المثقف اليوم بين سلطة السائد ورهانات التغيير

كيف يمكن توصيف الواقع الثقافي العام اليوم، وكيف يتفاعل المثقفون مع السائد؟ أي رهانات وممكنات لتغيير هذا الواقع وفي ظل أيّ مشروع؟

    توفر العلوم الاجتماعية للباحث تعريفات للثقافة عديدة ومتباينة تؤكد أهمية الدور الذي تلعبه  في حياة الأفراد والمجموعات.وكثيرا ما يعوّل الباحث على تحديد مفهوم الثقافة في دراسة المجتمعات وتفسير سلوكاتها ومعتقداتها ونمط عيشها... ولعل اللافت اليوم لا كثرة التعريفات وتعدد التنظيرات حول الثقافة، بل هذا الكمّ الهائل من السخط والانتقاد والتنديد بما آل إليه الوضع الثقافي في نهاية القرن العشرين وبداية الواحد والعشرين وفي مواقف   نشهدها في كتابات غير عربية. إذ يفاجأ الباحث بعناوين كتب لفلاسفة وعلماء اجتماع غربيين مدارها على انتشار "الجهل الجديد" (كتاب دوكانك: الجهل الجديد ومشكلة الثقافة) أو"الهمجية في زمن علم بلا ثقافة" لميشال هنري، وقد نقرأ كتابا يحكي عن "بربرية جديدة" تجتاح العالم يقف فيه صاحبه على أطلال ثقافة منهارة (ماري دافيد : الذكاء الاصطناعي/ البربرية الجديدة).

فأن تخصص الندوات والملتقيات في بلادنا  لتدارس مشكلة الثقافة ليس من باب الترف الفكري والتباهي بالانخراط في حراك  ثقافي عام، بل هو ضرورة حتمية يقتضيها وعينا بما يشهده الوضع العالمي والوطني من تحولات كرّست ضروبا من الجهل الجديد و تشويها للعقول ونزوعا إلى التدمير الذاتي وعزلة للمثقف وغيرها من الظواهر الاجتماعية والثقافية التي تستحق الدرس والبحث.

كيف يمكن توصيف هذا الواقع الثقافي العام اليوم، وكيف يتفاعل المثقفون مع سلطة السائد؟  أي رهانات وممكنات لتغيير هذا الواقع وفي ظل أيّ مشروع؟

في تعريف الثقافة ووظائفها:

اتجهت بعض الدراسات المهتمة بالثقافي إلى محاولة التأليف بين تعريفات الثقافة الكثيرة والتي تجاوزت في نظر البعض 165 تعريفا محاولة تصنيفها في اتجاهين كبيرين: اتجاه يقوم على اعتبار الثقافة حصيلة القيم والمعتقدات والمعايير والرموز وكل المنتجات العقلية.. في حين يقوم  اتجاه ثان على توصيف الثقافة على أنها "نمط الحياة الكلّي لمجتمع ما، والعلاقات التي تربط بين أفراده وتوجّهات هؤلاء في حياتهم". ( مجموعة من الكتّاب: نظرية الثقافة،ترجمة علي سيد الصاوي، عالم المعرفة سنة 1997،عدد 223)

وقد اخترنا في تناول مسألة المثقف  التعويل على الاتجاه الأول والانطلاق خاصة من تعريف مشهور لتايلور في اعتباره الثقافة  "هي الكل المعقد من المعرفة والقيم والفن والأخلاق والقانون والعادات،وجميع القدرات والعادات التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضوا في المجتمع.كما تشمل الأفكار والاتجاهات والاختراعات التي يخترعها الإنسان لإشباع حاجاته المختلفة ".(ن.م. )

وهو تعريف يمكن أن نستخلص منه بعض الوظائف التي تنهض بها الثقافة عموما لعل أهمها تشكيل سلوك الأفراد وتحديد معالم شخصيتهم ومساعدتهم على التكيف مع الظروف المحيطة بهم اجتماعيا وطبيعيا. فهي تسهم في تربية الأفراد عموما وتحدد تطور المجتمعات. كما تعمل الثقافة على توحيد أبناء المجتمع الواحد في ما يسمّى بالعموميات الثقافية،  وتكسب المجتمع تميزه عن بقية المجتمعات بخلق شخصية قومية هي جزء من هويته وخصوصياته الثقافية..

في سلطة السائد أو الجهل الجديد:

يعنون ميشال هنري كتابه "الهمجية الجديدة: زمن علم بلا ثقافة" ناعيا هزيمة الثقافة أمام تطور العلوم.. أما توما دو كونينك   T.De Konink    فيتحدث عن "الجهل الجديد ومشكلة الثقافة "، معتبرا أن "الثقافة لم تعرف كيف تعرقل الهمجية والكوارث الاقتصادية والاجتماعية والسياسية "، ولم تمنع تفاقم هذه الشرور الأخيرة كالعنف والانتحار وانتشار المخدرات والتدمير الذاتي... في حين يرى آخرون أن "البربرية تجتاح اليوم عالم الإنسان وتعمل على تقويضه، وأن السمة الغالبة على الأعمال الثقافية هي حلول السلعة محلّ التحفة، والمنفعة محل الذائقة، والاستهلاك محل الابتكار، والتسلية محل الثقافة،والجماهير محل  النخبة، والنسخة محل الأصل".

بل خلصت عديد الدراسات إلى الإقرار ب"عزلة المثقف" اليوم و هامشيّته،و انتهت إلى الإعلان عن "نهاية المثقف". فإذا كانت صيحات الفزع هذه تصدر عن فلاسفة الغرب وعلمائه لتنعى وضع الثقافة في مجتمعات نعتبرها متقدمة علميا وحضاريا وثقافيا فكيف سنقيّم الوضع الثقافي في بلادنا ؟ هل يمكن وسم وضعنا الثقافي بأنه كارثي وهل نقول إننا نعيش أيضا على أطلال ثقافة منهارة ؟

    لا شك أن العديد من الأعطاب قد أصابت مجتمعنا اليوم وأنها تمثل أوراما تهدد البلاد عموما.. وهو ما يدعونا إلى محاولة توصيفها وتحليل بعض الظواهر المتصلة بها قبل البحث في البدائل. هل نعيش أزمة ثقافية ؟ كيف يمكن أن نقرأ المشهد الثقافي الراهن في بلادنا ؟؟

      إن نظرة سريعة وفوقية لهذا المشهد ستكشف حتما عديد المشاكل والإخفاقات التي لا يمكنها إلا تأكيد سمة التدهور و التأزم..فإذا كانت الثقافة في معناها الواسع (حسب تايلور)"هذا الكل المعقد من المعرفة والقيم والفن والأخلاق والقانون والعادات.." فنحن نشهد يوميا هذا التردي في مستوى القيم والأخلاق عبر تفاقم ظاهرة العنف بأنواعه وانتشاره في الشارع والأسرة، وتفاقم ظاهرة الانتحار والتدمير الذاتي بالإقبال على المخدرات أو الهجرة السرية (الحرقة) إلى تفشي الفكر الخرافي والسحري المعطل للمنطق.. كل ذلك أملا في مواجهة مشاكل الجسد وحاجاته المادية أو أعطاب الروح أو هروبا من واقع لم يستجب لحاجات المواطنين. هل استطاعت المعرفة التي توفرها المدرسة أو الجامعة و العلوم والآداب والفلسفة التي تنشرها أن تسلّح النشء والشباب ضد الفراغ الفكري والروحي،وأن تواجه هذا التيار المتفاقم من العنف وروح اللامسؤولية والنزوع إلى التدمير الذاتي أو السلبية؟

هل استطاعت سياستنا الثقافية، إن كانت هناك حقا سياسة ثقافية - أن تساعد الفرد والمجموعة على التأقلم مع الظروف والتحولات الاجتماعية والعالمية المحيطة به أو أن تخفف من حدّة الصدمات،وأن تحقق للإنسان نوعا من التوازن؟ هل وفرت له الغذاء الفكري والروحي الذي يرتقي بوعيه وإنسانيته ؟ ما الذي يوفره الإعلام العمومي (والخاص) غير ثقافة الترفيه والتخدير والتفاهة والترويج للاستهلاك والترفيه؟ ما الذي يجعل الجماهير تقبل على مهرجانات الغناء والتهريج وتعزف عن البرامج التي توفر المعرفة والفنون في شكل جاد؟

في نفس الوقت لا يمكن إنكار وجود حركية ثقافية هامة بدأت تتشكل ملامحها منذ سنوات يجلوها تكاثر دور النشر، وتطور ملحوظ في عدد الكتب المنشورة في كل المجالات ككتب السياسة والتاريخ والمذكرات..وفي كل الأجناس الأدبية خاصة الرواية.. كما يمكن ملاحظة تنامي الحراك الثقافي متجسدا في الأنشطة الثقافية التي تنظمها الجمعيات وبعض دور الثقافة، وتكاثر عدد الملتقيات والندوات في حرم الجامعات وخارجها يشرف عليها الجامعيون ويشارك فيها الباحثون في كل المجالات.

وتبقى مع ذلك الأسئلة قائمة وحارقة : كم عدد الذين يقتنون الكتب ويقرؤونها ؟ كم عدد رواد هذه الجمعيات ودور الثقافة ؟ أيّ جمهور هذا الذي يواكب الملتقيات والندوات في رحاب الجامعات والنزل؟ لا شك أن الخيبة والصدمة سيكونان كبيرين عند متابعة هذا الواقع الثقافي عن كثب رغم بعض المؤشرات الإيجابية أحيانا والمجهودات السيزيفية لمواجهة التكلس والجمود و محاولة بث الحياة في بعض الفضاءات وفي بعض الفئات الاجتماعية.

ولكي لا نلقي باللائمة على المتقبل والجماهير فقط، ولا نحمّلها وحدها مسؤولية الركود والجمود والتقوقع أو التدهور،علينا أن نتجه أيضا إلى من يدّعي قيادة هذه الجماهير أو يروم تغييرها عبر دعم العمل الثقافي. لابد من الإشارة إلى أوهام تستوطن عقول المثقفين تجعلهم يعيشون حالة اغتراب واستلاب،حللها بتوسع ومنذ أكثر من عقدين علي حرب في كتابه "أوهام النخبة أو نقد المثقف" لعل أهمها يتجلى  في هيمنة الخطاب الإيديولوجي عند المثقف ونخبويته وادعائه الوصاية على القيم والحقيقة وامتلاك مفاتيح النجاة والخلاص للجماهير..وربما هذا بعض ما يفسر عزلته اليوم وهامشيته أو شعوره بالغربة عن الواقع والعالم.

لكن.. متى سنتخلى عن البكائيات ولغة الندب والشكوى ؟هل نعوّل عليها لتغيير الواقع المتردي وبناء غد أفضل ؟ لا شك أن القراءة العميقة للواقع الثقافي والتعمق في تحليل أوجاعه وعلّاته  ستعيننا في تجاوز النقائص..إلا أن التغيير  لن يكون  إلا  بتصوّر واقعي وناجع  لعالم أفضل، وعبر فعل حقيقي وإنجاز ملموس لا عبر التهويمات والأحلام والكلمات..

رهانات التغيير / أو الثقافي المنشود:

يتعلق أول الرهانات بالمثقف عموما،إذ نرى أنه من الضروري التخلي عن العقلية النخبوية التي تفضي بالمثقف غالبا إلى عشق الذات وعبادة الشخصية،كما تفضي إلى تقسيم المجتمع إلى فئة تفكر (المثقفين) وأخرى تصغي وتنفذ.وذاك يعني تخلي المثقف عن منطق الوصاية على المجتمع وتجاوز الرؤية الطوباوية المثالية والمقولات المستهلكة والتهويمات الإيديولوجية.

   يقودنا هذا إلى تصور مختلف لدور المثقف يكون فيه كما يقول علي حرب "وسيطا منفتحا على سائر قطاعات المجتمع". وهو ما يقتضي منه حسن قراءة الواقع ومتابعة تحوّلاته،كما يقتضي منه ممارسة النقد الذاتي وإعادة النظر في البداهات،ليصل إلى تعرية التصورات الرائجة والأكاذيب، ومساءلة المفاهيم وإثارة أسئلة توقظ من السبات، وابتكار ممارسات فكرية جديدة وتقديم أفكار تستأثر باهتمام الناس في كل المجالات والقطاعات حتى نتفادى هذه الحرب الباردة بين نسقين ثقافيين :الثقافي النخبوي  مقابل الشعبي..والجاد مقابل التافه...(انظر عبد الله الغذامي : الثقافة التلفزيونية  سقوط النخبة وبروز الشعبي..) هذا المثقف الذي يقوم بدور الوسيط يمكن أن يمارس فاعليته الاجتماعية لا عبر الإنتاج المعرفي والعلمي والإبداعي والفني فقط وإنما عبر انخراطه في المجتمع المدني حيث يتسنى خلق فضاءات للحوار ولبناء قيم مشتركة ومناقشة القضايا أو لتشكيل الرؤى.

يمثل المجتمع المدني فضاء للتداول الحرّ حيث يتاح للأفراد والجماعات ممارسة الأنشطة الثقافية المختلفة ومناقشة القضايا العامة، وهو ما يقتضي أن يتم تطارح الأفكار التي تستأثر باهتمام الناس في كل القطاعات،وأن تطرح الأسئلة التي تبدّد الأوهام،وأن يتم إنتاج أفكار جديدة وابتكار ممارسات متجددة تتلاءم مع تحولات الواقع.

لقد أشار عديد المفكرين الذين تطرقوا إلى المسألة الثقافية ومنهم عبد الله الغذامي في كتابه "الثقافة التلفزيونية : سقوط النخبة وبروز الشعبي" إلى ضرورة استثمار منجزات العلوم التقنية والوسائط الجديدة ووسائل الاتصال المختلفة،إلى ضرورة ابتكار آليات جديدة للعمل الثقافي وتوظيف كل مبتكر من هذه الوسائط. أي أنه لابد من دخول العالم بشروطه وبمنطقه الجديد لتحقيق التفاعل الحي والإيجابي مع المجتمع وملاحقة تحولاته.

       إن ممارسة المثقف دور الوسيط الاجتماعي لا تعني التفاعل مع فئات اجتماعية دون غيرها.  بل هي  تقتضي أساسا توطيد الصلة بين مختلف مجالات الحياة الاجتماعية خاصة بين الثقافي والتربوي والإعلامي وذلك بانفتاح المدرسة على المحيط الثقافي وإشراك المتعلمين بانتظام في حضور الأنشطة الثقافية على أن يكونوا طرفا فاعلا في اختيارها أو في بناء برامجها وأشكالها.

كما يقتضي توطيد الصلة بين القطاعين الثقافي والإعلامي في تصور يقوم على الشراكة والتداول في تشكيل المشهد الإعلامي والثقافي انطلاقا من رؤى واضحة و أهداف دقيقة وبناء على إشكاليات منطلقها الواقع وتحدياته. لكن ألا يحتاج هذا التصور كي يتحقق  إلى تدخل السياسي وإلى سنّ التشريعات والقوانين ؟ ومع ذلك  لا يمكن إنكار نجاح بعض الجمعيات والمنظمات على قلتها في مواجهة هذه  التحديات.. مما يفنّد هذا الخضوع للإرادة السياسية ويمثل تحدّيا حقيقيّا  للعوائق القائمة.

في الختام:

هل يمكننا أن نطمع في تغيير المشهد الثقافي العام و إحداث تحولات جذرية بأساليب مهترئة بالية ودون إتقان لغة الخلق و الابتكار؟ دون نقد لممارساتنا الذاتية ودون تجديد آليات العمل.. دون إتقان لغة الشراكة والمسؤولية الجماعية ودون عقل تداولي متجدد؟  أن نحلم بالثقافة وأن نقاوم بالثقافة ذاك ما يوحّدنا.. لكن دون طوباوية مفرطة أو مثالية تهويمية...  بل بالعمل على تحويل الفضاء العمومي إلى فضاء للتفكير الحي والمبادرات الخلاقة والعمل المتقن وبناء المشاريع الثقافية التي تستجيب لتطلعات متجددة في عالم متحوّل متقلب...