القمة الاقتصادية العربية.. ضحك كالبكاء

الحضور العربي في قمة بيروت الاقتصادية، أو عدمه بالأحرى، تجسيد للمزاجية في القيادات العربية.

يذكر اهلنا، انه خلال سني ثورة 14 تموز/يوليو 1958 او بعدها، دعت الدولة الشباب او الرجال، من سكنة القرى النائية والاهوار، من المواليد المشمولة بالخدمة الالزامية، والمتخلفين عنها، لمراجعة تجانيدهم بغرض سوقهم. فحضر الى احدى دوائر التجنيد في محافظة ميسان (لواء العمارة سابقا)، مجموعة من الشباب من سكنة الاهوار. كان حضور هؤلاء بعددهم غير القليل لافتا، وكان الوجوم والكآبة المخيمين على وجوههم وهم يعيشون الساعات الاخيرة قبل سوقهم، لافتين ايضا، ليس فقط لمن يراهم في دائرة التجنيد، بل ايضا لواحد منهم، او كبيرهم الذي له كلمة مسموعة بينهم، وكان هذا قد ساءه منظرهم واشفق عليهم واراد ان يخفف عليهم وطأة الاحساس بالفراق الطويل الذي سيعيشونه في الجيش، الذي ليس لديهم اية فكرة عنه، بعيدا عن اهلهم وبيئتهم، الاهوار وهي عالمهم الوحيد الذي لا يعرفون غيره. فقال لهم بما معناه "يااخوان لماذا الكآبة.. اذا وجدتم المعشر طيبا في الجيش، فاقضوا المدة المطلوبة، واذا لم يرق لكم المعشر فالطريق ليس مسدودا".. ويقصد ان بامكانهم العودة لاهلهم متى شاؤوا! وهكذا حسم هذا الرجل "الحكيم" الامر وهوّنه عليهم. وكان ضابط التجنيد، يسمع ويهز يده، ولا يعرف كيف يجيب هذا الرجل او يضيف الى "حكمته" ما يعززها او ينقضها!

تذكرت تلك الواقعة التي استقرت في ذاكرة الناس، ممن يستعيدونها للتندر من وعي هؤلاء البسطاء وقتذاك، ووجدت انها ما زالت فاعلة في حياتنا السياسية، وعلى اعلى المستويات، بل تكاد تكون حكمة الرؤساء العرب، وهم يعالجون امر امتهم وفي اخطر مفاصلها التي تعز بها او تهان، ونقصد الاقتصاد لغة عالم اليوم الذي بات ينسحق فيه الفقير الضعيف لصالح القوي الغني.

لقد كان منظر العرب في مؤتمر القمة الاقتصادية الذي عقد في بيروت مؤخرا يعكس حقيقة وضعهم المزري، اذ حضر زعيمان فقط من اصل 22 زعيما او اكثر. وقد انتهى المؤتمر او القمة كما وصفت بمقررات لا ندري من سيلتزم بها ومن لا يلتزم، لانها في الحالتين غير مؤثرة وغير منظورة في الواقع، لان مبدأ التكامل الاقتصادي لو كان مفعّلا اصلا، لما حصل "الربيع العربي" الذي اخترقت من خلاله قوى الظلام نسيج المجتمعات العربية، بعد ان ثارت الناس رفضا للجوع والفقر، وليس لاستدعاء مجاميع التكفيريين والظلاميين، بينما الاموال العربية تستثمر في بنوك العالم الغربي وغيره، والشباب العربي الذي يعاني قسوة البطالة والعوز صار يفكر بالثورة وايضا بالانتقام من نفسه ومن بلدانه، وهو ما تحقق فعلا، بعد ان تداعت الدول العربية تحت ضغط الجماعات الارهابية التي انجبها هذا الواقع المزري، وغياب الامل وضعف الدول وفقدان الثقة بها من قبل الشعوب.

لقد تصور ذلك القروي "الحكيم" ان الخدمة العسكرية محكومة بمزاج الفرد، فاذا ما وجد نفسه غير منسجم ومرتاح في وحدته، فان مغادرتها امر يسير، وان الامر برمته لا يستحق السأم والكآبة، طالما ان الطريق الى الاهل سالكة والسيارات موجودة في الشوارع!

ونجزم، ان الحكام العرب جسدوا بشكل دقيق ثقافة ذلك القروي، فهم يرون الحضور للمؤتمرات وتنفيذ وصاياها ومقرراتها امر يخضع لمزاج الحاكم وليس لمصلحة الشعب، لذا فهم يذهبون متى شاءوا ويتغيبون متى شاءوا ايضا، لانهم متيقنون من انهم لا يمثلون الشعوب بقدر ما يمثلون انفسهم وحكوماتهم المشكّلة على مزاجهم.

من حقنا ان نضحك كثيرا على واقعنا المزري هذا، ومن حقنا بالتأكيد ان نبكي اكثر، لاننا صرنا اضحوكة للعالم الذي يشاركنا ضحكنا على انفسنا، وهو بالتأكيد ضحك كالبكاء!