يريد شراء الأرض من أجل بناء مقبرته فوقها، وهو نفسه لم يكن مستوعباً حقيقة أن الموت أقرب إليه من شراك نعله، لكنه كان يرى الموت وهو يحوم حول الخرابات المكتظة بالجثث. وكان لديه تصور خاص عن القبر، فالناس ينفقون بسخاء على تشييد المنازل، لكنهم لا يفكرون في القبر، لكن نظرته للقبر مغايرة منذ الصغر، فكان مشغولا بتصميمه وزخرفته. وقد سيطر عليه هذا الهاجس منذ أن رأى المقبرة عن قرب أثناء جنازة والده، وارتسمت صورة القبر في ذهنه منذ ذلك الحدث، وشغلت صورة القبر مكانا مهما في ألبوم ذكرياته.
وصل المشيعون إلى منطقة المقابر، وشرعوا في الصلاة على والده، ثم وضعوا والده في القبر، وهنا صاح أحد الأشخاص قائلا: هيا تقدم لكي ترى وجه أبيك للمرة الأخيرة، وتلفت الناس إليه مشفقين عليه، وأمسك شيخ كبير بيده، وانحنيا لكي يريه جثمان والده، ولكن الفتى لم يتبين ملامح وجه أبيه، واكتشف أن القبر ضيق جداً، ويبدو جسد والده وكأنه محشور ومضغوط فيه. فالقدمان والرأس تلامسان جدران القبر. ويداه ترتعشان وكأنهما تستنجدان بالابن. وترسخت هذه الصورة في ذهن الابن في مراحل عمره المختلفة.
كانت الأم قد تزوجت من أحد الجيران، بينما الابن قد التحق بالمدرسة العليا وبالرغم من أن الأب الجديد لم يدخر وسعا في تلبية احتياجات الابن، لكنه لم يستطع أن يطفيء جذوة الكراهية في قلبه. فكلما رأى الابن هذا الأب الجديد يتذكر صورة أقدام والده التي تقطعت بها السبل في قبره. ويستحضر الابن شريط الذكريات أمام عينيه عندما كان والده يتأوه ليلا طالبا شربة ماء، وعندما يفتح عينيه باحثا عن أمه لا يجدها، فينهض ويجلب الماء لوالده. 
وتسللت إلى أسماعه همسات وضحكات قادمة من اتجاه سلالم المنزل أثناء جلوسه في غرفة والده. في تلك الليلة التي طلب فيها والده القليل من الماء، لكنه صمت إلى الأبد. كانت الأم تزعم أن والده قد مات في تلك الليلة، لكنه كان يعتقد أن والده قد مات قبل هذه الليلة بسنوات عديدة. وكأن جثته كانت تطلب الارتواء بالماء.
والآن وبالرغم من مرور السنوات وتقلبات الأيام بالابن الذي أصبح في عداد المهمشين والمسحوقين. لكنه مازال يشعر أنه نائم، يتذكر أقدام والده، وأن والده يسحبه معه إلى ذلك القبر الضيق، فهؤلاء الموتى قد تم حشرهم بالقوة في هذا القبر، ولكنهم تمردوا على هذا الوضع فنزعوا أكفانهم وطرحوها أرضاً وفروا هاربين. فكانوا يشعرون وسط هذا الظلام الدامس أن أقدامهم قد تبدلت جراء الضغط الشديد وملتصقة بجدران القبر، فحاول تصحيح أوضاعها، لكنها تحركت مبتعدة عنه.
عندما سمع صياح زوجته وانفعالها أدرك أن أقدامه تتحرك تحت البطانية، وأنه ما زال على قيد الحياة. وفجأة نظر إلى زوجته متسائلاً:
- من الذي يقطن في الشطر الأيمن من منزلنا؟
 - أختي صديقة
 - ما اسم زوجها؟
- الحاج عبدالغفور
- ومن يقيم في الجانب الأيسر؟
- السيد اتشن
- ومن يسكن في الجهة الخلفية؟
- عبدالمجيد
- ومن الأمام؟
- عبدالمنان
 - ومن فوق؟
- " مضجرة "..........      "  الله".
استمر في التحقيق " دون أن يفطن لغضبها": وتحت؟
"بعد برهة من التفكير": "المقابر". 

من القصص الباكستاني
الكاتب رشيد أمجد

 وبمجرد أن يسمع لفظة القبر يتذكر مشهد دفن والده في القبر، وقدميه المحشورتين، وينتابه إحساس بأن القبر يطبق عليه من كل الجهات الأربع. كان من الممكن أن تنكمش جثة والدة في القبر، لكنه تراءى كشخص آخر، ورغم مرور سنوات عديدة على هذا الحدث، لكنه تذكر أمه وهي تحمل قدحا من الحليب لتروي به ظمأ الشفاه العطشى لعشيقها، وتقطر همساتها في أذنه في مدخل سلم المنزل، بالتزامن مع مشهد قدمي والده المضغوطة في القبر.
وبعد برهة من الاسترخاء وهو مغمض العينين ينهض محتضناً زوجته ويعانقها. ولكنه ظل طوال الليل يعاني الأرق المشوب بالتوتر والقلق.
كان يعتقد أحيانا أن المشكلة تكمن في السرير الذي ينام فوقه، والذي يذكره بالقبر، وتارة يعتقد أن المشكلة سببها زوجته التي تعرض عنه كل مساء ثم تخلد إلى النوم. وفكر مراراً أن المشكلة تنحصر في ابنه الذي يجالس الكتب، وربما تتجسد الأزمة في هذا المنزل الذي يطوقه من اليمين الحاج عبدالغفور ومن اليسار السيد اتشن، ومن الخلف عبدالمجيد، ومن الأمام منزل عبدالمنان، ومن فوق ... لا أدرى من يسكن في الطابق الأعلى، لكن من المؤكد أن المقابر تقع أسفل المنزل، وقد اندلعت هذه المشكلات جراء التفكير في القبر، وكان هو صاحب فكرة شراء قطعة أرض لبناء منزل فوقها تحقيقا لرغبته، ويكون القبر أسفل المنزل في نفس الوقت.
ولكن، لم يكن في مقدوره صنع أي شيء، فقد ظل طوال حياته يعيش تحت سيطرة الآخرين ولا يستطيع الإفلات من قبضتهم. في الماضي كان يخشى أمه، واليوم يخاف من زوجته. كما يخشى الملائكة الذين سوف يحاسبونه في القبر بعد موته. خوف .. خوف .. خوف. كان كل طموحه في الحياة شراء قطعة أرض، وباقي الأماني لا تشغل باله، كالخزائن الممتلئة بالأموال، وسحب النقود وإيداعها، فكل شيء في المنزل لا يمثل له أهمية بما في ذلك زوجته.
يتذكر أحيانا والده، زوجته، أمه، حيث نشأت والدته في عائلة كبيرة ووافقت على الاقتران بوالده لاعتقادها بأنه غني، ولكن بعد الزواج اكتشفت أنه لا يملك شيئاً. وظل هذا الوضع ينغص عليها حياتها، وكثيرا ما كانت تحتقر والده لفقره وتوجه إليه ألفاظا جارحة تجعله يشعر بضآلة شخصيته ويترنح على الأرض كقطرات الماء التي تسقط على الأرض وتختفي. وكان يدرك بأنه الشخص الذي سقط على الأرض وليس والده. وكانت زوجته ترقص في الطابق السفلي ثم تدعوه لمشاركتها الرقص، ولكنه كلما حاول النهوض يتهاوى ويشعر كأن قدميه محشورتان بين جدران القبر، وترتعش شفتاه من شدة الحزن، ثم يسمع صوت سقوط حجر كبير.. ثم يليه حجر آخر، حجر ثالث، ثم إهالة كومة من التراب. وعندما ينهض من السرير يصبح جسمه مغبراً بالتراب، وجرحت قدماه بسبب احتكاكها بجدران القبر. لا يزال هاجس شراء قطعة أرض مسيطراً عليه، وتكرر نفس الحوار مع زوجته في الليلة التالية:
-    من يعيش على يميننا؟
-    من يقيم على يسارنا؟
وخلال هذا الحديث المتكرر أنهى ابنه المدرسة والتحق بالكلية، فقام بتغيير المقاعد القديمة في غرفة الرسم بمقاعد جديدة، كما وضعت سجادة مكان البساط، لكن حلم شراء الأرض ما زال ماثلاً أمامه. فكان يطلب من كل من يقابله أن يدله على قطعة أرض رخيصة لكي يبني منزلا، لكن أسعار الأراضي كانت مرتفعة مثل السماء، وكان كلما سمع أسعار الأراضي تضاءل حلمه، ودفن حلمه في داخله. وقد حاول مرات عديدة الإمساك بطائر الحلم لكن دون جدوى. فكان الطائر يفلت من المصيدة مبتعداً. حاول مرة أو مرتين اصطياده لكن في كل مرة يكتشف أنه يطارد سراباً. 
وتكرر هذا المشهد كثيراً، وتحولت الأحلام الجميلة إلى كوابيس، ألقى بها في سلة المهملات، ويتكرر هذا السيناريو يوميا منذ الصباح حتى صباح اليوم التالي:
-    من يعيش على يميننا؟
-    من اليسار؟
-    من الخلف؟
-    الأمام؟
-    فوق؟
-    وتحت؟
وفي صباح أحد الأيام أثناء تناوله الإفطار جاء إليه أحد الأصدقاء، وأخبره بالعثور على قطعة الأرض التي يبحث عنها، قائلا:
-    لقد ابتسم لك الحظ ووجدت لك قطعة أرض رخيصة.
-    فقال: لا حاجة لي بها.
نظر إليه صديقه مذهولاً: لقد بذلت مجهودا من أجلك أنت!
فقال له وهو يأكل الخبز الجاف بالزبد: ماذا أفعل بهذه الأرض؟
استطرد الصديق محاولا كظم غيظه قائلا: كنت تريد أن تبني منزلاً، بدل هذا البيت الذي تستأجره.
لزم الصمت برهة ثم قال: في الحقيقة لقد بنيت لي قبرا تحت هذا المنزل، وهو جميل وواسع وعريض، يمكنني أن أنهض وأجلس وأتجول فيه بكل سهولة ويسر.