الكلمة: الكنز والمفتاح

ماذا لو اختفَتْ الكلمات من العالم، لو اختفَتْ من الكتب، ومن رؤوسنا، بحيث نعرف أنها موجودة، لكنها في الوقت نفسه ضائعة مِنّا.
الكلمات هي أكثر شيء لا يَصِحّ أن يوصف بأنه "مُجرَّد
الكلمة حُرَّة، منطلقة، ألعابها لا تنتهي

الكلمة هي أداة الخَلْق الأولى.
ربما هي أوَّل مخلوق، ثم تحوَّلَتْ إلى أداة أُولى للخَلْق.
ماذا لو اختفَتْ الكلمات من العالم، لو اختفَتْ من الكتب، ومن رؤوسنا، بحيث نعرف أنها موجودة، لكنها في الوقت نفسه ضائعة مِنّا، لا نجدها، مثل أن تكون كلمة ما على طَرَف اللسان، على طَرَف البال، موجودة لكنها ضائعة مِنّا، كلنا عِشْنا هذه الحالة وما تُسبِّبه من حِيرَة وشعور غريب بالفَقْد، تَخَيَّل أن يكون هذا حالنا مع جميع الكلمات، حَتْمًا للجنون. 
تَخَيَّل العالم بلا كلمة واحدة، هل يمكن أن نُسمِّيه عالم؟
العالم مُكَوَّن من كلمات، أسماؤنا، أسماء الشوارع، الروايات، الحكايات، القصائد، كلامنا العادي، أسماء من نعرفهم، ومَنْ لا نعرفهم، الصدق والكذب، الخيال والواقع، الوقت والمكان، أنْ يكون النهار والليل وما فيهما بلا اسم، أنْ تضيع مِنّا كل كلمة نعرفها عن أنفسنا وعن أىّ شيء، تخيَّلْ الفوضى والانهيار الكامل، حتى أننا لن نستطيع أن نفهم ما يحدث وقتها أو نَصِفُه، فليست لدينا كلمات لنفْعَل.
يمكنكَ أن تتوَقَّع إمكانية وجود خطة للتعامل مع أي ارتباك يحدث في العالم، لكن لا يمكن أن توجد خطة للتعامل مع اختفاء الكلمات، كيف لأي خطة أن تكون موجودة في غياب الكلمة؟
لأهمية الكلمة، نحن نبحث عن أي طريقة لتكون موجودة بيننا، لغة الإشارة لفاقِدي النُطْق، كلمات محفورة أو بارزة لكفيف النظر، لا بد من توافر الكلمة بيننا، نحتاجها لهذه الدرجة، ونُسَخِّر حواسنا كلها للتعرُّف إليها، لأننا بها نتعرَّف إلى العالم، وبها يتعرَّف العالم إلينا. 
اكتشاف الكلمة يفوق أي اكتشاف آخر، و"الكلمة"، واكتشافها، شيء يختلف تمامًا عن قدرة الإنسان على النطق.
ولا يمكننا أن نَصِف الكلمات في أي سياق بأنها "مُجرَّد كلمات"، الكلمات هي أكثر شيء لا يَصِحّ أن يوصف بأنه "مُجرَّد.."، ربما كل شيء في العالم "مُجرَّد"، ويظَلُّ مُجرَّدًا إلى أن تكْسُوه وتُعَرِّفه الكلمات.
أصعَبُ الأبواب وأبْعَدُها لا تُفتَح إلا بالكلمة، أبواب السماوات والأرضين، أبواب القلوب والعقول تفتحها الكلمة، كل باب من طبيعته أن يُفْتَح، وكل ما نعتقد أنه لا يُفتَح، دواه الكلمة، ومن ذكاء الكلمات أنه لا توجد كلمة واحدة حصريَّة، وإنّما كل واحد مِنّا يمكنه أن يحصل على كلمته الخاصة التي بها يَفتح أي باب يريد، فقط أن يتوَصَّل إلى الكلمة المناسبة.
الكلمة مفتاح حُرّ، للجميع وليس لأحد.
الروح والجسد يَنفِتحان لنا بالكلمة، وأقصد كل روح وكل جسد.
وأصعب الأبواب وأجملها هي التي مفتاحها كلمة، حتى في الحكايات الشعبية والأساطير، أجمل الأبواب وأصعبها، أروع الكنوز، وأقصد أي كنز، مادي أو مجازي، تُفْتَح بكلمة (أشهر كنز في التاريخ مفتاحه كلمة: افتح يا سمسم) من السهل جدًا العثور على الكلمة المناسبة، وبالقَدْر نفسه يصعب العثور عليها، هذا هو سِرّ الكلمة، إنها السَّهْل الصعب.  
الكلمة هي الكنز والمفتاح.
لا يوجد باب إلا وهنا كلمة تفتحه.
العالم في إحدى صوره ليس إلا أبواب مفاتيحها كلمات، أو أنه باب واحد مفتاحه كلمة واحدة.
يا للغرابة، أو أن هذا مُتَوَقَّع، الكلمة نفسها يمكنها أن تُغلق بابًا، ما كان شيئًا ليُغلقه، ويمكنها أن تُنهي أشياء، ما كانت لتنتهي.. إلا بكلمة. 
لماذا نهتم لهذه الدرجة بأول كلمة، وآخِر كلمة، الأولى في حوار عادي، أو رواية أو قصيدة أو فيلم أو مسرحية، وبالكلمة الأخيرة أيضًا في هذا كله، الحقيقة أننا نهتم أيضًا بالكلمات التي بين الأولى والأخيرة، كل كلمة مهمة. 

أول كلمة نسمعها أو نقولها قد تُحدِّد كل شيء، وآخر كلمة قد تُحدِّد كل شيء، يتغيَّر كل شيء بسبب كلمة ظهَرَتْ، أو كلمة لم تظهر.
ربما الكلمة هي أكثر شيء انتظرَه وينتظره البشر، حتى خلال اليوم الواحد، تبدأ أهميتها من أنها قد تجعل اليوم لطيفًا، وتُغَيِّر المزاج إلى الأفضل، إلى أنها قد تُغَيِّر حياة كاملة، هي الأكثر قُدرة على التأثير في أكبر عدد من البشر، يمكنها أن تفعل هذا في اللحظة نفسها، أو بعد سنوات، ويمكنها أن تمتد لمئات السنوات، لا تفقد تأثيرها، حتى أنها تُجدِّده.
كم مرة وقف ملايين في انتظار كلمة، وكم مرة اختلىَ شخص بمفرده ليقرأ كلمة خاصة مكتوبة له وحده، أو ليكتبها، كم مرة اختلَىَ شخصان ببعضيهما ليتبادلا "كلمة" تخصُّهما، بشكل شخصي أُفَضِّل "الكلمة" التي نختلي بها، معها.
الكلمة دليل إثبات، أهم توثيق لوجودنا، أكبر دليل على أننا جئنا في هذا العالم، ربما لهذا لدينا تلك الرغبة في الكتابة على الجدران والملابس وأكواب القهوة وجذوع الأشجار وفي صخور الجبل ورمل البحر، كل شيء، حتى الرسم في جدران الكهوف لم يكن إلا مُحاولَة للكتابة واكتشاف "الكلمة".
والكلمة مُتاحَة للبشر كي يتمكَّنوا من فِعْل الخَلْق، هي الأذكى، والأكثر قُدرة على الوصول، وهي أكبر حرية يمكن لأي أحد أن يحصل عليها.
كم مِنْ إنسان أحْيَتْه كلمة.
هناك آلاف اللغات في العالم، ولُغات تَخُصُّ أماكن وجماعات وشعوبًا، لكن توجد لغة واحدة للجميع، هي "الكلمة"، بحيث يمكن اعتبار أن هناك لغة وحيدة في العالم هي "الكلمة"، وما نعتبره لغات، آلاف اللغات، في كل مكان، ليست إلا لَهَجات تَتْبَع تلك اللغة الوحيدة.
وهي، "الكلمة"، لغة مفهومة بين جميع الكائنات، البشر والحيوان والنبات، وما يُسمَّى جماد، نتكلَّم إلى أشيائنا، الجماد، ونعرف أنه يسمعنا ويفهمنا، ونتكلَّم إلى الكلمات نفسها، وبديهي أن نكون متأكِّدين أنها تسمعنا وتفهمنا.   
الكلمة كائن حي، مُحِبٌ للحياة، لعوب، رشيقة، فيها من كل شيء في الكون، ومنها كل شيء في الكون، ولا شيء أكثر جمالًا وتألقًا من كلمة لائقة في وقت لائق، والشمس التي تظهر كاملة في موعدها ومكانها ليست إلا كلمة لائقة في وقت لائق، الكلمات ليس وسيلة للتعبير، هذا أقلّ ما تفعله، هي في ذاتها جمال، وغاية، الكلمات كائنات حيَّة، لها حياتها ووجودها الخاص.
هل قلتُ إن الكلمة يمكنها، حَرْفِيًّا، أن تنقذ حياة؟ هذا صحيح جدًا. 
ويظَلُّ ظهور كلمات جديدة في العالم شيئًا مُدْهِشًا بالنسبة لي، ولا أعتبر  ظهورها فقط لأن الإنسان يحتاج كلمات جديدة من وقت لآخر، وإنما تظهر لشيء في ذاتها، لأن لها نَفْس وروح وكيان ومشاعر وأفكار، لها حياة جاءت لتعيشها، وتُشارِكَها مع غيرها، والإنسان ضِمْنَ مَنْ تُشارِكَهم حياتها. 
الكلمة المُحِبَّة للحياة تُغَيِّر من شَكْلها ومعناها عندما تُغَيِّر أماكنها بين زميلاتها من الكلمات، تُفاجِئنا بشخصية جديدة في كل مرة، كل كلمة لديها الكثير ممّا يمكنها أن تُفاجِئنا به، بألف وجه وشُعور (فَكِّر في أي كلمة، في أماكن مختلفة لها، ومع كلمات مختلفة، وتَفَرَّج على ما تُفاجِئك به).
الكلمات تُحب أن تُغَيِّر الأماكن التي اعتدنا أن نراها فيها، ونحن نُصِرُّ أحيانًا أن نضعها في الأماكن نفسها، بالطريقة نفسها، نحرمها ونحرم أنفسنا من الاحتمالات الأخرى، من أن تكشف لنا أسرارها، لا نُغامر معها، بها، والكلمة بطبيعتها تحب المغامرة، والجموح، وأن تدخل التجربة، ونحن نحبسها في المعتاد، داخل الأماكن نفسها، حتى تَمَلُّ هي من نفسها، ربما لهذا اخترَعَتْ الكلماتُ كلمة مثل "المَلَلْ" لتقول لنا إنَّ بعض ما نفعله معها لا يُعجبها، يصيبها بالملل ويكاد يقتلها.
الكلمة حُرَّة، منطلقة، ألعابها لا تنتهي، تَتُوق لمن لديه القدرة على اللعب معها، وستكشف له العَجَب، ستُعطيه مفاتيحها، الكلمة مفتاح كل شيء، وفي الوقت نفسه لها مفاتيح، تبدو الكلمة متاحة، ويمكن لأي أحد أن يستعملها، هذا غير حقيقي، هي فقط توهمنا بذلك، هذا ضِمْن ألعابها، للكلمات مفاتيح، ومفاتيحها اللعب الجموح، المغامرة، الذهاب معها للمجهول، والدخول بها في أماكن تبدو لنا مخيفة، غير مطروقة، وغير مأهولة بالكلمات والجُمَل والمعاني، وهذا بالتحديد ما تريد الكلمة أن تدخله، وتُجَرِّبه، الكلماتُ أعطتنا هذه الكلمات: المغامرة، الجموح، اللعب، التجريب، وغيرها، وكلها مفاتيح الكنز: "الكلمة".