المعادلة المصرية لإدارة العلاقات الخارجية

التوازن الذي تم تشييده على الصعيد الخارجي، مكن مصر من توثيق العلاقات مع جهات متخاصمة ومتنافسة.

مع أن العالم يموج بكثير من القضايا التي تستحق الوقوف عندها والكتابة عنها، غير أن القليل منها، يمكن تشريحه وتحليله في هدوء وعمق، ما يجعل الكاتب يواجه حيرة في اختيار الموضوع الجاد الذي يعتقد أنه يهم القارئ وقد يكون مفيدا له.

من بين القضايا المطروحة، يلفت الانتباه النجاح المصري في إدارة الملفات الخارجية، على قاعدة جيدة من التوازن، منحت الدولة قدرة كبيرة على إقامة علاقات مع دول في الشرق والغرب، والشمال والجنوب، وجنبتها الكثير من عوامل الابتزاز التي تمارسها القوى الكبرى، حال الارتهان لإرادتها، والاعتماد عليها بصورة تامة.

التجارب التي مرت بها دول عدة، أكدت أن التنوع في العلاقات السياسية، وتعدد مصادر السلاح، والانفتاح على قوى كثيرة، والحفاظ على مصالح الدولة قبل الشخاص، أحد أهم صمامات الأمان في الوقت الراهن، التي تقطع الطريق على من يريدون ممارسة ضغوطهم السافرة، لأن السيولة الطاغية على بعض القضايا جعلتها عرضة لمفاجآت ضارة.

الزيارة التي قام بها الرئيس عبدالفتاح السيسي لموسكو، يمكن وصفها بامتياز أنها تمثل نقلة حقيقية في العلاقة بين مصر وروسيا، وقد سبقتها زيارات عدة، لكنها ليست بهذه الأهمية الفائقة، فقبل وصول الرئيس السيسي بيومين، أصدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرسوما بتوقيع اتفاق حول الشراكة الشاملة والتعاون الاستراتيجي على أعلى المستويات مع مصر.

زيارة موسكو جاءت بعد وقت قصير من لقاء الرئيس السيسي مع نظيره الأميركي دونالد ترامب، على هامش اجتماعات الأمم المتحدة في نيويورك، وأكدت نتائجها أن العلاقات بين القاهرة وواشنطن عادت إلى مربعها الاستراتيجي، بعد أن تم التفاهم حول الملفات الخلافية ووسائل تجاوزها بصورة عملية.

التوازن الذي تم تشييده على الصعيد الخارجي، مكن مصر من توثيق العلاقات مع جهات متخاصمة ومتنافسة، ولم يقتصر على القوى الكبرى، وظهر بوضوح في طريقة التعامل مع كثير من الصراعات التي تنتشر في المنطقة.

من يمعن النظر في تفاصيل الأزمة السورية، يتأكد أن مصر البلد الوحيد الذي يملك علاقات جيدة مع النظام السوري وغالبية حركات المعارضة، ومن يدقق في القوى الإقليمية الفاعلة، يجد مصر محتفظة بعلاقات جيدة مع معظمها، ومن يتفحص في الدولة التي تحظى بقبول وافر من قبل اللاعبين، في الداخل والخارج، سيجد مصر أيضا، لأنها لم تنخرط في الصراع للانتقام من أو تصفية الحسابات مع أحد، واحتفظت لنفسها بمسافة ساعدت على الاستعانة بها في كثير من اتفاقيات الهدن التي جرى توقيعها في أقاليم مختلفة.

الموقف يكاد يكون قريب الشبه في الأزمة الليبية، التي تحتفظ مصر بعلاقات جيدة مع غالبية المنخرطين فيها، بدرجاتهم ومستوياتهم المتفاونة، سواء كانوا من اللاعبين الأساسيين أو الوكلاء في الداخل والخارج، من العسكريين والمدنيين، من القبائل والقوى السياسية، من الشرق والغرب والجنوب، من مؤيدي النظام السابق والمنقلبين عليه.

امتلاك مقومات مختلفة جعل الدور المصري حيويا للغاية، ومن الصعوبة تجاوزه عند الحديث عن التفاصيل وآليات التسوية المرغوبة، فإذا لم تكن القاهرة قادرة على الحسم بمفردها من المستحيل الوصول إلى الحل بعيدا عنها، الأمر الذي يفسر النشاط الدبلوماسي الذي تشهده مصر على مستوى الأزمة الليبية.

القياس يمكن أن يقودنا إلى التوازن مع كثير من الجهات، وحتى الأزمات الحرجة، كانت لمصر خصوصيتها في التعامل معها، ما مكنها من عدم الانجرار وراء من حاولوا استفزازها، والضغط عليها لفقدان حلمها وصبرها، والتصرف بشكل يؤدي إلى مزيد من السخونة.

المفهوم الإيجابي الذي تم من خلاله إدارة العلاقة مع دولة مثل إثيوبيا يعبر عن أهمية التريث الاستراتيجي، ومغزى ضبط النفس، فماذا لو جرى الانسياق وراء دعوات التصعيد مع أديس أبابا، بعد أن انطلقت عبارات غير مسؤولة تشي بالابتعاد عن الثوابت التاريخية التي تحكم العلاقات بين البلدين؟

لا يزال البعض يمتعضون من التحسن الواضح، ويتعمدون ترديد بعض المواقف السلبية التي ظهرت في أوقات سابقة من قبل قيادات مصرية، بغرض الدعاية أو الحسم أو الغباء السياسي، ويعيدون التذكير بها كدليل على عدم حسن النوايا المصرية تجاه الدولة الإثيوبية.

المكاسب المعنوية التي تحققت من وراء تغليب التوجهات السياسية الرصينة على غيرها، تفتح الباب أمام الحصول على مزايا مادية في مشروعات تنموية واعدة، وإمكانية التوصل إلى تفاهمات عملية لحل أزمة سد النهضة.

إذا قمنا بمد الخيط على استقامته، سنجد النتيجة نفسها تقريبا مع السودان، وقت أن جرى افتعال بعض الأزمات، ومحاولة جهات داخلية وخارجية النفخ فيها، لكن الحكمة قضت أيضا بضرورة تغليب الحلول السياسية.

النجاحات الظاهرة في إدارة السياسة الخارجية، جنبت مصر الدخول في أزمات كثيرة، في وقت كانت تسعى فيه قيادتها إلى إعادة تصويب المسارات الخاطئة، وتصحيح العلاقات مع دول اتخذت موقفا سلبيا من ثورة 30 يونيو 2013.

الأهم أنه يتم ترسيخ معالم منهج صاعد في العلاقات الدولية يتعلق بإعادة تعريف عدم الانحياز. فعندما صعد هذا المفهوم، خلال حقبتي الخمسينات والستينات من القرن الماضي، كان معبرا عن كتلة سياسية تريد أن تكون غير منحازة لأي من القوتين العظميين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق، بينما غالبية الممارسات عبرت عن انحياز فاضح لإحدى القوتين.

اليوم الفكرة تتطور وتحاول بعض الدول بلورة مفهوم خاص يجنبها المشاكل الناجمة عن الانحياز لجبهة أو كتلة أو دولة معينة، وحتى التحالفات الاستراتيجية لم تعد منغلقة، بمعنى لا تلغي الخلافات ولا تمنع تمديد العلاقات مع قوى منافسة أو مناوئة.

علاوة على أن المواقف التي تتخذ في الأزمة الواحدة باتت متحركة وغير جامدة، فمن الممكن لقوة أن تكون مؤيدة لطرف في جزء من الأزمة ومختلفة في جزء آخر. لعل الأزمة السورية كاشفة عن هذه الدلالة. فروسيا حليفة لإيران تريد البحث عن وسيلة لخروج طهران من سوريا. وواشنطن المنزعجة من تدخل موسكو، وجدت نفسها مضطرة للتفاهم معها حول بقاء الرئيس بشار الأسد.

تفاصيل النموذج السوري تبدو كاشفا لأهمية المعادلة المصرية في إدارة العلاقات مع القوى والقضايا المختلفة، وتؤكد أن التوازن عملية مطلوبة، وعدم الافراط في الخصومة والصداقة، والقرب والابتعاد، والتحالف والشقاق، أحد أدوات ضبط السياسة الخارجية في العالم اليوم.