المجتمعات العربية رهينة لثقافة الطائفية والتعصب

الكاتب السعودي أحمد الهلال اشتغل على عدد من القضايا المحورية التي تشغل الهم العام العربي الثقافي والاجتماعي وتثقل كاهله وفي مقدمتها الطائفية المقيتة.
لدينا اليوم الكثير ممن أسميتهم "طائفيون ضد الطائفية"
الحوار حتى ينجح في مجتمعاتنا العربية يحتاج إلى الاستقلالية والشعور بالمسؤولية الحقة من جميع الأطراف

يظل الهم الأساسي للكاتب السعودي أحمد الهلال متمثلا في مفهوم "المثقف" وهويته وتكوينه المعرفي والفكري، والاشتغالات التي يعمل عليها في ظل تنامي ظاهرة هلامية مفهوم المثقف التي ولدت طبقة من المثقفين الانطباعيين والسطحيين أو الانتهازيين، محذرا من خطورة مثل هذه الطبقة من المثقفين، ومؤكدا أنها مع الوقت قد تنشأ طبقة انتهازية طفيلية يكون حضورها في القنوات الإعلامية أو السوشيال ميديا. وقد أصدر الهلال أخيرا كتابه "لست من هذه الطائفة" الذي اشتغل على عدد من القضايا المحورية التي تشغل الهم العام العربي الثقافي والاجتماعي وتثقل كاهله وفي مقدمتها الطائفية المقيتة. وفي هذا الحوار معه نتعرف على أبرز القضايا والهموم التي يشتغل عليها. 
انطلاقا من كتابه "لست من هذه الطائفة" أكد الهلال أنه كتاب يحمل في طياته الكثير من القضايا التي يعيشها المجتمع العربي وأثقلت كاهله، وعلى رأسها الطائفية التي في ظني بدأت تأخذ منحى خطيرا لأني أراها تتطور ـ إن جاز أن نقول هذا ـ إلى صور ربما لم تكن المجتمعات العربية تعرفها قبل ثلاثين أو أربعين سنة، أو هي موجودة بصورها المعقدة هذه، ولكن بأماكن محدودة جدا في الوطن العربي، بمعنى آخر كانت الطائفية إن وجدت في المجتمع العربي ككل لها معنى واحد وأصحابها معروفون، أما اليوم فإنك قد تجد مثقفا عربيا أو حتى مواطنا عاديا يلبس اللباس الغربي ويتحدث عن حركات التنوير الأوروبية والديمقراطية والمجتمع المدني وعصر النهضة وما بعد النهضة ويصدمك بأنه يمارس الطائفية، أي لدينا اليوم الكثير ممن أسميتهم "طائفيون ضد الطائفية"، ناهيك عن الطائفية السياسية الموجودة في بعض الاقطار العربية، لأن الطائفية اليوم لم تعد حزبا أو جماعة إنما سلوك وثقافة تمارس أحيانا خارج الأطر التي عرفناها، وهنا مكمن خطورتها في ظني حينما تكون أشبه بالكائن الهلامي الذي كثيرا ما يتعاطها الإنسان دون أن يشعر بأنه يمارس صورة من صور العنصرية.
وعالج الهلال قضيتي الآخر والاختلاف من زاوية جديدة انطلاقا من مقولة الامام علي عليه السلام "الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"، وقال: هي مقولة إنسانية وحضارية بامتياز ونحن اليوم بحاجة إلى تفعيلها. لاحظ معي كيف يصف الإمام علي الإنسان بالعموم بأنه إما أخ لي في الدين مع ملاحظة أن الدين هنا كلمة عامة، فلم يحصرها في دين معين كالإسلام مثلا، إضافة إلى ذلك قرنها بكلمة أخ، فلم يقول على سبيل المثال صديق أو جار وغيرها، بل استخدم كلمة أخ لدلالة على الأصل الواحد، فالأخ هو من تشترك معه بصلب واحد من أب وأم أو أحدهما أو من الرضاعة، والصنف الآخر النظير أي الشبيه لي. ماذا يتضح بعد ذلك؟ يتضح أن الآخر هنا غير موجود، وأن الكلمة مفتعلة إلى حد كبير، وأنا أقصد بالآخر هنا بمعنى الضد الذي يبدو لي من الوهلة الأولى بأنه مختلف عني هوية ومعتقدا، لأن مقولة الإمام علي تدل على شراكة الإنسانية في أصل واحد وهنا تنتفي كلمة الآخر لتستبدل مكانها كلمتي الأخ والنضير، فتعدد الهويات ليست عقبة تجعلني على طرفي نقيض مع كل من له هوية مختلفة عني. 

أحد الأسباب الرئيسية في فشل ما سمي بالربيع العربي أن هذه الثورات ليس لها نخبها المثقفة التي تقود حركة الجماهير نحو بناء مستقبل أفضل

وحول وجود إمكانية حقيقية للحوار مع الآخر سواء داخليا أو خارجيا في ظل الاستقطابات والانقسامات الحادة التي تشهدها المجتمعات العربية طائفيا، وسياسيا وفكريا، أوضح الهلال: لا أريد أن أكون متشائما حتى أقول باستحالة الحوار، ولكن الحوار حتى ينجح في مجتمعاتنا العربية يحتاج أولا إلى الاستقلالية والشعور بالمسؤولية الحقة من جميع الأطراف المبني على المصلحة العامة مع شراكة الجميع بالوطن، وكل هذا لا يمكن أن يؤتي أوكله بغياب القاعدة القانونية للديمقراطية. 
وأستطيع أن أقول لك إن المجتمعات العربية رهينة ثقافة الطائفية والتعصب، وهي أكبر عقبة في تحقيق ما ذكرناه آنفا، ومن هنا الحوار يحتاج إلى لغة وثقافة على النقيض من لغة الطائفية ومشتقاتها حتى نطلق على ما نقوم به حوارا، وهذا الذي يجعل حوارنا مع الخارج أكثر ندية ومراعيا للمصلحة لأنه مبني على قوة الصف الداخلي وإلا أصبح الحوار مجرد ديكور لا قيمة ولا رجاء منه. 
إن طرح السؤال يشكل جوهرا لتحقيق الوعي، الأمر الذي توقف عنده الهلال، لكن هل الذهنية العربية الآن في ظل الاجتياح الهائل لوسائل الاتصال مواقع التواصل وشبكة الإنترنت يشكل طرح السؤال محورا مهما بالنسبة لها، وهنا قال "بات لدينا وتحديدا في السنوات الأخيرة سيل من الأسئلة التي لا تقف عند حد، وكأن السؤال مطلب في ذاته، ولهذا تجدنا نتنقل من سؤال إلى آخر دون أن نشبع أسئلتنا بالبحث عن إجابة حقيقية لها، بل ترى الإجابة جاهزة قبل طرح السؤال، وكأننا نقود سباقا ماراثونيا أيهما يصل أولا السؤال أم الإجابة؟ دون أن يدور في بالنا أن السؤال يسير متوازيا مع الجواب، بل قد نكون أشبه بالضيف في حلقة من البرنامج الشهير "الاتجاه المعاكس" حينما يجعل مقدم البرنامج من سيل أسئلته التي يحاصر بها ضيفيه، دليلا على نجاح البرنامج، الذي يبدأه بأسئلته الصاروخية ويختمه بأسئلة أكثر سرعة من الصاروخ! 
فحتى لو بدا أن المشاهد يستفيد من الحلقة تأتيه الأسئلة الصاروخية المتطايرة من هنا وهناك لتقتلع أي فائدة قد تبقى في عقله، ومع هذا أعلم ربما أن البعض الآن مستشيط غضبا من كلامي هذا، ومن هنا أنا لا أستغرب أن يشهر ذلك البعض حتى سيفه في وجهي مخيرني - بعدها - بين سلة السؤال أو ذلة الصمت، لأنه يرى كلامي هذا ما هو إلا دعوة للوقوف في وجه ثقافة السؤال، ودعوة لتكميم الأفواه، فما الضير في أن تشرع أبواب الأسئلة على مصاريعها، فالزمن كفيل بأن يبقي الصالح ويطرح الطالح منها، دون أي وصاية من أحد سواء كان مصيبا في نقده، أم جانب الصواب رأيه. 
ربما كان هذا الكلام صحيحا ولكن يجب أن نقرأ ظرفه الذي وجد فيه قراءة واقعية، أما ظرفنا اليوم فلا أعتقد أنه ينطبق عليه هذا الكلام، لأن فوضى الأسئلة في مجتمعاتنا العربية باتت جزءا من المشكلة وليس محاولة لفتح نافذة نحو الحل، يتشارك في هذه الفوضى المثقف وغير المثقف، الإعلامي ومن ليس له نصيب في العمل الإعلامي، وقس على ذلك الشرائح الأخرى في المجتمع. إننا أمام أسئلة تسير بك بسرعة "ما فوق الضوء" مبتعدة عن الجواب بسنوات ضوئية طويلة! أسئلة تجري بك نحو ذلك الوادي السحيق، الفاقد سبل النجاة، وهنا يجب أن نقلق.
وأشار الهلال "لو سئلت عن أبرز عيب يعاني منه المثقَّف العربيُّ، ويبدو ملازمًا له كظلٍّ يرافق صاحبه أينما اتَّجه، وهو يحاول منه الفكاك، أو لا يحاول لأنَّه قد لا يشعر به، إمَّا لغرور أصابه، فأعماه من أن يرى عيوبه، أو إحباط ويأس من أن تتغيَّر حاله، أو هو عجز أمامه، من جرَّاء ما هو متأصِّل به، ولم يكتشف بعد كيفيَّة الخروج من دوَّامته، وأنا هنا لا أتحدَّث عن فرد معيَّن من المثقَّفين، إنَّما أتحدَّث عن حالة عامة يعاني منها المثقَّف العربيُّ، قد يشذُّ عنها بعضنا بنسبة ما عن بقيَّة المثقَّفين، ولكن تبقى النِّسبة الكبرى محلَّ تساؤل، ومن ثمَّ بحث ودراسة. 

يجب على المثقف العربي أن لا يتوقع التغيير في زمنه هو فربما حدث التغيير بعد رحيله في سنوات أو عقود

فكِّر معي قليلًا، وقل لي: ما هو ذلك العيب الَّذي يلازم المثقَّف العربيَّ، من عصر ولادة مصطلح المثقَّف في الفضاء العربيِّ منتصف القرن الماضي تقريبًا، وهو العصر الَّذي بدأ فيه لأوَّل مرَّة تداول المصطلح، واتِّساع حضوره في المشهد الثَّقافيِّ، إلى يومنا هذا؟ قل لي الآن، فالأمر بدهيٌّ، لكلِّ ذي عينين! ذلك العيب الملازم له هو أنَّه لا يزال يعيش بدائية الفكرة، أي بداية المعرفة والتَّعاطي مع المصطلحات والأفكار الجديدة، وعلى رأسها فيما اعتقد مصطلح المثقَّف، الَّذي كان أهمَّ تحدٍّ واجه المشتغلين بشأن الثَّقافيِّ، كمؤثِّرين به وليس متأثِّرين، عاجزين عن تجاوز هذه البداية، ومع هذا عقدة البداية تطول، وربَّما تتشعَّب مع المثقَّف، ولكن لا خلاص من هذه العقدة لماذا؟ قد يكون البحث لا يزال جاريًا!
وضرب الهلال مثالًا على عقدة البدائية هذه، قال: حينما نأخذ مصطلح المثقَّف، ونبحث عن دلالة فلسفيَّة له من إنتاج المثقَّف العربيِّ، نكتشف بأنَّه لا وجود لأيِّ مفهوم فلسفيٍّ لذات المصطلح. وأنا هنا لا أنفي دور المثقف ولكني أحاول تشخيص حاله، لأن مسؤوليته في المجتمع كبيرة فهو الذي بيده توعية الجماهير على حد قول المفكر والفيلسوف المصري مراد وهبة، ومن هنا في ظني هو أحد الأسباب - إن لم تكن الرئيسية - في تردي حالة الوعي في المجتمع العربي. 
أما بخصوص حصار الحراك الثقافي في مجتمعاتنا العربية، فلم يكن تاريخ المثقف في العالم وبالأخص المثقف الغربي مفروش بالورود، فالمجتمعات الإنسانية لطالما كانت مشككة ورافضة للتغيير، ومن هنا يجب على المثقف العربي أن لا يتوقع التغيير في زمنه هو فربما حدث التغيير بعد رحيله في سنوات أو عقود. 
وعن الدور الذي ينبغي على المثقف العربي القيام به في هذه الفترة الحرجة من التاريخ العربي، قال الهلال: أولا وقبل الحديث عن دور المثقف الذي لا أشك أنه مهم في المجتمع ولكن دون وصاية، ليس للمثقف وصاية على المجتمع، المثقف يقوم بدور تنويري بلا شك، وحينما تتسع مساحة المثقف ويتحول من عمل فردي إلى تيار مؤثر في المجتمع وهذا مهم جدا في مستقبل المثقف ودوره، تتضح حاجة المجتمع لهذا الدور الذي يمثله المثقف التنويري الحقيقي وليس المثقف الزائف الذي بات حضوره في الفضائيات العربية وقنوات السوشيال ميديا ملحوظا في السنوات الأخيرة وما يقوم به من تزييف للحقيقة والكذب على المجتمع لأنه بكل بساطة متطفل على الثقافة والتنوير، بل بعضهم يرتزق على نشر الكذب والتزييف. 
ولا أكون مبالغا إن قلت إن أحد الأسباب الرئيسية في فشل ما سمي بالربيع العربي أن هذه الثورات ليس لها نخبها المثقفة التي تقود حركة الجماهير نحو بناء مستقبل أفضل، وذلك كان إما بسبب فشل النخبة المثقفة أو غيابها كتيار حاضر في المجتمع. وهنا تحضرني قصة الزعيم الفرنسي ديغول حينما قال له أحد السفراء العرب: فرنسا عظيمة لأنَّ الثورة الفرنسية صنعتها. فأجابه ديغول: لا، لم تصنعها الثورة الفرنسية، بل صنعها ديكارت. ومن هو ديكارت إلا ذلك الفيلسوف والمثقف التنويري الكبير، وهنا تكمن قيمة المثقف ودوره العظيم ويتبين إلى أي مدى نحن بحاجة إلى أمثال ديكارت في مجتمعاتنا العربية.