المسؤولية السياسية والأخلاقية للبرلمان الليبي

مهما كانت مخرجات وخرائط مؤتمر ألمانيا المنتظر، فهي بحاجة إلى جسم قانوني تعتمد عليه لمنحها مشروعية محلية.

فقدت ليبيا الكثير من مكونات الحياة السياسية بسبب تجاوزات الأجسام التي حاولت التحكم في مفاتيح الحل والعقد فترة طويلة وهي فاقدة لشرعيتها الفعلية، أو تسييرها في اتجاه يخدم فصيل بعينه من دون اعتبار لباقي القوى الحية على الساحة الليبية.

لكن هؤلاء أخفقوا بإمتياز في خطف دور البرلمان ككيان يحظى بمشروعية دستورية مباشرة، وفشلوا في الحد من صلاحياته الرئيسية. ولم تنجح جهود تقسيمه عمدا بين شرق وغرب في التأثير على نشاطه. فقد امتلك ديناميكية مكنته من تخطي مجموعة من الأزمات، وحافظت في النهاية على حيويته التشريعية وسط خلافات عصفت بكثير من الرموز السياسية.

أصبح البرلمان الجسم الوحيد في ليبيا القادر على ضبط جوانب عديدة من الإنفلات السياسي الحاصل، في وقت بالغ الأهمية، حيث تستعد الدول المعنية بالأزمة لتدشين مؤتمر دولي في ألمانيا، يأمل البعض أن يكون نواة لتسوية عملية تتماشى مع المعطيات الحقيقية في ليبيا، ويتحاشى أخطاء سابقيه في كل من باريس وباليرمو العام الماضي، وعسى أن تنتج عنه ورقة سياسية قابلة للحياة وتستطيع مواجهة التحديات المتراصة من الداخل والخارج.

يقع على عاتق أعضاء البرلمان بكل الانتماءات والولاءات دور تاريخي الآن في إنهاء المأساة التي تستثمرها جهات عدة وتقوم بتغذيتها بكل الوسائل كي لا تبرح مكانها القاتم. والأمل معقود على الكتلة الواسعة من الوطنيين في البرلمان لتصحيح الكثير من المسارات التي أدت إلى هذه النتيجة الكارثية، والمتمثلة في إطلاق يد الميليشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية المتحالفة مع بعض القوى السياسية. وقد حان الوقت محليا وإقليميا ودوليا للقضاء على جميع العناصر المتطرفة التي حولت ليبيا إلى ساحة لتصفية حسابات سياسية وعسكرية نادرة.

جاءت الدعوة التي وجهت إلى أعضاء البرلمان لعقد اجتماع ثان في القاهرة قريبا في وقتها، لاستكمال منجزات اللقاء الأول الذي عقد في يوليو الماضي، والتفاهم حول الآليات اللازمة للخروج من المأزق، وملء الفراغ الراهن الذي تحاول بعض القوى توظيفه لخدمة أغراضها.

ولم يعد الوقت أمام ما يسمى بكتلة طرابلس يسمح بالمهاترات والتجاذبات السياسية، لأن هناك من يريدون تخريب البرلمان وتعطيل دوره من دون تفرقة بين شرق وغرب وجنوب. الأمر الذي يضع على كاهلهم حملا ثقيلا، ويجب أن يكونوا على قدر المسؤولية في هذه اللحظات الحرجة التي يتم فيها ترسيم ملامح ليبيا في المستقبل.

مهما كانت مخرجات وخرائط مؤتمر ألمانيا المنتظر، فهي بحاجة إلى جسم قانوني تعتمد عليه لمنحها مشروعية محلية. وفي ظل الشكوك التي تحيط بمجلس الدولة وحكومة الوفاق وولاءات كل منهما الخارجية المشبوهة، أصبح البرلمان القناة القادرة على تحويل التوصيات الناجمة عن مؤتمر برلين أو غيره إلى قرارات، وإضفاء مشروعية ليبية عليها قبل أن تتحطم طموحات من عولوا على نتائج هذا المؤتمر على صخرة فراغ تستفيد منه قوى متشددة لم تتوان عن الالتفاف حول غالبية المبادرات والمؤتمرات السابقة.

كان من الممكن البناء على تفاهمات أبوظبي الموقع عليها في فبراير الماضي، وتجاوز الكثير من المشكلات الحالية، لو أن حكومة الوفاق الوطني قبلت بتطبيقها على الأرض فورا ولم تتعمد التنصل منها. وهو التحدي ذاته الذي سيواجه أي تفاهمات أو اتفاقات جديدة. وعلى البرلمان سد الثغرات بصورة قانونية لمنع تنصل أي جهة منها.  

من الصعوبة إعادة هيكلة الحكم بعيدا عن أعضاء البرلمان المنتخبين مباشرة من الشعب. فإذا نظرنا إلى الأزمات التي تحيط بالمجلس الرئاسي نجده يعجز عن التحرك بمرونة وسط الضباب السياسي الذي يخيم عليه بعد أن وقع عدد من أعضائه في أسر تيار يؤمن بالدولة في الحدود التي تخدم توجهاته السياسية فقط، ويكفر بها بعد ذلك.

كما أن إخفاق مجلس الدولة الاستشاري في أن يصبح برلمانا موازيا يتحكم فيه مؤدلجون لا يعني أنهم سوف يتوقفون عن تكرار محاولاتهم لاحقا، ما لم ينتفض البرلمان الشرعي ويمارس دوره حصريا.

لذلك فلقاء القاهرة الثاني يعد نقلة نوعية مهمة في الشد من قوة الدور الذي يجب أن يقوم به البرلمان الفترة المقبلة، بما يتناسب مع مستوى التحديات المتعاظمة التي تفرض عليه طمأنة المواطنين بأن لديهم مؤسسة تستطيع التصدي لمن أمعنوا في توظيف الفوضى لخدمة مصالحهم، وأن الدولة الليبية يمكنها الوقوف على أقدامها مرة أخرى، خاصة إذا وجد البرلمان تأييدا شعبيا كاسحا، ورفضا قاطعا لكل من يعملون على نهب ثرواته وسلب إرادته.  

لعل التكاتف الواضح بين الجيش الوطني الليبي والبرلمان، يمنح الأخير ميزة نسبية كبيرة مقارنة بكل مناوئيه، تجعله يواصل الامساك بناصية الأمور السياسية وتفويت الفرصة على من يستغلون السيولة الراهنة في إطالة عمر الأزمة بشتى الطرق.

تكاتف يحتم التعاون والتنسيق بينهما بسهولة في ترتيبات مرحلة دقيقة تعمل الكثير من القوى الموجودة في السلطة على عدم تخطيها، خوفا مما يتلوها من مساءلة عسيرة لكل من أخطأوا في حق الشعب الليبي، وأمعنوا في ارتكاب جرائم كبدت البلاد والعباد خسائر باهظة، وتعمدوا تعطيل أي حلول سياسية واعدة.

وفي الوقت الذي أبدت فيه القيادة العامة للقوات المسلحة قبول التفاوض والانفتاح على الحل السياسي، لم تستطع حكومة الوفاق المستسلمة لرؤية تيار عقائدي شارد، القيام بخطوة موازية واضحة، وأصرت على البقاء في مكانها ومقاومة التغيير ووضع العراقيل في طريق العملية السياسية، ويستمر أعضاؤها وروافدهم في العصابات المسلحة وخارجها في جني المكاسب المادية، بينما يعاني غالبية المواطنين ويحرمون من مواردهم الطبيعية الكفيلة بتبديل حالهم.

على البرلمان التحرك لوقف نزيف المال العام، لأنه الجهة المنوط بها تشريع القوانين، والجهة التي تتحمل جانبا كبيرا من المسئولية الأخلاقية عن إهدار المال العام، طالما أن الجهات التنفيذية لم تحرك ساكنا ولم تقم بدورها في مكافحة الفساد وتصر على التملص من دورها الرقابي واستمرار العجز وعدم التصرف بإيجابية في التجاوزات التي ارتكبت ولا تزال.

على أعضاء البرلمان من مختلف المشارب السياسية والاجتماعية والمناطقية القيام بواجبهم الذي يفرضه عليهم الضمير الوطني، لأنهم في مفترق طرق، إما أن يعبرون ببلدهم إلى بر الأمان، أو يزداد الوضع القائم تعقيدا.