المستفيدون من تعويم الأزمة الليبية

تجتمع أطراف الحل في ليبيا على أن تبقى الأزمة تراوح مكانها.

كلما اقتربت الأزمة الليبية من تصويب مساراتها وتحقيق نجاحات إيجابية، تدخلت بعض القوى لتجعلها أشد غموضا وخلطا للأوراق، وكأن هذا التوجه مطلوب في حد ذاته، لأن الحل الذي يخدم مصلحة المواطن والدولة ويرمي إلى توفير الأمن والاستقرار لن يعجب من يقبضون على زمام أمور كثيرة في الداخل.

الحل المقبول لدى هؤلاء أن تظل الدولة مفككة، وتبقى حالة الفوضى عارمة، وتتداخل الخيوط السوداء مع البيضاء، ولا يستطيع أحد التفرقة بينها، كي يهيمن أمراء الحرب على الخزائن والعقول والقلوب، ويتمكن فايز السراج رئيس الحكومة من تهيئة الظروف التي تبقيه في السلطة لأطول فترة، ويستمر غسان سلامة مبعوث الأمم المتحدة في وظيفته المرموقة، وتستطيع الجماعات المؤدلجة الحفاظ على مكاسبها المادية والمعنوية.

السبيل الوحيد لتركيا وقطر والدول التي لها مآرب كبيرة في ليبيا أن يتواصل الصراع ولا يتوقف لحظة، وكل هدوء يطرأ على الأوضاع يبعدهم كثيرا عن أهدافهم، التي لم تعد خافية على من يتابعون الملف الليبي، وأدخلت البلاد في أزمات سياسية عديدة، لأن التصرفات أخذت أشكالا سافرة، وبدلا من التوقف عنها بذلوا جهودا مضنية للتغطية عليها.

عندما تم ضبط أنقرة متلبسة بإشعال المعارك وإرسال سفينة مليئة بالأسلحة في ميناء الخُمس الشهر الماضي، تجددت المعارك، ثم جرت محاولة اغتيال للضابط المسؤول عن التحقيق فيها لطمس المعالم الرئيسية للقضية، والتي جعلت تركيا توفد وزير خارجيتها إلى طرابلس لوأدها سياسيا بالتفاهم مع حكومة السراج من خلال المشاركة في التحقيقات ومنع الإعلان رسميا عن أدلة الاتهام ضد أنقرة.

الامعان في إغراق ليبيا بالسلاح لم يتوقف، وأعلنت سلطات الجمارك في مصراتة، الاثنين الماضي، ضبط حاوية جديدة تضم آلاف الأسلحة التركية كانت في طريقها للميلشيات، ما يؤكد أن السبيل للسيطرة على الأوضاع هو بقاء الانفلات.

الأمور تسير على هذا المنوال للتشويش على كل خطوة تستهدف المجرمين وداعميهم، فمنذ صدور القائمة التي قدمها النائب العام الليبي، وشملت شخصيات إسلامية لها علاقة بعمليات إرهابية، بينهم عبدالحكيم بلحاج زعيم "الجماعة الليبية المقاتلة"، ولم تهدأ وسائل الإعلام التابعة لتركيا وقطر، لأن اتهام هذا الشخص فتح جرحا غائرا، وتحاول كل منهما دفن القضية في مهدها قبل أن تجرف في طريقها رؤوسا كبيرة.

بلحاج والإخواني على الصلابي وبعض القيادات التشادية التي حوتها مذكرة النائب العام، يتنقلون بحرية بين اسطنبول والدوحة، ويعاملون كمسؤولين كبار في الدولة الليبية، وجمعتهم لقاءات رسمية في أماكن متفرقة، ولا يزال المجتمع الدولي صامتا حيال الاتهامات، مع أن المذكرة تتمتع باستقلال قضائي.

الفرصة القانونية التي أتاحتها هذه الخطوة من الممكن أن تكون ثمينة سياسيا، لو نجح المبعوث الأممي في توظيفها بحيادية، وقام بالاستفادة منها في تأكيد معاقبة قيادات الميلشيات على جرائمها في ليبيا وتوسيع القائمة التي تضم البعض من أسمائهم.

السيد غسان سلامة يصر على مقابلة الأمر بتجاهل غريب، لا يقل عن آخرين في الحكومة، كأن المذكرة التي خرجت بدون تنسيق سياسي مسبق مع السراج محكوم عليها بالفشل، بصورة تتلاقى مع رغبة أنقرة والدوحة، لأن فتح باب التحقيقات ووصولها لمداها النهائي يؤدي إلى تخريب مخططات يجري العمل على تنفيذها لمحو ملامح التسوية السياسية الحقيقية.

الأزمة الليبية كانت أقل حدة من نظيرتها في سوريا واليمن، لكن التدخلات العشوائية والممارسات السياسية العرجاء والإجراءات المتعسفة، وتوجيه بعض قسماتها نحو رؤى خاطئة، وضعها في نفق مظلم، بات الخروج منه يحتاج إلى سلسلة من العمليات القيصرية لتسريب الهواء النقي، ويستطيع من دخلوه قهرا أو بإرادتهم التفكير بشكل بعيد عن تبني أحكام مسبقة تخدم أطرافا بعينها.

الصورة التي تبدو عليها الأزمة من خلال الإجراءات التي تتبناها الحكومة والمباردات التي تطرحها جهات خارجية من حين لآخر، جعلتها قاتمة، وبدأت تبتعد مسافات كبيرة عما كانت عليه قبل أن تدخل قوى دولية مختلفة سباقا محموما للقبض على مفاتيح الحل والعقد، وهيأت مجالا للتنظيمات الإرهابية والمؤدلجة لتصبح رقما رئيسيا في معادلة الحكم والمعارضة.

المشكلة واضحة وطرق الحل يمكن أن تكون قريبة، غير أن المبعوث الأممي يصر على تنفيذ خطته المشوهة بعقد المؤتمر الليبي الجامع في أجواء ليست مواتية بالمرة، ويرفض الإنصياع لحجج وبراهين قطاعات ليبية كثيرة حذرته صراحة من أن التوجه الذي يتبناه محكوم عليه بالفشل، وكل نجاح يراه يصب في جعبة المتطرفين والكتائب المسلحة ومن يقفون خلفهم.

المؤتمر الجامع بالطريقة التي رسمها غسان سلامة لقريبين وبعيدين منه، لن يقدم حلا للأزمة، وسوف يدخلها في دوامة تبتعد عما جرى انجازه من تقدم في ملفات، مثل توحيد المؤسسة العسكرية، تعتبر جزءا أساسيا للتسوية التي تراعي البيئة والمكونات المجتمعية في ليبيا.

الضجيج الذي يحرص البعض على إثارته حول المؤتمر والترويج لقدرته على فك الألغاز الأمنية والسياسية، مفتعل ويريد خلق حالة جديدة من خداع ذوي النوايا الحسنة، وجذب الطامعين والمهمشين، والراغبين في قطع الطريق على وحدة البلاد، أملا في الحصول على دعم لخطة تبدو للعارفين بدهاليز ليبيا بمثابة فخ منصوب لشرعنة الميلشيات وتكريس حظوظ التيار الإسلامي مستقبلا.

السيولة الظاهرة في مكونات الأزمة ومنع التحامها بالواقع، وضعت ليبيا بين فكي رحى الكتائب والعصابات المسلحة من جهة، والمؤدلجين وأصحاب الميول المتشددة من جهة أخرى، وكل طرف يحاول زرع الألغام العسكرية والسياسية في أماكن متفرقة، ليتمترس داخلها ويمنع القوى الراغبة في السلام من اقتحامها، ليتم إجبارها على تقديم حلول تتناسب مع من قاموا بتلغيم الأرض تحت أقدام أصحابها.

الوصول إلى هذه النقطة لن يؤدي إلى نجاح أي رؤية جادة للتسوية، ويساعد على تمديد الأزمة، ويمنح من راهنوا على الوقت فرصة لتكريس وجودهم والاعتراف بهم، بدلا من نزع أظافرهم التي حفروا بها خنادق جلسوا فيها طويلا، حتى ارتاحوا لعملية القتال المستمر، وما لم يتم وقف الخطوات التي أفضت إلى تعويم الأزمة وردع المستفيدين منها، سوف يتواصل الدوران في حلقة عنوانها الظاهر المؤتمرات الوطنية، وعناوينها الخفية القبض على مؤسسات تخدم أجندات أجنبية وضد مصلحة الدولة الليبية.