
المتوكل طه يقف على محطات في مسيرة الشعر الفلسطيني
صدر عن دار الشروق للنشر والتوزيع، في الأردن وفلسطين، كتاب "في الشعر الفلسطيني - من الثورة إلى الحرب". وجاء الكتاب في مئة وستين صفحة، وتناول أربعة موضوعات رئيسية، شكلت محطات لافتة في مسيرة الشعر الفلسطيني، بدأت مع الإرهاصات الأولى للثورات الفلسطينية، مطلع القرن العشرين إلى وقتنا الحالي.
وكان إبراهيم طوقان، باعتباره أباً للشعر الفلسطيني، وهو الذي خلّق ترابيّة القصيدة المقاومة، أول ما تناوله الكتاب، وخاصةً قصيدته الفارقة "الثلاثاء الحمراء" التي تُعتبر مع قصائد أخرى للشاعر، السجلّ الأوّل للقصيدة العربية الحديثة في فلسطين، والتي هجست بالمقاومة، وراحت إلى فضاءات جديدة وموضوعات غير مطروقة من قبل.
أما البحث الثاني، فتناول الشّاعر عبدالكريم الكرمي (أبا سلمى) وخاصة المفاهيم الثورية في قصائده قبل النكبة والتي عملت هي الأخرى على تأصيل الثورة بمعانيها الشمولية، ليبدأ عصر الشعر الفلسطيني المفتوح على المواجهة والمقاومة والمناداة بالحرية والخلاص، فيما تناول البحث الثالث الشاعر محمود درويش كونه مدرسة استثنائية في مسيرة الشعر الفلسطيني، غير أن الكتاب تناول زاوية جديدة في شعر درويش وهي علاقته بمفاهيم السلام والتعايش وأوهام الحلول.. وعمل البحث على إضاءة هذه الجوانب بموضوعية أظهرت المواقف السياسية الكامنة في دواوين الشاعر. وخلص الكتاب إلى تناول ظاهرة الشِعر الفلسطيني في الأرض المحتلة- الضفة والقطاع، بخصوصيته واستثنائيته، لأنه نهض على مبدأ الضرورة، والكتابة واجبة الوجود، وصولاً إلى ما بلغه هذا الشِعر،عبر شهادة تفصيلية قدّمها الشاعر الباحث المتوكل طه، من خلال معايشته لهذه الظاهرة مباشرة، ليصل بنا إلى أن الشعر الفلسطيني الذي تكوّن، بميزاته وحداثته وخصائصه الجديدة قبل مئة عام، استقرّ الآن شعرا منغمسا في أتون الحرب المفتوحة على قطاع غزة والضفة الغربية، ما يفسّر ويوضح عنوان الكتاب.
وقد تميّز الشعر الفلسطيني أنه ذو خلفيات ومرجعيات كثيرة، بسبب الشتات مرة، وبسبب الأيديولوجية مرة أخرى، ولهذا فإن الشِعر الفلسطيني ليس نسيجا واحداً أو تجربة واحدة، فالتحديات المختلفة والقضايا المتعددة التي فرضت نفسها على هذا الشِعر، جعلت منه متعددَ الأشكال والأساليب والذروات، أيضا، بشكل يلفت النظر.
ويكاد لا يَجمَع بين هذا الشِعر سوى مقاربته للقضية الوطنية على تفاوت هذه المقاربة، إذ نجد حقا أن التجربة الشِعرية الفلسطينية في الشتات تختلف اختلافا بيّناً عنها في الأرض المحتلة، ففي الوقت الذي كانت فيه التجربة الشعرية في الخارج تتبنى قضايا سياسية وجمالية وشكلية معينة، كانت التجربة الشعرية في الداخل مضطرة ومجبرة على أن تتساوق والواقع الذي يفرض ذاته عليها، وكان الواقع فقيرا ومدقعا من جهة الجدل العقلي والسجال الثقافي، زمن الحروب والاضطرابات تقل السجالات، ولكن هذا الواقع كان يقدم أروع النماذج وأشدها قوة من جهة أشكال التضحيات وأساليب النضال.

إن القصيـدة التي ولدت في الأرض المحتلة بعـد احتلال العام 1967، كانت بصورة أو بأخرى، قصيدة الجماعة وقصيدة المكان وقصيدة التحريض بشكلها المهم، وبهذا الصدد يمكن القول إن الواقع كان يقدم نماذج مذهلة في عبقريتها وتعبيرها عن روح الجماعة، الأمر الذي جعل من القصيدة – بشكل عام، تظل أقل بهاءً وحضوراً من النموذج – بمعنى آخر، ليس هناك معادل موضوعي للحياة أبداً، الفن صورة مختصرة فيها حذف كثير وفيها اقتصاد كثير وفيها تعمّد كثير، وفيما نقدم الحياة نفسها مرة واحدة بكامل التفاصيل مشعلة جميع الأحاسيس، فإن الفن يكتفي من كل ذلك البهاء بإطار واحد يحاول تجميع الصورة الأولى.
وبعد العام 1992، وما جرى من زعزعة المفاهيم وموت بعض القديم وميلاد جديد آخر، وتغير المزاج واللغة والمصطلح والمرجعيات، وما طرأ على المجتمع الفلسطيني من تغيرات بنيوية، فإن القصيدة الفلسطينية في الداخل – حيث طعمت بأصوات وتجارب جديدة عليها – واجهت قضايا ومسائل أخرى مختلفة، كان عليها أولاً أن تتوازن؛ بمعنى البحث عن لغة جديدة وآفاق جديدة ومرافئ للعودة إليها، وكان عليها أن ترد بشكل أو بآخر على تحديات من نوع ثقافي لم تتعود عليه، كالعلاقة مع الآخر، والعلاقة مع السلطة، وكان عليها أيضا أن تقارن نفسها بالتجارب العالمية التي ذهبت بعيدا بالتجربة الشعرية.
وإن الشعر المقاوم ليس اختراعا فلسطينيا بالتأكيد، ولكنه ارتبط بهم مدة طويلة من الزمن وقد يطول الأمر دائماً، والشعر المقاوم يتميّز بأنّه يقوم على ركيزتين هامتين هما: الأرض والتاريخ، وهاتان ركيزتان خارجيتان تقومان أساساً على الفهم الفردي الذي لا يمكن له أن يخالف روح الجماعة أبداً، والشعر – كل شِعر – إذا لم يعبّر عن روح الجماعة في زمن ما ومكان ما فإنه يتحوّل إلى مجرد تسلية لصاحبه، من هنا؛ فإن مقاربة القصيدة الفلسطينية من الداخل والخارج معاً، حسب افتراضنا، سيجعلنا أقدر على الفهم والمشاركة ومن ثمّ التذوق.
كان شكل القصيدة ولغتها وصورتها الشعرية تعبيراً عن تغيّر تاريخي بالأساس، هذا التغير الذي خلق صورة شعرية هي جزء من رؤية العالم الذي تغيّر، هذا ما حاولنا أن نتتبعه وأن نلمسه وأن نتذوقه، كان في بالنا مناهج النقد ولكن – بالدرجة نفسها – كانت عيوننا وقلوبنا على النص.
والآن؛ وبعد هذا العدوان على غزّة، وبعد ما أفرزته نظرية الرعب الصهيونية من نتائج، وما آلت إليه الحال في قطاع غزّة.. سنرى، بعد أن تهدأ المدافع، واقعا جديداً مهولا ومخيفا وصادما، وسنقرأ نصوصا، وستُكتب أخرى، ستكون معجونة بالدماء والحسرات والحطام والهباء والدموع، كما ستكون مطعّمة بالعبقرية والأساطير والحدّة والمفارقات والتميّز والذهول.

وبالطبع، فإن غزة المحاصَرة العملاقة، الصامدة الصابرة التي تُباد عن بكرة أبيها وتقاوم، تتراءى خلف جبال الدخان والرّكام، مثل غلالة عملاقة، لكنها مدماة وترعف بنزيفها خلف السطور، وربما تشمّ رائحة الشوارع المُرهقة المحترقة وأهلها النازحين، المحشورين داخل حَلبة مُحاطة بالرصاص الطائش والقصف المجنون والجوع والأمراض.. ومع هذا، فإن قوّة الحياة في البلد ومواطنيه المُحاصَرين تتفجّر في النصّ، ببساطة وإصرار حاسم! وتكاد تلمس بيديك كل تفاصيل الحياة المتشابكة، بأحزانها وفجائعها وقطرانها وسخطها وأملها العنيد، وتلفحك سخونة الأشياء في كل مكوّنات لوحة الحياة، التي أكملها زملائي الشعراء بقصائدهم ونصوصهم التي هي بمقدار خصوصيتها فإنها تنفتح بل تنغمس في الشأن العام حتى جدائلها المبذولة للنار، والنهار الذي لا تغرب شموسه.
وأرى أنّ هذا النتاج ينشغل أيضا بالتأمّل الذي لم يقصد مبالغ الصوفية والعرفانية، على رغم انشغال الشاعر بالنجاة من القذائف والفناء، والبحث المضني عن الخلاص، ومع هذا، مال إلى الرؤية الصافية التي أوصلته إلى الحِكمة أو إلى المفارَقة،على رغم أسداف عجاج الموت والقصف والأحزان، ما عمّق المعنى وأخذه إلى تكثيف حارق، أو إلى تداعيات وفضاءات سوريالية غير معقولة، وتنفتح على آفاق مذهلة وخلاصات صادمة.
أما مفردات الشاعر، فهي مستقاة من المحرقة والجثث والخذلان، كما كانت تضجّ باللجوء والقتل والجسارة أيضاً! وفاضت بأسماء العديد من الشهداء، الذين ظلّ صوتهم في البحر، وكذلك صرخات الضحايا ونداءات الحرية والعائدين إلى الحلم، عاجلاً أم آجلاً.
إنّ شعراء غزة، بكل أسمائهم المبدعة، المرابطة الصامدة، هم الذين يجترحون نصّ البقاء في وجه الشطب والإلغاء، الفائض بالُلهب والتحدي، والبسيط مثل كلام الأمهات المُعجز.. هو ذاته الجريء مثل موسيقى غامرة لاهبة.
وأعتقد أن الشاعر الغزي خلال الحرب يشملنا بعباءته التي تمسّكت بإنسانيتها، رغم ما أصابها من شظايا وركام وسغب، وأكد لنا أن هدفه الأعلى هو الانتصار للإنسان والحياة، وأنه يتغيّا الجَمال والصدق.. وقوّة الحقيقة.