'المدينة والحروفية' في معرض للفنان محمد بكار

لوحات التشكيلي التونسي بها قديم يمثل علامة بصرية ثابتة ومصدر الهام تختلف فيه النظريات حسب اختلاف الطرح.

تتجول بين اللوحات فيأخذك سحر تشكيليتها حيث الفضاء المبهج في القماشة أو الخشب مجال تلوين أخاذ شخصياته الحروف وهي تفصح عن حالاتها من التجلي فكأننا في كون من موسيقى تهز الروح لترقص الحروف معلنة أبهى حالات الوجد والأخذ والذوبان تماما كأحوال الدراويش في ذروة الانجذاب..

هكذا هي عوالم الأعمال الفنية التي تخيرها الفنان التشكيلي محمد بكار في معرضه الفني برواق الفنون علي القرماسي (18 لوحة فنية) ضمن عنوان لافت هو" المدينة والحروفية".

حيث شكل من خلال الأعمال الفنية المعروضة وفق جماليات المخطوطات حيزا من رؤية تشكيلية عمل عليها طيلة عقود وفق اختيارات فنية عايشها تقول بالجمال المبثوث في فضاءات العمل الفني الذي يقدم فيه الحرف أشكاله الشتى في تناسق مع الألوان ليفضي كل ذلك الى مسحة من عبق التراث والمعني منه بالخصوص ما هو مخطوط ومحيل على القديم ولكن بروح مجددة وتنزع فيها هذه الاشتغالات الفنية نحو الجديد المتأنق في سياقاته الثقافية والحضارية وهنا تكمن خصوصية هذا المعرض الذي جاء بعد فترا غياب للفنان محمد بكار عن المشهد الفني ولكن بكثير من تواصله مع البحث والاصرار الفني على التجدد والابتكار...

حالات شتى من جمالية موزعة بين اللوحات وهي تنشد كنهها وجواهرها التي تنبع من موروث مخصوص وبه تعبيرية جامحة ولا ترضى بغير القول بالفن يبتكر بهاءه في عوالم الحروفية وتلويناتها الباذخة تقصدا لمكامن الجمال في ثقافة أصيلة في الفضاء العربي الاسلامي قديما وحديثا وهنا أيضا تبرز قدرات محمد بكار الفنية والحسية والذوقية في التوغل في هذه المسارات من التشكيل لتقديم فسيفساء فنية في تعدد اللوحات ولكنها تشترك في الجمال والسحر وحالات من شاعرية بينة فكأن اللوحات قصائد وكأن الفنان حامل رسائلها..

وبين القصيدة ورسائلها ومعانيها يندهش زائر المعرض لروعة هذه المزاوجة والمواءمة بين سحر مدينة ضاجة بالمعتق والبهي والراقي المتوغل في القدم والحضارة وبين عوالم من فتنة الحروف وهي تمارس دهشتها ورقصها وشجنها اليانع في ما يقابل كل ذلك من هوان وتداعيات وسقوط للأمكنة والمدن والشموخ العربي حيث ظلت البلاد العربي والمدينة العتيقة عموما في الوطن العربي مجالات حسرة ولوعة وبكائيات على مجد مهدد بالضياع ..و لعل الفنان محمد بكار بهذا المعرض الجميل والأنيق في مضامينه أراد مشاركة هذه المدن وأهاليها شجنهم عبر شخصيات مختلفة هي الحروف وكأننا على ركح فيه التشكيل بمثابة الدرامة وأمام جمهور مسائل وحائر وباحث عن الأصداء والرغبات في الانعتلق والصعود مثلما تتشكل الحروف في تصاعديات مختلفة ووفق معمار مميز في هيئاته وجمالياته...

أعمال فنية رائقة بتقنية الأكريليك على القماشة وعلى الخشب في معرض بحسب الفنان محمد بكار ضمن الهوية والعقد الاجتماعي في القديم والجديد وهو مسار لانجازات تشكيلية قادمة بين النحتي والخزفي وفيها التوظيف للتعبيرية عبر الحروفية خروجا عن الانشداد والنقل وبمثابة الاقلاع من منزلة الى منزلة أخرى عند الفنان.

هذا هو المعرض وهذا هو أسلوب الفنان محمد بكار الذي يسعى لاقامة معارض أخرى وفق عودته للعرض وبروح فيها الكثير من الرسائل والتعبير والافصاح عن أحلام قديمة ومتجددة...و بخصوص هذه التجربة والمعرض برواق القرماسي يقول "... تتعلق الحروفية مباشرة بالوجهة الثقافية والاجتماعية في  اطار العوامل النفسية للفنان فتوظف تشكيليا لغايات جمالية وتعبيرية نقدية وهما موقفان الأول داخلي تتحد فيه الحروف بوجدان الخطاط في منهاج قدسي والثاني خارجي يكون فيه الحرف مفردة تشكيلية خارج  اطار القياس بمعنى من معاني التعبير الذاتي وحسب الموقفين تبقى الحروفية في سياق تركيبها خاضعة لانساق ايقاعية تحمل ما بها من خاصية وجدانية.

وان كانت هذه الاعمال في هذا المعرض رغم ما جاء فيها من علامات ورموز واحالات فهي  تنبع من طراز المدينة العتيقة كترجمة عن نمط قديم يمثل علامة بصرية ثابتة الى مصدر الهام تختلف فيه النظريات حسب اختلاف الطرح .. يقودنا المنجز التشكيلي المعروض الى اختراق الطاهر المحسوس اذ لست هنا ناقلا لهندسة الأمكنة ولا لما تحمله التوليفات الاشهارية ولا الى الكيفيات التي عرضت بها السلع سواء داخل الدكاكين او خارجها.

فالمشهد "المكان" مرتبط "بالزمان" وهما سياقان داخل تعاقب الأجيال أي صيرورة تاريخية يستمد منها العقل موقفه للتعبير انطلاقا مباشرا مما يستنتجه.. ان الانشداد الدائم الى زيارة المدينة العتيقة يبعث في النفس الطمأنينة والراحة باعتبار تلك الأماكن تجليا مباشرا للجمال المطلق رغم ما في المدينة من اهمال وفوضى ورغم ذلك فانها تحمل مغناطيسا يثير المشاعر ويوقظ الوجدان.

هذا التعلق الغامض طبع لوحاتي بمشاعر التعاطف فانعكست الألوان بالضرورة على التكوينات الحروفية فاتسمت العلاقة بطراز قوامه صيرورة المدينة في علاقتها بجانب  الابداع  الفكري الحديث. وما تلك الانفعالات الظاهرة في المنجزات التشكيلية سوى انطباعات ذاتية تفتح للمشاهدين افاق التجديد والشرح والتأويل وما جاء من تعبير تشكيلي تتألف منه لوحاتي التي تمثل نصا أدبيا/تشكيليا يتمازج فيه الموشح بالأغاني التقليدية والموروث الحكائي بالعادات والتقاليد والطقوس والطراز المعماري/العمراني بالمحيط العام.".

معرض وتجربة ومجالات متعددة ضمن المسار الفني التشكيلي لمحمد بكار قولا بالفن في راهنه الثقافي والحضاري والوجداني الأصيل والمتجدد.