الكتابة المقنعة ومساءلة الوجود في 'عبوة السعادة' للأزهر الزناد

مجموعة الروائي التونسي القصصية تلهث فيها جميع الشخصيات وراء السعادة.

يعد الغموض في الأقصوصة أحد مقومات جماليتها الأساسية يغدو القارئ معه رحالة بين ثنايا النص صيادا للدلالة عساه يظفر بمفاتيح تفكيك اللغز وفهم ما انغلق من المقاصد. وتعتبر لحظة الذروة في الأقصوصة أو "القفلة" في نهايتها أكثر لحظاتها إغراقا في الغموض وأشد لحظاتها كثافة درامية. هذه المراوحة بين توهم اصطياد المعنى والدلالة وإدراك المقاصد والإقرار بالعجز عن الفهم مع تفاقم الحيرة والقلق هو بعض ما يعيشه قارئ مجموعة الأزهر الزنّاد القصصية "عبوة السعادة" (ط. Pop Libris، تونس 2023).. ولنا أن نتساءل كيف يمكن للغموض أن يدعم شعرية الأقصوصة ويؤسس لجماليتها؟ وهل كان النزوع إلى الإلغاز في هذه المجموعة القصصية مجرد أداة لدعم جمالية القص أم هو قناع تتخفى وراءه رؤى الكاتب ومواقفه؟

تتوزع مجموعة "عبوة السعادة" على اثنتي عشرة أقصوصة تلهث فيها جميع الشخصيات وراء السعادة... سعادة تتلون صورتها حسب الأزمنة والأمكنة ونوعية الشخصيات، فهي الكسب المادي والثروة حينا، والهدوء النفسي والسكينة أخرى. هي نشوة الانتقام للشرف المداس أو لحظات متعة مسروقة من الزمن تحت وقع حبوب مخدرة. قد تتلبس السعادة بطيف أنثى تمنح المهاجر شعورا بالدفء وتنسيه غربته، أو تتشكّل شعورا وهميا بنشوة الانتصار على الطبيعة وقهر الجوائح الكونية باختراعات جديدة.. كما قد تتجسد في مجرد شعور طفولي بالقدرة على الخلق عبر فقاعات تعلو في السماء بعد النفخ في "عبوة السعادة"..

ويعد مفهوم السعادة الخيط الناظم لجل الأقاصيص وكأن الأقصوصة الأولى الموسومة بـ"عبوة السعادة" تجسيد للفكرة التوليدية والمحور الرئيسي في المجموعة تتعالق بها بقية الأقاصيص، أو هي مدار فكر الكاتب ورؤيته للعالم. ويتنازع الكتابة في هذه المجموعة اتجاهان في السرد القصصيّ رئيسيّان هما الواقعية والغرائبية، وإن اختلفت أنواع القص أحيانا عبر استدعاء أشكال تراثية كالحكاية الشعبية والحكاية المثلية.

الغموض وجمالية الغرائبيّ:

تحضر في أقاصيص عديدة من المجموعة بنية القصة البوليسية والقصة اللغز مستلهمة السرد الغرائبي وأقنعة الرعب والفانتازيا. ولا يغيب الغموض مع الأقصوصة الواقعية والحكاية المثلية (القنفد – الحلزون المنتظر) حيث يبقى الرمز فيها حاضرا والغموض مولدا لقراءات متعددة.

تنفتح الأقصوصة الأولى "علبة السعادة" على حالة استقرار وتوازن في حيّ "لا يجد الشقاء إليه سبيلا" موسوم بحيّ السعادة. إلا أن حالة سكانه ستنقلب بعد فترة لتصبح مشحونة بالخصومات والخلافات والعداوات.. فتكثر حالات الطلاق والقتل والعقوق وينطلق إثر ذلك مسار بحث بوليسي يحاول فيه القاضي معرفة الجاني أو فهم أسباب هذا الانقلاب في سلوك أهل الحي. ورغم القبض على بائع لعبة عبوة السعادة وخروج المهرّب الذي باعها من البلاد، لن يعرف القارئ سرّ العلبة إلا جزئيا في نهاية الأقصوصة، حين يكشف الأب ما كتب على العلبة الأخيرة المتبقية ويتبيّن بعض أسرار صنعها ويفهم أسباب توريدها، فيدرك أنها مستوردة من مخابر بحث أجنبية وأنها قادرة على الكشف عن لاوعي مستعملها ورغباته المكبوتة ترسمها الفقاعات الطائرة في الهواء عند النفخ فيها. ورغم انكشاف اللغز في لحظة الذروة من الأقصوصة، وتقلص جزئي للغموض، يبقى القارئ على حيرة وقلق، تراوده أسئلة حول دوافع هذا الاختراع ومقاصده، حول قدرة الإنسان على مواجهة حقيقته وتقبّل ما يتخفّى في لاوعيه وفي لاوعي الآخر؟ عن معنى السعادة هل هي مجرّد أوهام يعيشها الإنسان وينخدع بها؟، هل هي مجرد "فقّاعة تملأ بما حضر وبما ظهر"؟

يتكثف الغموض في أقاصيص أخرى باعتماد الكاتب بعض تقنيات القصة البوليسية (دمية روسية – مراتيج صمّاء) وبضروب من التشويق ومن القص التكراري، يتابع فيها المتلقي محاولات الشخصيات كشف اللغز وتبديد الحيرة والوصول إلى فهم السر أو معرفة فاعل مجهول.. يتابع القارئ في "دمية روسية" عملية التحقيق لدى الشرطة والمخابرات وقد جنّدت كل طاقاتها للكشف عن سر دمية صغيرة يتجوّل بها رجل في مطارات العالم.. تستثمر في محاولات البحث كل التقنيات المتطورة من آلات الكشف بالأشعة وكاميرا خفية مع الاستعانة بالخبراء في جل مجالات التقنية والعلوم الحديثة. يبني القارئ مع السارد والشخصيات فرضيات أجوبة سرعان ما يتبين هشاشتها، إذ تكذّبها الأحداث. يتسارع نسق السرد حينا ويتباطأ أخرى فيزداد التشويق ولا ينكشف الغموض إلا جزئيا وفي نهاية الأقصوصة، فإذا "مراتيج" السرد التي اعتقد أنه فتحها وانتصر على حصارها "مراتيج صمّاء" وقد أحكم الكاتب غلقها متعمّدا الإضمار والإخفاء لا التصريح والإيحاء.. ورغم بعض نقاط الضوء في نهايات الأقاصيص ترشد المتلقي إلى بعض مسالك الفهم، فإن تعدد التأويلات الممكنة يسهم في ترسيخ الحيرة والشك.

ولعل الغموض يتكثف أكثر مع القصّ الغرائبي حيث يتمرد السرد على قوانين الواقع وعلى المألوف والمتوقع والمتداول.. يرتبط السرد الغرائبي دائما بما يمكن أن يحدث لا بما يتجاوز قوانين الواقع عكس السرد العجائبي. ويقترن الحدث الغرائبي في كل أقصوصة بمشاعر الخوف والرعب ويتحوّل غالبا إلى أداة للمسخ والتشويه حتى يغدو نواة للقلق الإنساني، إذ تنقلب في السرد الغرائبي قوانين الواقع فتكسر المتوقّع، وهو بعض ما نلاحظه في أقصوصتين على الأقل هما "لسان البحر" و"المشي بالمقلوب".

في أقصوصة "لسان البحر" ينفتح السرد على نسق بطيء يتابع فيه السارد حركات الصياد أمام البحر وهو يراقب الشصّ في انتظار بصيص ضوء يلمع في أعلى القصبة يعلن وقوع السمكة في فخّه. يطول الانتظار وتتعدد الخيبات، يكبر الطمع ويشتدّ الشوق إلى بريق أمل أو "فقاعة سعادة"... غير أن الحدث الأخير في الأقصوصة (لحظة الذروة) يتحوّل مشهدا مرعبا حيث ارتفع "لسان من الماء دقيق أسود داكن لا تتبين معالمه. وانفتح فيه فم قمعيّ ذو شفتين عظيمتين تشفطان كل شيء".. لينكشف إثر ذلك القاع فإذا هو "جماجم بيض كأنها الصخور.. وعظام منخولة.. وأفاع رقط في فحيح تتعارك على سكنى المحاجر في الجماجم الصدئة" ص 66.

بين بداية واقعية ونهاية غرائبية لا يسع القارئ إلا أن يعيد النظر في المتخيل النصي المفعم بالرموز لتفكيك الغموض

بين بداية واقعية ونهاية غرائبية لا يسع القارئ إلا أن يعيد النظر في المتخيل النصي المفعم بالرموز لتفكيك الغموض.. هل يختزل المشهد الأخير بما يحمله من إيحاءات الحقيقة الشوهاء: نهاية الإنسان الحتمية وعبثية الحياة؟ لئن كانت بداية الأقصوصة تشي برغبة الإنسان في احتواء الطبيعة واصطياد خيراتها (السمكة) وصراعه من أجل تحقيق حلمه، فإن المشهد الأخير يكذب هذا الحلم ويحوّله إلى كابوس فظيع..

يتخذ السرد الغرائبي أشكالا مختلفة في عدد من الأقاصيص بتوظيف الخيال العلمي ونتائج البحوث العلمية وضروب من المسخ. من ذلك أقصوصة "ضمير للبيع" حيث يرسم السارد صورة مخيفة لمخابر البحث العلمي تتطوّر فيها عملية بيع أعضاء البشر دون اعتبار أي معايير أخلاقية أو إنسانية.. ويتواصل الغموض قائما إلى لحظة النهاية ويبقى السؤال معلقا: هل سيبلغ هذا التطوّر العلمي حد القدرة على شراء الضمير البشري واستبداله في مخابر البحث حقيقة لا استعارة؟ ما حدود البشاعة التي تنتظر البشرية مستقبلا حين تنعدم القيم الإنسانية ويتضخم جشع الإنسان وطموحه لتحقيق مزيد النجاحات العلمية والمادية؟

ولا يختلف الأمر مع  شكل قصصي آخر في "القنفد" و"الحلزون المنتظر". وقد استلهم الكاتب فيهما أشكالا قصصية تراثية هي الخرافة والحكاية المثلية. وكانت الرمزية فيها عماد الاشتغال الجمالي، والشخصيات (حيوانية وبشرية) آلية رمزية في بناء العالم القصصي وفي دفع المتلقي إلى استجلاء ما توارى وتخفّى وراء العلامة.

تتوالد الحيرة لدى القارئ بعد اللحظة الحاسمة في الأقصوصة، وهي لحظة الذهول والخيبة و"رفع الحجاب عن عبثية العالم"، لكنها حيرة إيجابية إذ تجعل المتلقي يجد في بحثه عما تخفيه الكتابة المقنّعة من الدلالات وما غمض من المقاصد.

الكتابة المقنّعة ومساءلة الفلسفة:

لعل الملمح المهيمن على جلّ أقاصيص "عبوة السعادة" هو نزوعها إلى الذهنية واستثارة الفكر أكثر من استثارة المشاعر وهو ما لا يقلص من جماليتها وشعريتها. ويمكن رصد اتجاهين كبيرين  في الرؤى الفكرية المتخفية وراءها، اتجاه أول مداره مساءلة نتائج التطور العلمي والتكنولوجي وانعكاساته على حياة الإنسان في عصرنا، وثانيهما فلسفي وجودي محوره الرئيسي الإنسان في أبعاده الفكرية والأخلاقية والوجودية.

تجلو بعض الأقاصيص إدانة جلية لما قد يصل إليه الإنسان في مجال التكنولوجيا من نتائج تتحوّل معها "عبوات السعادة" أدوات تدمير للعلاقات الاجتماعية، تنقلب معها الصداقة عداوة والمحبة بغضا.. وتلغى في سبيل الربح المادي ووهم السيطرة على الطبيعة كل القيم الأخلاقية والإنسانية (قاهر الكوبرا- ضمير للبيع).. لا تحظى أشكال التقدم العلمي والتكنولوجي في هذه الأقاصيص إلا بالقليل من الرضى، في حين يسود الموقف المشكك في قدرة هذه المنجزات على تحقيق سعادة الإنسان، بل لعل هذا التقدم أضحى مصدرا للشقاء الإنساني يتفاقم معه الخوف والرعب من الآخر ويتضخم معه الشك إزاء أبسط الظواهر اليومية (دمية روسية).

تعيد بعض الأقاصيص طرح السؤال الوجودي والأخلاقي عن معنى الحياة ومقوّمات الوجود الإنساني سواء في الوطن أو في بلاد الغربة.. برسم حالة العبث وافتقاد "المعنى" يعيشها المهاجر في بلاد الغربة، فيغدو اسمه ووجوده أقرب إلى العدم، وهو ما يمكن رصده في أقصوصة "لا شيء" حيث تفقد شخصية المهاجر كل مقومات الحياة الكريمة، يفقد حتى الاسم، علامة الهويّة، في بلاد لا تعترف بالكائن المختلف.

أما في أقصوصة "المشي بالمقلوب"، ورغم القالب الساخر والهزلي المهيمن على السرد، فتتشكل خلفية فلسفية قوامها إيمان بضرورة التحرر من قيود القوالب الجاهزة ودعوة إلى التحرر من الجهل المستشري وتكلس اليومي، في محاولة لاستعادة قيمة العقل وإعادة النظر في المسلّمات والبديهيّات.. "حتى يكون قلب المقلوب عودة إلى الاستقامة" وفي ذلك ضرب من  الإحالة على الجدلية الهيجلية.

لكن هل يكون تعميق النظر في الوجود البشري واستكناه معناه كفيلا بالكشف عن الحقائق المتخفية في القاع؟ هل يمكن الإقرار أن كل بحث عن لحظة سعادة يغدو مجرد وهم حين تنكشف جماجم الموتى وحقيقة الإنسان المتخفية في أعماق لاوعيه؟ هل هي سوداوية في رؤية الكاتب ينتفي معها معنى الوجود ليكون العبث هو الذي يحكم المصير الإنساني؟ أم هو مجرد تذكير الإنسان بحقيقة أزلية يتناساها في ظل انشغاله المحموم بالواقع المادي؟

على سبيل الختام:

لقد عمد الكاتب الأزهر الزنّاد في مجموعته "عبوة السعادة"، وفي كتابة مقنّعة تتخفّى عبر المتخيّل القصصيّ، إلى استثارة مشاعر المتلقي وفكره سواء بتوظيف الفانتازيا والسرد الغرائبي أو بتكثيف الغموض والإلغاز أو باستعادة الرمز أداة لإعادة صياغة الواقع، وهي كتابة لا تزيد عبر الغموض إلا في شدّ المتلقي إلى النصّ وحثه على المشاركة في توليد الدلالات وخلق وعي جديد. قد تكون الأقصوصة مع الأزهر الزناد محاولة لبلورة رؤية فكرية وجودية تعكس تعبيرا عن رغبة كامنة في اكتناه جوهر الإنسان وفضح التحولات الخطيرة التي يرصدها في واقع المجتمعات اليوم.