القطار السوري الذي فات إردوغان
فات القطار السوري تركيا. يمكن لتركيا أن تكون شريكا في الحلّ أو التصعيد في سوريا، لكنه لن يكون في استطاعتها التحكّم وحدها بالوضع السوري، علما أن ذلك كان متاحا في مرحلة معيّنة، مرحلة ما بعد اندلاع الثورة السوريّة في آذار – مارس من العام 2011.
وقتذاك، كان الشعب السوري، باكثريته، يتطلع إلى دور تركي بناء يصبّ في تخليص هذا الشعب من نظام أقلّوي يجمع بين أسوأ ما في مدرسة حزب البعث وتخلّفه من جهة وبين سيطرة أقلّية علويّة على بلد يشكل السنّة نسبة نحو 75 في المئة من مواطنيه من جهة أخرى.
بدل العمل الجدّي على احداث التغيير المطلوب في سوريا، وكان ذلك متاحا، أضاع رجب طيب اردوغان وقته في معارك داخليّة صبت في التخلص من اقرب الناس اليه في حزب العدالة والتنمية الحاكم تمهيدا لإقامة نظام رئاسي على قياسه.
وفّرت تركيا، بسبب الطموحات الشخصيّة لإردوغان كل الوقت اللازم كي تدخل ايران على خط حماية النظام السوري من منطلق مذهبي. فعلت ذلك مباشرة وعبر ميليشيات مذهبيّة تابعة لها ولـ"الحرس الثوري" مثل "حزب الله" اللبناني وميليشيات أخرى افغانيّة وعراقيّة. عندما وجدت ايران أنّه لم يعد في استطاعتها حماية نظام بشّار الأسد، ذهب قاسم سليماني قائد "فيلق القدس" في "الحرس الثوري" إلى موسكو في أيلول – سبتمبر 2015. نجح في جرّ الجانب الروسي إلى المشاركة مباشرة في الحرب التي يشنّها النظام السوري على شعبه. في الوقت ذاته، وضعت روسيا حدودا للتدخل التركي في سوريا وتوصّل فلاديمير بوتين إلى تفاهمات مع إردوغان رسمت خطوطا عريضة لما يستطيع كلّ منهما عمله في ظلّ معادلة تمنع سقوط بشّار الأسد وخروجه من دمشق نهائيا.
استفاق الرئيس التركي متأخرا على الوجود الكردي في الشمال السوري عبر ما يسمّى "قوات سوريا الديموقراطية" (قسد). ما جعله يستفيق على ذلك شعور تركيا بثقة في النفس أكثر من أي وقت. يعود ذلك إلى عاملي انهماك النظام الإيراني في أزمة داخليّة لا سابق لها... وغرق فلاديمير بوتين في الوحول الأوكرانيّة. جعله هذا الغرق في حاجة إلى إردوغان أكثر من أي وقت.
هل يتمكن الرئيس التركي من تعويض الفرصة السوريّة التي اضاعها في العامين 2011 و2012؟ يبدو ذلك امرا مشكوكا فيه في ضوء ما يعتبره خبراء مغامرة كبيرة، خصوصا إذا سعى إردوغان، بمبادرة منه، إلى إقامة منطقة عازلة على طول الحدود التركيّة – السوريّة في عمق ثلاثين كيلومترا.
تحتاج مثل هذه المغامرة قبل كلّ شيء إلى توافق أميركي – روسي - تركي من اجل انشاء منطقة عازلة شمال طريق حلب - القاملشي المسمّى M4. ستعمل تركيا على ان تكون هذه المنطقة العازلة عربية مئة في المئة تقريبا وسوف تحاول اعادة ما امكن من لاجئين عرب سوريين من السنّة اليها. ستتسبب العملية اذا حصلت بموجة نزوح كردية الى جنوب الـ M4.
يصعب التكهن برد فعل الاكراد على حملة من هذا النوع تستهدف تهجيرهم من شمال الـ M4. يخشى أن تقابل ذلك حملات عنصرية يشنها الأكراد في شمال شرق سوريا. مثل هذه الحملات العنصرية الانتقامية ستجرّ في حال حصلت إلى سفك للدماء، إذ ستترتب عليها ردود افعال للعشائر العربية في شمال الشرق السوري. فشمال الشرق يعيش اصلا حال احتقان بين العرب والأكراد. يشكو العرب هناك من ممارسات عنصرية ضدهم من قبل الادارة الذاتية الكردية المدعومة من الاميركيين. يؤكّد ذلك ما حصل العام الفائت من اشتباكات ومعارك بين قوات الاكراد والعشائر العربية شرق الحسكة.
ليس مستبعدا أن يردّ الاكراد، في حال تعرضهم لهجوم واسع، بإطلاق الالاف من عناصر تنظيم "داعش" الإرهابي الموجودين في مخيمي الهول وغويران. سيؤدي مثل هذا التسيب الى عودة ظهور "داعش" بقوة على المسرح السوري. ليس سرّا أن هناك وجودا لـ"داعش" في الوقت الحاضر، لكنّ هذا الوجود محصور حاليا في المنطقة الممتدة من جنوب الفرات الى اطراف شرق مدينة حمص وتحديدا منطقة السخنة مرورا بتدمر.
في حال ظهور "داعش" مجددا وبشكل واسع في ظل التدهور والعجز الاقتصادي اللذين يعاني منهما النظام سيكون هناك تدهور عسكري خطير. مرد ذلك إلى أنّ الجيش النظامي السوري يعاني حاليا من عجز لدى النظام في توفير رواتب للجنود، بل أنّه عاجز ايضا عن اطعام عناصره المنتشرة في ارجاء سوريا. ستكون للتدهور الذي سيتعرض له جيش النظام نتائج كارثيّة من بينها تسيب امني خطير في كامل ارجاء سوريا، خصوصا في المناطق التي تخضع للنظام. بكلام أوضح، سيؤدي ضعف النظام وفشل الدولة الى زيادة الإقبال على الانخراط في صفوف التنظيمات المتطرفة لانها ستكون الطرف الوحيد القادر على تأمين العمل والحماية للمجتمعات المحلية.
في الأصل، لم يجبر احد تركيا على لعب دور في سوريا في ضوء اندلاع الثورة الشعبيّة، وهي ثورة حقيقيّة وصادقة في الوقت ذاته. لكنّ تركيا تدخلت في سوريا بطريقة ارتدت عليها، إذ بات عليها الآن إعادة النظر في كلّ حساباتها، بما في ذلك حساباتها الكرديّة وتلك المرتبطة بالسوريين الموجودين في أراضيها. الأكيد أن التفاهم مع الروسي ليس كافيا لشن عمليّة واسعة. هناك حاجة إلى تفاهم في العمق مع اميركا. لكن، هل هناك من يعرف ما الذي تريده اميركا في سوريا؟ حسنا، يوجد تفاهم أميركي مع الأكراد. ما آفاق هذا التفاهم في حين ليس في استطاعة تركيا قبول قيام كيان كردي لا في سوريا ولا في خارج سوريا؟
يجد رجب طيب إردوغان نفسه امام معادلة في غاية التعقيد والصعوبة. يدفع ثمن الموقف التركي المتذبذب من احداث سوريا. ما كان ممكنا قبل عشر سنوات أو احد عشر سنة صار في غاية الصعوبة الآن.