الماضي الاستعماري للعثمانيين حاضر بقوة في ليبيا وسوريا

مؤرخون يرفضون تسمية العثمانيين بالفاتحين، معتبرين أنهم ليسوا سوى غزاة ومستعمرين لا تختلف ممارساتهم عن ممارسات الاستعمار الفرنسي والبريطاني.
سجل العثمانيين في ليبيا من أغرب وأعنف صنوف الاستعمار
72 واليا عثمانيا حكموا طرابلس قضى 70 بالمئة منهم قتلا أو انتحارا
تركيا تستحضر 'أمجاد' العثمانيين في التغطية على التدخلات الخارجية

طرابلس - تتعالى أصوات في العالم العربي والإسلامي على ضوء التدخل التركي في سوريا وليبيا، منادية بمراجعة تاريخ حكم العثمانيين الذي اتسم في عدد من الدول الإسلامية بالعنف والقتل على خلاف الرواية التي تسوق لها تركيا بوصفهم فاتحين، بينما لا تختلف ممارساتهم في ذلك العهد عن سواها من الممارسات الاستعمارية.

وتستحضر تركيا في تدخلاتها الخارجية حاليا في كل من ليبيا وسوريا ما ترى أنها أمجاد تاريخية للإمبراطورية العثمانية مسوقة راوية التحرير للتغطية على البعد الاستعماري ولممارسات ترقى في معظمها إلى جرائم حرب سواء تلك التي حدثت في الماضي في التاريخ الحديث.

ووظفت في هذا السياق أدواتها في المنطقة من الأنظمة أو السلطات الموالية لها في الساحتين السورية والليبية ضمن دعاية لا تخرج عن سياقات الخداع والتضليل لتبرير ممارساتها أو للتغطية على أجنداتها وأهدافها في المنطقة العربية.

وغير بعيد عن هذا المنحى، أطلقت بلدية تاجوراء الواقعة شرقي العاصمة الليبية طرابلس، اسم السلطان العثماني سليمان القانوني على أهم الطرق الموجودة في المدينة الخاضعة لحكومة الوفاق الوطني الموالية لتركيا، في قرار يأتي مكافأة لأنقرة على دعمها العسكري السخي الذي قلب موازين القوى لصالح الميليشيات الاخوانية في مواجهة الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر.

وتقود تركيا حملة دعائية في سياق تدخلاتها الخارجية، مسوقة لأمجاد واهية لكنها تراها مدعاة للفخر تحققت خلال عهد الإمبراطورية العثمانية في الوقت الذي يراها آخرون غطاء للممارسات الاستعمارية التي لا تختلف سياقا ومضمونا مع تلك التي حدثت في عهود الاستعمار الفرنسي والبريطاني والايطالي لعدد من الدول العربية والإفريقية.

للغزاة الأتراك أدوات محلية في ليبيا.. منطق الوصاية التركية لا يختلف عن منطق الوصاية العثمانية
للغزاة الأتراك أدوات محلية في ليبيا.. منطق الوصاية التركية لا يختلف عن منطق الوصاية العثمانية

وتدعم تركيا حكومة الوفاق والميليشيات الإسلامية المتحالفة معها بالعتاد والمرتزقة السوريين منذ أعلن حفتر عملية عسكرية في ابريل/نيسان 2019 لتحرير العاصمة طرابلس من الإرهاب.

وقال رئيس بلدية تاجوراء حسين بن عطية الاثنين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إنه قرر "تسمية الطريق الذي يبدأ من منارة الحميدية الفنار وصولا إلى جزيرة الدوران المعروفة بجزيرة إسبان، باسم طريق السلطان سليمان القانوني".

وأوضح أن سبب التسمية يعود للعام 1551 حين أرسل السلطان جيشا لمساندة أهالي طرابلس في تحرير مدينتهم.

وذكر أن الجيش العثماني دخل تاجوراء من ناحية الحميدية وأعد الأهالي لمواجهة الجيش الإسباني الذي كان يتمركز في المدينة وتم تحرير طرابلس بعدها. ونوه إلى وجود مسجد في تاجوراء باسم القائد العثماني مراد آغا الذي كان على رأس الجيش أنذاك.

وتأتي هذه التسمية الرمزية تعبيرا من حكومة الوفاق عن ولائها لتركيا ومكافأة رمزية أيضا نظير ما تلقته من دعم عسكري حال دون سقوطها.

وتحمل التسمية أيضا على رمزيتها إيحاء بأن التدخل التركي دعما لحكومة الوفاق التي يهيمن عليها الإخوان المسلمين ممثلين بحزب العدالة والبناء، تحريرا في الوقت الذي تصنفه قيادة الجيش الوطني وأيضا دول عربية وغربية غزوا وانتهاكا صارخا للمواثيق الدولية.

دعوات لإعادة كتابة التاريخ العثماني

وتسوق الدعاية التركية للتدخل في ليبيا ولدعم الميليشيات الإسلامية هناك على أنه يُستمد من شرعية تاريخية وأيضا دينية، إذ تدخلت الإمبراطورية العثمانية قبل ذلك في كل من ليبيا وتونس تحت مسمى التحرير من الاستعمار الاسباني وتقول إنهما مدينتان للسلاطين العثمانيين.

وعلى ضوء الممارسات التي ترقى في جانب كبير منها إلى جرائم حرب في كل من سوريا وليبيا بفعل التدخل العسكري التركي، تعالت أصوات في العالم العربي لإعادة صياغة تاريخ العثمانيين في المنطقة العربية باعتباره "غزوا واحتلالا"، لا تحريرا كما تسوقه الرواية التاريخية التركية.

ومن أكبر المشكلات في تعامل العرب مع التاريخ العثماني الجانب العاطفي البعيد عن الحقائق، حيث عملت تركيا منذ سنوات عل طمس ممارسات استعمارية وتحريف للتاريخ سواء عبر المسلسلات أو غيرها من المؤثرات الحسية.

وفي الحقيقة لم يشتهر أهم السلاطين والأمراء العثمانيين، إلا بإعدام أبنائهم وأشقائهم وأصهارهم بدم بارد وتمّ وصفهم بالهمجية والبربرية، إذ كان قتل الأخوة مُباحا للظفر بالسلطنة ومُشرعا بشكل قانوني وكان لذلك آليات مُعتمدة ووسائل مُباحة.

غزو تركي لليبيا تحت مسمى 'التحرير'.. اردوغان يستنسخ تجربة الاستعمار العثماني لطرابلس
غزو تركي لليبيا تحت مسمى 'التحرير'.. اردوغان يستنسخ تجربة الاستعمار العثماني لطرابلس

وتفشّى استخدام هذا القانون الفريد من نوعه بدرجة كبيرة سعيا للحصول على منصب السلطان، لدرجة أنّ فترات كثيرة من تاريخ العثمانيين شهدت مخاوف كبيرة من انقراض العائلة العثمانيّة بسبب قتل الغالبية العظمى من أخوة وأبناء السلاطين، كما تشير إلى ذلك مصادر ومراجع تاريخية.

ويقول المؤرخ الطاهر أحمد الزاوي في كتابه 'ولاة طرابلس، من الفتح العربي إلى نهاية العهد التركي'، إن تاريخ العثمانيين في ليبيا من أغرب وأعنف تواريخ الاستعمار، نظراً لما تضمنه من اضطراب وصراع على السلطة وعنف وصل حد أن يندر موت أحد الولاة العثمانيين الذين حكموا طرابلس، إلا انتحاراً أو بيد غيره.

وتولى حكم طرابلس 72 واليا تركيا، قضى 70 بالمئة منهم بالقتل أو الانتحار، حيث يقول الزاوي عن عهود الحكام الأتراك لطرابلس "ابتدأ العهد التركي في آب/أغسطس سنة 1551 ويتسم هذا العهد بالظلم والفوضى وسلب الأموال وعدم التقيد بأي شريعة إلا ما تمليه إرادة الوالي".

وتصر ماكينة تركيا الدعائية على عدم التطرّق للأخطاء الفادحة التي ارتكبتها الإمبراطورية العثمانية بحق كافة الشعوب الإسلامية وأبقتهم قرونا طويلة بعيدا عن مواكبة التطور الذي بدأ يتسارع في الغرب أنذاك.

ويقول الدكتور عاصم الدسوقي أستاذ التاريخ المعاصر إن "العثمانيين ليسوا سوى غزاة ومستعمرين احتلوا بلاد العرب أربعة قرون مثلهم مثل الاستعمار الفرنسي البريطاني واستنزفوا ثرواتهم وأورثوهم الضعف والوهن". ويرفض الدسوقي تسمية العثمانيين بالفاتحين قائلا "لا يجوز وصف دخول مسلم لأرض شعب مسلم بالفتح".

وأمام هذه الحقائق التي تؤرخ بشكل علمي للحقبة الاستعمارية العثمانية للبلاد الإسلامية تعالت أصوات عديدة تنادي بضرورة إعادة كتابة التاريخ العثماني والنظر في الدعاية التركية.

تاريخ العثمانيين في ليبيا من أغرب وأعنف تواريخ الاستعمار نظرا لما تضمنه من اضطراب وصراع على السلطة وعنف وصل حد أن يندر موت أحد الولاة العثمانيين الذين حكموا طرابلس، إلا انتحاراً أو بيد غيره

والأسبوع الماضي تداول مغردون سعوديون صورا أظهرت لحظة قيام أمانة منطقة الرياض في المملكة، بإزالة اسم ثاني من حمل لقب الخلافة من آل عثمان السلطان سليمان القانوني من أحد شوارعها والذي كانت فترة حُكمه في العهد العثماني الأطول، إذ استمرت 46 عاماً.

وكانت محافظة القاهرة قد قرّرت حذف اسم السلطان سليم الأول في العام 2018 من أحد شوارعها بمنطقة الزيتون، باعتبار أنّه لا يصح إطلاق اسم مستعمر على أحد شوارع البلاد خاصة أنّه كان مسؤولا عن قتل آلاف المصريين.

الغرب يفتح ملفات العنصرية والرق والاستعمار

ويقارن باحثون بين ما يجري اليوم في الغرب من مظاهرات منددة بالعنصرية ضد السود والدعوات لإعادة فتح ملف الاستعمار، بما يجري في مجتمعاتنا العربية من استفاقة باتجاه إعادة قراءة التاريخ العثماني قراءة موضوعية وعلمية لتقييم مدى مصداقية الدعاية التركية.

والشهر الماضي أقدم شرطي أميركي على قتل مواطن من ذوي البشرة السوداء يدعى جورج فلويد ما أدى الى احتجاجات شعبية واسعة في الولايات المتحدة تنامى صخبها ليصل إلى شوارع بريطانيا حيث أقدم محتجون على تهشيم تماثيل رموز تخلد تاريخ بريطانيا العنصري في حق السود، حيث خلف هذا إرث مع العبودية جروحا لم تلتئم بعد.

وأقدم المحتجون البريطانيون على إسقاط تمثال برونزي يعود إلى تاجر الرقيق إدوارد كولستن في مدينة بريستول الإنجليزية احتجاجا على مقتل الأميركي الأسود فلويد من قبل رجل شرطة أبيض.

وتجمّع آلاف المتظاهرين الثلاثاء الماضي في مدينة أكسفورد الجامعية حول تمثال سسيل رودس، السياسي الاستعماري الذي كان يعدّ قطبًا في قطاع المناجم والناشط في القرن التاسع عشر في جنوب أفريقيا على وجه الخصوص.

وردد المتظاهرون "أسقطوه!" و"أنهوا الاستعمار" وذلك قبل جلوسهم قبالة التمثال صامتين، يرفعون قبضاتهم لمدة 8 دقائق و46 ثانية، وهي المدة الزمنية التي قضاها فلويد تحت ركبة الشرطي الأميركي.

ومع انكشاف زيف الدعاية لشخصيات تاريخية تم تخليدها ذكراها واعتبارها رموزا للدول التي حكمتها سواء في الغرب أو في عالمنا العربي، بات من الضروري إعادة كتابة التاريخ بطرق علمية بعيدا عن الدعاية المرتبطة بالأجندات السياسية.

فحقيقة سليمان القانوني وسلاطين الدولة العثمانية ليست تلك التي يتابعها المشاهد العربي عبر المسلسلات التركية التي تخدم أجندة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان السياسية، فالعثمانيون برأي مؤرخين وباحثين ليسوا سوى مستعمرين وغزاة لم تختلف ممارساتهم عن الاستعمار الغربي لدول عربية وافريقية.