الكتابة العربية .. قصة شائقة

الكتابة العربية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالعقيدة الإسلامية وانتشارها والتمكين لها، وبالفن الإسلامي الذي نشأ للمسلمين وهم يجهدون في إعلاء كلمتهم.
الخط من جملة الصنائع المدنية المعايشة
ابن خلدون يرى أن الخط انتقل من اليمن إلى الحيرة

القاهرة : أحمد مروان
 يعتبر الكاتب إبراهيم جمعة أن قصة الكتابة العربية قصة شائقة متعددة الفصول، إنها قصة الخط الذي يكتب به الناطقون بالضاد في كل مكان، ومن حق هؤلاء أن يتبينوا كيف أصبح للعرب الحجازيين خط يكتبون به بعد أن كانوا أمة لا تعرف الكتابة ولا تدرك التدوين، وكيف تميز خط هؤلاء؟ وكيف تعددت صوره في النقط والشكل، وكيف أصبح الإسلام يخدم أغراضه، وكيف حل في الأقطار المفتوحة محل الخطوط القومية واتخذ فيها لكتابة اللغة المحلية؟ وكيف جود وارتقت أشكاله حتى غدت في بعض المواطن فنونًا إسلامية رفيعة؟ وكيف تقلص ظله في بعض الجهات بزوال سلطان العرب السياسي منها، وكيف وقع النزاع بينه منذ القدم وبين الحروف اللاتينية وهو النزاع الذي تجددت معركته في الوقت الحاضر ولكنه التجدد الخطر الذي يخشى من عواقبه.
إنها قصة، لا يجب أن يجهلها أحد لأنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالعقيدة الإسلامية وانتشارها والتمكين لها، وبالفن الإسلامي الذي نشأ للمسلمين وهم يجهدون في إعلاء كلمتهم ونشر سلطانهم وتدعيم كيانهم الاجتماعي والسياسي والفني – هي قصة الكتابة التي خدمت الإسلام في ذيوعه وما لبثت أن أضحت مظهرًا جميلاً من مظاهره يدخل لجماله وسموه في دائرة الفن الإسلامي.

نظرية التوقيف
تكاد تجمع المصادر العربية القديمة على أن الخط الذي كتب به العرب "توقيف" من الله، علمه آدم عليه السلام، فكتب به الكتب المختلفة، فلما أظل الأرض الغرق، ثم انسحب عنها الماء، أصاب كل قوم كتابهم، وكان الكتاب العربي من نصيب إسماعيل عليه السلام. وهذا الرأي لا يقوم على أساس من العلم أو سند من التاريخ الصحيح، اعتنقه العرب وأشاعوه لتأييد النظرية التي تذهب إلى أن "إسماعيل" أبو العرب المستعربة التي منها قريش أول من تكلم العربية – تعلمها من العرب المتعربة ثم تعلمها عنه بنوه.
ولقد فطن إلى ما في هذا الرأي من غثاثة المؤرخ الاجتماعي ابن خلدون الذي يقرر في "المقدمة" أن الخط من جملة الصنائع المدنية المعايشة، فهو على ذلك ضرورة اجتماعية اصطنعها الإنسان ورمز بها للكلمات المسموعة، والكتابة على ما هو معروف المرتبة الثانية من مراتب الدلالة اللغوية، تابعة في نموها وتطورها شأن كثير من الصناعات لتقدم العمران. والكتابة لهذا السبب تنعدم مع البداوة وتكتسب بالتحضر، لا يصيبها البدو عادة إلا مقيمين على تخوم المدينة.
ويشير القرآن الكريم في رحلتي الشتاء والصيف إلى تلك الأنحاء، وكانت تقوم بهما "قريش" بقصد التجارة والكسب في الجاهلية، فأفادت منهما شيئًا غير يسير من أسباب الحضارة ومظاهر العمران.
النظرية الجنوبية
وشاع بين العرب كذلك أن خطهم مشتق من "المسند" الحميري، وأصحاب هذا الرأي سواء القدماء أو من المحدثين، لا يستندون إلى دليل مادي، فليست هناك علاقة ظاهرة بين خطوط "حمير" في اليمن والخط العربي الذي انتهى إلينا.
ويرى ابن خلدون أن الخط انتقل من اليمن إلى الحيرة لما كان بها - أي بالحيرة - من دولة "آل المنذرط نسباء التبابعة اليمنيين في العصبية، والمجددين لملك العرب في العراق، ثم يذهب في زعمه إلى أبعد من ذلك فهو يرى أن الخط الذي انتهى إلى قريش فكتبت به في الإسلام متصاعد إلى الحيرة من اليمن ثم منحدر من الحيرة إلى الحجاز.
أما النظرية الشمالية (الحيرية)، فهي عربية أخرى يذكرها عدد من المؤرخين العرب وعلى رأسهم البلاذري. وهذه النظرية تحاول أن تفسر كيف انتهت الكتابة من الحيرة إلى الحجاز، ونحن نستسيغ أن تكون الحيرة مركزًا من مراكز تعليم الخط العربي في وقت ما، لأن خط العرب الشماليين انتهى في وقت من الأوقات إلى هذه البقعة وهو يرحل رحلته من موطنه الأول (ديار النبط) إلى الحجاز.
يقول المؤلف: "انتقال ظاهرة ثقافية كظاهرة الكتابة هذه أمر يكون بطبعه بطيئًا يصعب أن نتميز فيه أشخاص الناقلين، على أننا نستطيع أن نستفيد من الرواية شيئًا آخر مهمًا، فعلى فرض أن شخصية بشر هذه قد وجدت فعلاً وكلفت نفسها هذه المهمة العسيرة فلا بد أن تكون قد عاصرت (سفيان وحربا) ولدي أمية. ومعنى ذلك أن الكتابة العربية لا بد أن تكون قد رحلت رحلتها إلى الحجاز في خواتيم القرن الخامس الميلادي.”

غلاف الكتاب
بعد أن كانوا أمة لا تعرف الكتابة 

النظرية الحديثة
وعلى الرغم من اختلاف الآراء في شأن الأصل الذي اشتقت منه الكتابة العربية الشمالية (التي هي كتابتنا الآن)، فإنه يكاد يكون هناك اتفاق على أمر واحد هو أن العرب لم يصيبوا دراية بالكتابة إلا حيث كان لهم بالمدنية اتصال. وقد كان اتصال العرب بالمدنية نتيجة لانتجاعهم تلك الأطراف الغنية المحيطة بشبه الجزيرة حيث خرجت بعض القبائل العربية عن طبيعتها البدوية وعرفت نوعًا من الاستقرار وأخلدت إلى حياة جديدة واتخذت أساليب الحضر في كثير من طرائق المعيشة ومظاهر العمران. وعظم شأن هذه القبائل بضعف الدولة الرومانية والأمم المتمدنة المجاورة لها بوجه عام، وبفضل ما كسبته لنفسها بمرور الزمن من مران على القتال والتجارة.
وابتدع هؤلاء لأنفسهم خطًا اشتقوه من الخط الآرامي هو الخط الذي نسب إليهم فعرف بالنبطي، والمرحلة الثانية مرحلة انتقال من الخط الآرامي المربع إلى الخط النبطي.
وقد أثبت البحث العلمي الدقيق أن العرب الشماليين اشتقوا خطهم من آخر صورة من خطوط النبط، وعلى نحو ما استعار النبط خطهم الأول من الآراميين استعار العرب خطهم الأول من الأنباط. والصورة الأولى للخط العربي لا تبعد كثيرًا عن صورة الخط النبطي، ولم يتحرر الخط العربي من هيئته النبطية بحيث أصبح خطًا قاتمًا بذاته إلا بعد أن استعاره العرب الحجازيون لأنفسهم بقرنين من الزمان، ولا تزال في الكتابة العربية حتى يومنا هذا في بعض الإقطار، وفي كتابة المصاحف بوجه خاص، آثار نبطية لم يستطع أن يتخلص منها الخط العربي على طول الزمن.
وسواء كانت رحلة الخط عن هذا الطريق أو ذاك، فالثابت أنها تمت بين منتصف القرن الثالثث الميلادي ونهاية القرن السادس وهو الوقت الذي تم فيه تحول الخط العربي من صورته النبطية البتة إلى صورته العربية المعروفة التي نراه عليها الآن.
يذكر أن كتاب "قصة الكتابة العربية" لمؤلفه ابراهيم جمعة صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، عام 2017. (خدمة وكالة الصحافة العربية)