المسرح السياسي المصري يتجسد في "خيبتنا"

محمد صبحي يراهن على أن لا يوجد تعارض بين الانتقاد والفن الجاد.

النشاط الفني العام الحالي في مصر، يؤكد أن هناك رغبة للاستفادة من تراكمات القوة الناعمة، والاصرار على نهضتها. ويبدو المشهد المسرحي أشد بريقا من الفنون الأخرى. ولا أعلم هل يتحرك وفقا لرؤية تقف خلفها جهة ثقافية واعية، أم جهود فردية تتماشى مع اجتهادات كثيرة تقدم ثمارا جيدة توحي بأن وراءها مؤسسة رسمية؟

الراجح أنها جهود فردية تظهر مثل الومضات من حين لآخر، وربما تحظى بدعم ضمني من وزارة الثقافة التي يقع على عاتقها دور استثمار المواهب من خلال ضرورة تبني مشروع وطني يتماشى مع الميراث الحضاري للفن المصري بفروعه المختلفة.

النشاط المسرحي، العام والخاص، يتزايد بصورة لافتة، وتتطرق فرق عدة إلى قضايا مهمة تمس وجدان الجمهور الذي يتفاعل معها ويقبل على مشاهدتها، قد لا تجرؤ جهات فنية على مناقشتها أصلا، ليس لوجود محاذير أو تضييق عمدي، لكن لأن الرقابة الذاتية تفوق كثيرا الرقابة الرسمية.

الهامش المتاح للإبداع لا يزال متسعا، حتى لو أراد البعض المبالغة في الحديث عن وجود ضوابط صارمة تحرم الفنون من حريتها وانطلاقها، والدليل عرض مسرحيات تمس الكثير مما يعتبره البعض محرمات سياسية.

مسرحية "خيبتنا" للفنان الكبير محمد صبحي، تعيد الجاذبية للمسرح السياسي في مصر، المصحوب بقدر وافر من الكوميديا الجادة، وتشير إلى أن الفنان الملتزم بهموم وطنه يستطيع أن يوجه انتقادات حادة لقضايا حيوية متباينة، دون اعتراض ظاهر من أي جهة رقابية، لأن المسرحية التي حملت اسما دالا (خيبتنا) حفلت باسقاطات كثيرة على الأوضاع الراهنة.

العرض الشيق الذي يقدمه الفنان محمد صبحي ومعه المخضرمة سميرة عبدالعزيز وعدد من الأسماء الواعدة، ينسي الجمهور عناء المشوار إلى مدينة سنبل على طريق مصر- اسكندرية الصحراوي. ويبدو الالتزام واضحا منذ دخول المسرح، فهناك حزمة من الضوابط فرضها صبحي على معاونيه، أهمها تسليم الضيوف الهاتف المحمول، وهو موقف يشعرك بالرهبة قبل مشاهدة العرض، وكأنك في لقاء مع مسؤول كبير.

الواقع أن هيبة المسرح وطقوسه المبالغ فيها أحيانا، تفرض عليك الاستعداد لرؤية عرض سياسي بامتياز. عرض يتطرق إلى كل شيء في مصر. ومع ظهور صبحي على المسرح وحديثه عن ممنوعات سياسية يعلن ساخرا إلغاء عرض المسرحية، وهو ما أدى إلى قلق ابنتي الصغيرة التي صدقته للوهلة الأولى، لأنها سمعته يجزم بالاعتذار عن العرض في ذلك اليوم، فلا يوجد موضوع يمكن تناوله بسهولة في ظل قائمة طويلة من المحرمات.

بعدها تكتشف أنه تم تناول ملفات سياسية كثيرة في مصر والدول العربية، تطرق لها العرض المسرحي بمرونة شديدة، ومن دون اسفاف أو سرقة الضحكات من الجمهور عبر نكات مفتعلة ومرتجلة، وجاء العرض نموذجا في الشكل والمضمون.

السلاسة التي ناقشت بها مسرحية "خيبتنا" هموم مصرية، مثل البطالة وإلغاء الدعم وحياة محدودي الدخل والديمقراطية واخفاق الكثير من سياسات الحكومة، تؤكد أنه لا يوجد تعارض بين الانتقاد والفن الجاد، بالعكس كل منهما يكمل الآخر، وهناك علاقة وطيدة مع الحرية يمكن استثمارها بصورة رشيدة.

الطريقة التي جرى بها تناول قضايا اقتصادية واجتماعية وسياسية عديدة، تضع على عاتق صبحي عبئا جديدا، لأنه فنان مشغول بوطنه وأمته، ولم تفصله المشكلات المصرية عن التطرق لبعض الأزمات العربية، في سوريا واليمن والعراق وفلسطين، ولم تمنعه من التهكم على حال الأمة العربية، وانشغالها بتكبيد الآخرين خسائر مدمرة قبل اهتمامها بتغيير أحوالها.

ربما يكون مشرط محمد صبحي وجد ملاذا في تكثيف جرعة الاهتمام بالحالة العربية الراهنة في الجزء الثاني من المسرحية التي امتدت لثلاث ساعات، لتسليط الأضواء على قضية التلاحم العربي وعدم التنصل منها، ومهما تصاعدت حدة الأزمات، فهي لن تؤدي إلى وضع فواصل وعراقيل بين المحيط والخليج.

إذا كانت الجوانب الفنية، من موسيقى وديكور وإضاءة وإخراج لها ناسها ونقادها، فإن استخدام شاشة عرض كبيرة على المسرح، مثل في نظري أحد عناصر الجذب المكملة، ولم تأت فقط كنوع من توفير النفقات، لكنها نقلت مشاهد الهلع الأميركي وتأثرهم بالفيروس العربي، المتمثل في العادات والتقاليد ونمط التفكير بصورة سيئة، بطريقة يصعب تجسيدها على المسرح بسهولة.

العرض يعيد فكرة القيمة للمسرح في مصر، ويردع من أدمنوا تقديم مسرحيات هزلية بلا هدف أو مضمون حقيقي، فهؤلاء لن يتذكرهم الناس، عقب انتهاء فقراتهم المبتذلة، والتي تنتزع الضحك وربما تتسوله، بينما تبقى العروض الجادة في العقل والوجدان، وهو ما راهن عليه محمد صبحي منذ فترة طويلة، ويحرص على التمسك به، ويقاوم محاولات التشويه التي جاءت بعده، وسيظل الحصان الرابح في كثير من السباقات المسرحية.

الميزة أن عرض "خيبتنا" يدعم الفن الجاد، وهو ما تجلى في ارتفاع نسبة الاقبال على المسرحية، والتي قد تحصل على جماهيرية تفوق مسرحيات صبحي السابقة، لأن "خيبتنا" يتم عرضها في أجواء عامة تبدو لفظت القضايا السياسية أو غير راغبة في مناقشتها، الأمر الذي يمنحها مكانة قد تحولها إلى قاطرة لعودة العافية للمسرح السياسي.

نجاح محمد صبحي في العزف على وتر ملفات موجعة، يجعل الآخرين يحسدونه، ويتشككون في أنه حصل على ضوء أخضر بمفرده، بينما الحقيقة أن فنانا ملتزما بقضايا الوطن مثله ليس بحاجة للحصول على تصريح من أي جهة رسمية، تملي عليه ما يقوله، لأنه عودنا بوعيه العميق وسخريته اللاذعة التعرض لملفات يعتقد كثيرون خطأ أنه من الصعوبة الوقوف عندها.

المسافة بين الانتقاد والتشهير واسعة. والمساحة بين الفن الجاد والهزل شاسعة. والعلاقة بين المسؤولية واللامسؤولية منعدمة. وهو ما يفسر تأثير المفردات الأولى (الانتقاد - الفن الجاد - المسؤولية) في الجمل الثلاث السابقة لفترات طويلة، في حين لا يقتفي أحد أثر المفردات الأخيرة في الجمل ذاتها.

لذلك سوف يبقى محمد صبحي فنانا صاحب بصمة على المسرح السياسي، وجاءت "خيبتنا" لتكرسه زعيما لهذا النوع من العروض الشيقة، وعسى أن يقتدي به البعض ويدركون أنه يمكن القفز على أية ممنوعات خيالية أو حقيقية.